الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصحيحا للرافعي والنووي -شيخي المذهب- في مسألة المُحرِم الذي يضيق عليه وقت الوقوف بعرفة ولم يكن صلى العشاء، ولا يتسع الوقت الموجود لديه إلا لأداء فرض العشاء، فلو اشتغل بها لفاته الوقوف.
هذه المسألة، نَسبَ البلقيني فيها للرافعي والنووي اتفاقهما على تصحيح أن هذا المُحرِم يُتمّ صلاته وإن فاته الوقوف بعرفة.
وقد تبيّن بالرجوع لكتب الشيخين الرافعي والنووي، وكذلك كتب غيرهما من محققي الشافعية اللذين نقلوا المسألة عنهما: أن ما نَسبه البلقيني إليهما من اتفاقهما معًا على تصحيح هذا الوجه، ليس كذلك؛ بل هو صحيح بالنسبة للرافعي؛ أما النوويّ فتصحيحه يختلف عن تصحيح الرافعي (1).
سابعًا: مزايا الكتاب:
1 -
من أعظم مزايا الكتاب وخصائصه: أنَّه من الكتب الوحيدة -في حدود ما اطُّلع عليه إلى الآن- التي تعتبر تحشية وتعليقًا على قواعد ابن عبد السلام (2).
2 -
من أهم مزايا الكتاب أنَّه يعدّ مرجعًا لتحرير مذهب الشافعية في المسائل الفقهية التي كان الشيخ ابن عبد السلام تطرّق لها، ومن ثَمّ علّق عليها البلقيني في مناقشاته لها.
(1) يُنظر التفصيل في موضعه من الكتاب في التعليق على (النص رقم 50).
(2)
ينظر مقدمة الطبعة المحققة لكتاب قواعد الأحكام 1/ 52 م (ط. دار القلم) بتحقيق الأستاذين الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، فقد أفادا أن صاحب (كشف الظنون) -وغيره- ذَكَر بعض الكتب التي تعتبر بمثابة شروح ونُكت على (قواعد الأحكام).
ولكن تلك الكتب هي مجرد أسماء، لم يمكن الوقوف عليها بعدُ، ولذا يُعتبر كتاب البلقيني هذا:(الفوائد الجسام) وحيدًا -على الساحة إلى الآن- في التعليق على كتاب الشيخ ابن عبد السلام.
والشيخ ابن عبد السلام وإن كان من أجلة أئمة الشافعية، إلا أن البلقيني يُعدّ أيضًا من الأساطين الذين جاؤوا بعده، وكان ممن يُعوّل، عليه ويُرجَع إلى أقواله وتحريراته فيما يُعتمد في المذهب الشافعي، ولهذا نرى محققي علماء الشافعية المتأخرين كالشيوخ: زكريا الأنصاري، وابن حجر الهيتمي، والخطيب الشربيني، والشمس الرملي، وأمثالهم، يكثُر عندهم ورود اسم (البلقيني) مقرونًا مع أسماء أعلام آخرين من أهل المذهب، ممن يُعوّل عليهم في معرض الترجيح والتصويب والتحرير والتنقيح للمسائل الخلافية في المذهب.
ولهذا فإن ما يحرّره البلقيني هنا على كلام الشيخ ابن عبد السلام فيما يتعلق بمسائل المذهب الشافعي، له وزنه وقيمته بالنظر إلى ما ذُكر من مكانة البلقيني في المذهب.
ومما يتصل بهذه الميزة ويعزّزها أن الناسخ (وهو تلميذ البلقيني) يحكي في عدد من المسائل اختيارات شيخه البلقيني، فيقول مثلًا:(اختار شيخنا) أو (مختار شيخنا) وهكذا (1).
ويلمح القارئ في بعض تلك المختارات البلقينية، نظرات مستجادة ولفتات بارعة في فقه النصوص وحِكَمها وأسرارها.
- فمن ذلك مثلًا: أن الشيخ ابن عبد السلام جعل النهي عن بيع الغرر من أجل قاعدة اعتبار الرضا (النص 597).
فكتب عليه الناسخ أن اختيار شيخه البلقيني: أن النهي عن بيع الغرر لقطع النزاع، لا لِما ذكره الشيخ ابن عبد السلام من قاعدة اعتبار الرضا.
- وفي (النص 623) ذكر الشيخ ابن عبد السلام أن من قدر على استيفاء
(1) ينظر مثلًا النصوص: 501، 515، 530، 551، 567، 626، 630، 633.
حق فله استيفاؤه، إلا القصاص فإنَّه لا يُستوفى إلا بحضرة الإمام لأنَّ الانفراد باستيفائه محركٌ للفتن.
لكن الشيخ ابن عبد السلام استثنَى بعد ذلك صورة يجوز فيها استيفاء القصاص بدون حضرة الإمام، وهي أن المجني عليه، أو الوليّ المقتصّ: لو اقتص من الجاني على انفراده بحيث لا يُرى، فينبغي أن لا يُمنع منه، ولا سيّما إذا عجز عن إثباته.
فكتب الناسخ على هذا نقلًا عن شيخه البلقيني: أنه اختار أنه يُمنع استيفاء القصاص مطلقًا إلا بحضرة الإمام سدًّا للباب، خشية زيادة التعذيب.
3 -
مما يمكن أن يُدرج ضمن ميزات البلقيني في تعقباته على الشيخ ابن عبد السلام: تدقيقه النظرَ في استدلالات الشيخ بالنصوص، وخصوصًا ما يتعلق باستدلالاته بالأحاديث.
أ- فمن ذلك مثلًا: أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر أن كبائر الذنوب تتفاوت درجاتها، واستدل لذلك بحديث (إن من الكبائر أن يَشتم الرجلُ والدَيْه!)(النص رقم 13 من هذا الكتاب).
ووجه استدلال الشيخ بهذا الحديث على ما يريده من تفاوت درجات الكبائر، ما وضّحه هو نفسه بعد إيراد الحديث، أنَّه:(جَعَل صلى الله عليه وسلم التسبب إلى سبّهما من الكبائر، وهذا تنبيه على أن مباشرة سبّهما أكبرُ من التسبب إليه). انتهى كلامه.
لكن هذا الاستدلال من الشيخ، لا يخلو عن غموضٍ وبُعدٍ!
وأسهلُ منه وأقربُ ما فعله البلقيني في تعليقه على كلام الشيخ، بأنّه كان الأولى بالشيخ أن يَستدل لهذا الغرض بحديث (قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:(أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك). قال: ثم أيٌّ؟ قال:
(أن تقتل ولدك مخافة أن يَطعَم معك). قال: ثمَّ أيّ؟ قال: (أن تُزاني حليلة جارك).
وكما نرى فإنَّه حديثٌ مباشرٌ واضحٌ في إثبات ما كان يريده الشيخ ابن عبد السلام، من تفاوت درجات الكبائر.
ب- ومثالٌ آخر لتدقيق البلقيني النظر في استدلالات الشيخ ابن عبد السلام، ما يتعلق بالنص رقم 230.
وتوضيحه أن الشيخ ذكر فيه أن الربّ سبحانه قد يَعذِرُ مَن اشتدّتْ شهوتُه، وغلبتْه نفسُه على المعصية، ما لا يَعذِرُ من خفّت شهوته، وضعُفت دواعيه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة. . . شيخٌ زان، وسائل مستكبر، وملِكٌ كذّاب).
ثمَّ أورد الشيخ ابن عبد السلام حديثًا آخر للاستشهاد على هذا المعنى، وهو حديث:(إن آخِرَ من يخرج من النار، يعاهد ربَّه إذا أعطاه سؤله، لا يسألُه غيرَه، فإذا سأله غيرَه، ذَكَّره بغَدره (1) إلى أن قال: (وربُّه يعذِرُه لأنه يرى ما لا صبرَ له عليه).
استشهد الشيخ بهذا الحديث لتأييد ما ذكره من إعذار الله لمن تشتدّ الدواعي عنده لفعل أمرٍ من الأمور، بما لا يُعذِر من كان على خلاف ذلك، بأن كانت الدواعي عنده ضعيفةً خفيفةً. ووجه انطباق الحديث على هذا المعنى -في نظر الشيخ- هو ما وضّحه بقوله (فعَذَره لشدة الداعي إلى الغَدر)(2).
(1)(بغَدره) أي عدم وفائه بعهده أن لا يَسأل اللهَ غير ما سأله أولًا. وهذه الكلمة في الحديث تشتبه بلفظ (يَعْذره)؛ لذا لزم إيضاحها.
(2)
المقصود بشدة الداعي إلى الغدر، أن هذا العبد حين يرى بعد كل سؤال، أن ما كان =
ولكن كما يرى القارئ الكريم، فإن استدلال الشيخ بهذا الحديث على ما يريده، بعيدٌ. وهذا ما لحظه البلقيني فعقَّب عليه بقوله:
(ما استدل به من قوله صلى الله عليه وسلم (وربُّه يعذِرُه): لا يتوجّه، من حيث إنه لا يصح الاستدلال بأمور الآخرة على أمور الدنيا) (1).
4 -
يتحلى البلقيني -كعادة علماء السلف- بالإنصاف العلمي في تعليقاته.
أ- فمن ذلك أن الشيخ ابن عبد السلام قد يذكر شيئًا بدون إيراد الأدلة، فيعقّب البلقيني على الشيخ برأيٍ مخالفٍ لكلامه، لكنه مع ذلك إن رأى أن هناك أدلة تؤيد كلام الشيخ، فإنَّه يذكرها، إنصافًا له، رحمه الله.
فمثلًا: جاء في كلام الشيخ ابن عبد السلام في النص رقم 145 فيما يتعلق بما يؤجَر المكلف على قصده دون فعله، أنَّه:(إنْ كَذَبَ الظنُّ، بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن، أُثيب المكلف على قصد العمل بالحق، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ، ولا ثواب على الخطأ).
هذا ما قاله الشيخ بدون أن يورد له شيئًا من الأدلة، فعلّق عليه البلقيني بأن الرأي المختار، خلافُ ما ذكره الشيخ، لكنه أردف ذلك بذكر دليلٍ من النص الحديثي يؤيد ويشهد لرأي الشيخ، فقال:
(. . . ولكن يشهد لِما قَعَّده الشيخ، قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص:
= سأله سابقًا هو أقل وأدنى بكثير مما يرى أمامه من النعيم المستقبلي، فلا يصبر على السكوت، بل تشثد اللوعة عنده لسؤال النعيم التالي، فيرجع عن عهده السابق في كل مرة -وهو المعبر عنه بالغَدر- ويُقدِم على سؤال الله تعالى أن يرزقه النعيم التالي، وهو معذورٌ في ذلك فعلًا، ولهذا يعذره الله في كل مرة، لأنه سبحانه أعلمُ بحاله الذي يحمله على عدم الوفاء بعهده في مثل ذلك الموقف.
(1)
ومن الأمثلة الأخرى لهذا العنصر (وهو كون البلقيني يدقق النظر في استدلالات الشيخ) ما في النصوص: 97، 142، 563، 582.
(اقضِ على أنك إن أَصَبتَ، كان لك عشرُ حسنات. وإن أخطأتَ، كان لك حسنةٌ واحدة)، الحديث. رواه الدارقطني وغيره. وله قصة). انتهى.
ب- ومن إنصاف البلقيني، أنَّه قد يرى أن كلام الشيخ ليس بمسلَّم، فيتعقبه ويستدرك عليه! ثمَّ يرى أن تعقيبه هو نفسه، محلُّ نظرٍ أيضًا، فيُنصِف الشيخَ من نفسه، ويصرّح بكل إنصاف بذكر ما ظهر له من وجه النقد في كلامِ نفسِه!
فمن ذلك مثلًا أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر (في النص 71)(أن من وجد أموالًا مغصوبة، فإنْ عَرَف مالكيها فلْيَرُدّها. . . فإن يَئس من معرفتهم، صرفها في المصالح العامة).
وقد استدل الشيخ لذلك بأدلةٍ من النصوص القرآنية والحديثية، إلا أنها لم تكن ناهضةً -في رأي البلقيني- لإثبات هذا المعنى، فتعقّب البلقيني استدلالاتِ الشيخ تلك، ذاكرًا حديثين آخرين يراهما أولى من أدلة الشيخ، ولكن ظهر للبلقيني أن أحد هذين الحديثين، ما يزال غيرَ تام في دلالته على المعنى المراد، بل هناك فرقٌ بينه وبين الموضوع محلّ البحث (وهو موضوع الغصب).
فصرّح البلقيني بهذا الإحساس والخدش المتعلق بهذا الحديث، ولم يسكُت إيهامًا للقارئ بأن الحديث تمت به الحجة على الشيخ ابن عبد السلام، بل أردف ببيان محلّ النظر فيه، بما يجعله هو الآخَر غيرَ ناهضٍ للاستدلال به -في نظره- في محلّ البحث، وكان كل ذلك من البلقيني رحمه الله إنصافًا وانتصافًا من نفسه تجاه الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله.
5 -
من محاسن منهج البلقيني في هذا الكتاب: ما يسمى بـ (أخلاقيات النقد) تجاه الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله.
فنراه حين يتعقّب الشيخ ابن عبد السلام ويَنتقد عليه كلامه، يختار