الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي سنة 833 شهيدًا بالطاعون، بدَرب شَهيدة بالقاهرة. قال السخاوي:(فوُلِد بدَرْب شُهْدة، ومات بدَرب شَهيدة، ودُفن بحوش سعيد السعداء. . . رحمه الله وإيّانا).
ب- مشاركات الناسخ العلمية في هذا الكتاب:
هذا العنوان، دعاني إليه، ما استوقفني في أثناء خدمة الكتاب من بعض العبارات التي يظهر من خلال أسلوبها ولهجتها أنها إضافاتٌ على كلام البلقيني من طرف غيره. فإذا كان الكتاب من إملاء البلقيني، فمن يكون يا ترى مصدر هذه الإضافات؟
هذا ما كان استوقفني، ثمَّ خطرتْ ببالي إجابةٌ عنه، وهو أنَّه يبدو أن هذه الإضافات: هي من طرف الناسخ الذي هو تلميذ البلقيني والمتلقّي عنه لهذا الكتاب، فكأنه كان ينقل كلام شيخه البلقيني، ثم يضيف إليه شيئًا من عنده، ولكن بما أنه لا يميز كلامه عن كلام شيخه البلقيني، ولا يخص نسبة ما ذكره إلى نفسه، فقد يُفهم أن الكلام كله للبلقيني، ولكن المتأمل في السياق يجد أن هناك شيئًا مضافًا من عند الناسخ على كلام البلقيني، فكأن الناسخ لم يقتصر هنا على مجرد نقل أو حكاية كلام شيخه البلقيني، بل يشارك هو أيضًا بنظراته ومرئياته، ويُضفي من طابَعه ورُوحه العلمية ما يتراءى له حول ما نقله من كلام شيخه.
ومما جعل هذه الخاطرة تترجح عندي، ما رأينا في ترجمة الناسخ عن مكانته العلمية، فليس هو مجردَ ناسخٍ كاتبٍ، بل هو ناسخٌ عالمٌ جيّدُ العلم. فلا شك أن مثله لا يكاد يمرّ على معلومة علمية إلا ويدقّق فيها، ويُبدي ما عنده من الرأي حولها.
إذًا فليس هذا الكتاب صادرًا عن البلقيني وحده، بل نجد فيه شيئًا من
(بصمات الناسخ) أيضًا، وهو ما قصدتُ إبرازه بهذا العنوان (مشاركات الناسخ العلمية).
وعلى هذا فالكتاب، بالإضافة إلى ما سبق من كونه ثمرات فكر الشيخين ابن عبد السلام والبلقيني، تزداد قيمته العلمية بما انضم إليه من مشاركات علمية جيدة لهذا الناسخ العالم تقي الدين يحيى ابن العلامة الشمس الكرماني.
وفيما يلي بعض الأمثلة، التي تشفع لي في صحة ما استظهرتُه:
فمثلًا: جاء في النص 234 نقلُ البلقيني عن الشيخ ابن عبد السلام: أنه لم يقف على ما يُعتمد على مثله في المفسدة التي اقتضت جعل الربا من الذنوب الكبائر.
فعلق عليه البلقيني بما ظهر له من تلك المفسدة التي كانت سببًا في كون الربا في نظر الشرع من الكبائر.
وبعد هذا استأنف الناسخ الكلام في الموضوع نفسه كما يلي:
(واختار شيخنا (أي: البلقيني) أن الذي يكون من الربا كبيرةً، إنما هو (ربا الفضل) لقوله في الحديث:(فمن زاد أو استزاد فقد أَربَى)، إذ في الحديث أنواعٌ من الربا، ولم يُخصّ بالذكر إلا (ربا الفضل). لكن ظاهر قوله:(لعن الله آكِلَ الربا ومُوكِلَه) يقتضي التعميم. انتهى).
فمن الواضح من سياق هذه الفقرة، أنها مضافة من طرف الناسخ.
والذي يؤكّد ذلك، ما علّقه على رأي شيخه في هذه المسألة، في آخر هذه الفقرة، حين قال:(لكن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكِلَ الربا ومُوكِلَه) يقتضي التعميم). ويعني الناسخ بهذا: أنه لا فرقَ في كون الربا من الكبائر، بين أن يكون ربا الفضل أو ربا النساء، وأن ما ارتآه شيخه البلقيني من هذه
التفرقة وتخصيص الوعيد بربا الفضل فقط، يخالف تعميم وإطلاق نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الواضح أن أسلوب هذا التعقيب (وهو قوله: (لكن ظاهر قوله
…
" لا ينسجم أن يكون صادرًا من البلقيني، إذ كيف يصح أن يتعقب هو بنفسه على نفسه؟
وتعقيب الناسخ هذا على شيخه البلقيني، يدل على أنه يتمتع بتدقيق النظر وتمحيص الفكر فيما ينقله عن شيخه البلقيني من الآراء.
مثال آخر مما يدل على مشاركة الناسخ العلمية:
النص 265: جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام أن التوبة لها أركان: الندم، والعزم، والإقلاع.
هذا الرأي للشيخ ابن عبد السلام، علَّق عليه البلقيني كما نقله عنه تلميذه الناسخ، هكذا:
قال الناسخ: (قال شيخنا (أي: البلقيني): الأقرب عندي أنَّه لا يعتبر في التوبة إلا الندم فقط، ويلزم منه الإقلاع والعزم أن لا يعود، وإلا فلا يكون ندمًا نافعًا، ومن ثَمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الندم توبة)
…
وهذا دقيق). انتهى.
فكلمة: (وهذا دقيق) في آخر هذا التعليق، يُستشف من أسلوبها، أنها جاءت على لسان هذا الناسخ، ثناءً واستحسانًا منه على ما أبداه شيخه من الرأي في حقيقة التوبة والركن الأساسي فيها، وهو أنها ندمٌ!
ومقصود البلقيني أنه عند ما يصدُق هذا الندم عند التائب في توبته، سيَتْبعه تلقائيًّا الإقلاعُ عن الذنب والعزمُ على عدم العود إليه، فإذًا لا حاجة -في نظر البلقيني- إلى إضافة تلك الأركان الثلاثة في ماهية (التوبة)، بل يكفي الاقتصار على أنها (ندمٌ).
وعلى هذا، فتعقيب الناسخ على رأي شيخه هنا، أنَّه دقيق، هي مشاركة
علمية منه، تدل على مقدرته العلمية الجيدة التي تُمكّنه من المفاضلة بين الآراء العلمية واختيار بعضها على بعض. والله أعلم.
ومما يشير إلى مشاركات الناسخ العلمية في الكتاب:
النص رقم 606: فسياق التعبير فيه في التعليق على كلام الشيخ ابن عبد السلام، يشير إلى أنه مصوغ على لسان الناسخ.
وكذلك النص رقم 601: جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (من لا يملك تصرفًا، لا يملك الإذن فيه. ويستثنى من ذلك: المرأة، فإنها لا تملك النكاح، وتملك الإذن فيه).
فقد نبه الناسخ في التعليق على هذا النص: أن شيخه البلقيني استثنى استثناءً آخرَ سوى الذي ذكره الشيخ ابن عبد السلام.
ثم جاء بعد ذلك سياق الكلام هكذا: (ومن فروع المسألة
…
) حيث نقل الناسخ استشهادًا بفرعٍ منقول من (الروضة) للنووي، يُعتبر نظيرًا للمسألة المستثناة التي ذكرها الشيخ ابن عبد السلام، مع مناقشة هذا الفرع.
فسياق التعبير وأسلوبه في إيراد هذا الفرع النظير، يبدو أنه إضافة من الناسخ. والله أعلم.
إن ما سبق من الأمثلة، يُعدّ نموذجًا لقسمٍ من مشاركات الناسخ، وهي التي تتمثل في مشاركاته العلمية في صلب نصوص الكتاب نفسها.
وهناك نموذجٌ لقسمٍ آخر من مشاركاته العلمية، وهي التي تظهر فيما كان يكتبه من تعليقاتٍ جانبية -في هوامش المخطوط- على كلام شيخه البلقيني، والتي تنبئ أيضًا عن مقدرته العلمية الجيدة، واستيعابه لما يُورده شيخه من المضامين في هذا الكتاب، وإبداء ما يتراءى له حولها من الأنظار العلمية.
فمن ذلك مثلًا:
جاء في النص رقم 246 قول الشيخ ابن عبد السلام: (لأن تطهير الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه).
فعلّق عليه البلقيني بقوله: (يقال على هذا: فيه تجوّز من جهة أن النجاسة لم تَرِد على الحيوان المأكول إلا بعد موته من غير ذكاة. ولعله أراد أن الحيوان يَحرُم حتى يُذكَّى، فكأنه قال: (لأن تحليل الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالماء). انتهى كلام البلقيني.
وعلّق الناسخ -في هامش المخطوط- أمام كلام شيخه هذا، بتأييده بأنه هو المراد، ثمَّ أتى لذلك بنظير أورده البخاري في صحيحه من قول أبي الدرداء رضي الله عنه معلَّقًا -:(ذَبَح الخمرَ النِّينانُ والشمسُ).
وهو تعليق يدلّ على دقة الفهم وسرعة البديهة لدى الناسخ، بحيث تمكّن من استحضار نظيرٍ -من صحيح البخاري- يؤيد ما قاله شيخه البلقيني في توجيه كلام الشيخ ابن عبد السلام. ولا يكفي في مثل هذا المقام أن يكون الشخص مجردَ حافظٍ للنصوص والروايات الحديثية فقط، ما لم يكن لديه بصيرة علمية جيدة، ووعيٌ دقيق في فقه تلك النصوص، تُمكّنه من إيرادها والاستدلال بها في مواضعها الصحيحة.
ومن ذلك أيضًا:
ما في النص رقم 139 الذي جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (وذلك كمن يطأ جاريةً بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء، فيجب الإنكار عليه).
والعبارة هكذا، محل إشكال كبير، كما لا يخفى! إذ كيف يباح وطء الجواري بالإباحة، على مذهب عطاء (وهو ابن أبي رباح)؟
ولاستبعاد هذا الإشكال، عَلَّق الناسخ في هامش المخطوط أمام هذه
العبارة، ببيان حقيقة مذهب هذا التابعي الجليل، فكَتَب هكذا:(ومذهبه أن إعارة الجواري للوطء جائز).
وهو توضيحٌ في غاية السداد والإجادة، وحُسنُ تصرف من الناسخ، وإلا لكان يُظن بمثل هذا التابعي الجليل، ما ليس بمرادٍ له.
ومثال ثالث من تعليقات الناسخ العلمية:
جاء في النص رقم 311 قول الشيخ ابن عبد السلام: (وقد أَطلق بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه، أنَّه يُستحب الخروج من الخلاف حيث وقع
…
).
فعلّق الناسخ أمام هذا في -هامش المخطوط- ببيان المراد ببعض أصحاب الشافعي، فكَتَب:(هو ابن أبي هريرة (1)، أطلقه في تعليقه).
ومن ذلك أيضًا: أنَّه جاء في كلام الشيخ ابن عبد السلام في النص رقم 430 كلمة (جمع الحاج). فرأى البلقيني أنها خطأ، وأن صوابها:(جميع الحاج).
هذا ما رآه البلقيني فيما يتعلق بالصواب والخطأ في هذه الكلمة. ولكن الناسخ علّق -في الهامش- على كلام شيخه، بأن تخطئة شيخه لهذه الكلمة جاءت بناء على أنه رآها هكذا في النسخة التي كانت بيده من (قواعد الأحكام)؛ وإلا فإن الناسخ قد رآها في نسخة أخرى من (قواعد الأحكام) على الوجه الآخر الصواب الذي كان يريده شيخه البلقيني فيها، أي: بلفظ (جميع الحاج)، ولهذا يرتفع إيراد شيخه في تخطئة هذه الكلمة.
هذه المشاركات العلمية للناسخ، سواء في صلب نصوص الكتاب، أو في هوامش المخطوط، تُعرِّفنا بما أشار البلقيني فيما كتبه عن تلميذه هذا في
(1) وهو أحد أئمة الشافعية. ينظر التفصيل في موضع هذا النص داخل الكتاب. وينظر لتعليقات الناسخ الأخرى في هوامش المخطوط: النصوص 402، و 430، و 492.
آخر النسخة المخطوطة، أنه كانت له مباحثات في أثناء قراءة هذا الكتاب عليه، وأنه غاص في ذلك، وحَقَّق، ودَقَّق (1).
فكل ذلك يفيد أن الناسخ لم يكن مجرد قارئ، بل كان يباحث شيخه البلقيني، ويحقق معه ما يمليه عليه من مضامين هذا الكتاب، ومن ثَمّ كان يشارك بمرئياته ونظراته العلمية حسب ما تتبدّى له.
وبالجملة، فالذي خَلَصتُ إليه من خلال العمل في هذا الكتاب، أن يقال -في نهاية هذا العنصر المتعلق بمشاركات الناسخ العلمية-: إن أصل مضامين الكتاب وإن كانت إملاءً من البلقيني رحمه الله، فمع ذلك يبدو أنَّه كان للناسخ أثرٌ ومشاركةٌ في استيعاب تلك المضامين من شيخه، ثمَّ في عرضها وصياغتها والتعبير عنها على الصورة التي بين أيدينا من هذا الكتاب.
وبهذا لا حرج أن يقال: إن نِتاج مادة هذا الكتاب على الوجه الموجود بين أيدينا: لعله لم ينفرد به البلقيني، بل شاركه فيه، وشَدّ عضُدَه: تلميذُه الناسخ العالِم تقي الدين يحيى ابن العلامة شارح البخاري الشمس الكرماني. والله تعالى أعلم.
(1) ويستفاد هذا أيضًا مما كتبه البلقيني بخطه في موضع من النسخة، وهو قوله عن الناسخ: (بلغ قراءة وتحقيقًا. . . الشيخ تقي الدين الكرماني
…
).