الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
أسباب استشكالِ الأحاديثِ النَّبويَّة
لا شَكَّ أنَّ استشكالَ النّص الشَّرعي بعامَّةٍ راجع إلى أسبابٍ مَوضوعيَّة كثيرةٍ، مردُّهما إلى أصْلَين رَئِيسين، هما: الغلطُ في الفهمِ، والغلَط في ثبوتِ النَّص.
وإليهما أشارَ ابن تيميَّة في قولِه: « .. إمَّا فسادُ دلالةِ ما احتجَّ به مِن النَّص، بأنْ لا يكون ثابتًا عن المعصوم، أو لا يكون دالًّا على ما ظَنَّه، أو فساد دلالة ما احتجَّ به مِن الميزان بفسادِ بعضِ مُقدِّماتِه أو كلِّها»
(1)
.
الفرع الأوَّل: السَّبب الأوَّل لاستشكال النُّصوص: الغَلَط في الفَهْمِ.
حُسن الفهم عن الله ورسولِه أصل كلِّ استقامةٍ وهدايةٍ في الدِّين والدُّنيا، وسوء الفهم عن الله ورسولِه، سببُ كلِّ انحرافٍ وضلالةٍ نشأت عبر عصورِ الإسلام؛ ومُعظم الفِرق الضَّالة، والجماعات البدعيَّة، إنَّما أهلكها سوء الفهم عن الله، فإذا انضمَّ إليه سوء القصد، صار حالقةً للدِّين بالتَّحريفِ والتَّبديل.
ولابن القيِّم كلمةٌ مضيئةٌ في ضرورةِ حسن الفهمِ لسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحضُّ فيها على أن يُفهَم عن الرَّسولِ مُراده، من غير غُلوٍّ ولا تقصير، فلا يُحمَل كلامُه مالا يحتمله، ولا يقصَّر به عن مُراده وما قَصَده مِن الهدُى والبَيان.
(1)
«الرد على المنطقيِّين» لابن تيمية (ص/373).
(1)
.
وسُوء الفهم الَّذي نعنيه هنا ينقسِمُ إلى قِسمين، أو يشمل نِطاقَين:
الأوَّل: غَلَطٌ في فهمِ الحديثِ المُعارَض.
والثَّاني: غَلَطٌ في فهمِ الأصلِ المُعارَض به.
القِسم الأوَّل: الغلط في فهمِ الحديثِ المُعارَض:
وذلك أنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ يُشكِلون على أحاديث لا يَفهمونها على وَجهِها، فيَحملونها على غير مُرادِ المُتكلِّم بها، ومِن ثَمَّ يُعارِضونها بدليلٍ آخرَ مُخالفٍ في حقيقتِه لفهمِهم ذاك للحديث؛ فتارةً يكون سوء الفهمِ هذا لغرابةِ اللَّفظِ في المتنِ، وتارةً لاشتباهِ المعنى بغيرِه، وتارةَّ لعدمِ التَّدبُّر التَّام، وتارةً لشُبهةٍ في نفسٍ الإنسانٍ تمنعه مِن مَعرفةِ الحقِّ
(2)
.
وعليه، كان من أعظمِ أسباب انحسارِ هَيبةِ الأخبار النَّبويَّة في القلوب، وتوليدِ المُعارضات عليها إحدى فاقِرَتين:
الأولى: إمَّا سُقمٌ في فقه دلالات الحديث، فينشأ لدى الغالِط معنًى شائِهٌ، يكون لازمُه مُعارضة البراهين القطعيَّة، ويكون سبب ذلك:
أن يَقع النَّاظر في الحديث في مَزلَّةِ التَّجزيءِ في القراءة والتَّعضية للنَّص، وذلك -مثلًا- بأن يَقرأ حديثًا ويُغفل آخر، أو يقرأ شطرًا من الحديث ويترك بعضَه.
(1)
«الروح» (ص/62 - 63).
(2)
«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (17/ 400).
أو: بأن يُهمل سياقَ الحديثِ ومُراعاةَ سَببِ ورودِه.
أو: بأن يُفرِطَ في الأخذِ بالظَّاهر، والَّذي يُفضي إلى الفصل بين النُّصوص الجزئيَّة، والمَقاصد الكليَّة للأحاديث، مِمَّا يُفسد تناسق الشَّريعةِ وترابطها
(1)
.
والفاقرة الثَّانية: استبطان بِدعةٍ تكون هي الأصل، والأحاديث تَبعًا لها؛ فيحصُل من ذلك التَّجاسُر عليها بالتَّأويل المُتعسِّف، أو التَّأبِّي عن قَبولِها.
وهذا مَزْلَقٌ خَفِيٌّ مِن مَزالِق الفهمِ عن الله ورَسولِه، تَنَبَّه إليه ابنُ القَيِّم بشُفوفِ نَظَرٍ آتاه الله إيَّاه في النَّفسِ الإنسانيَّة، قد صاغه في جميل قولِه:«إذا امتلَأ القلبُ بشيءٍ، وارتفَعت المُباينة الشَّديدة بين الظَّاهر والباطنِ: أدَّت الأُذُن إلى القلبِ مِن المَسموع ما يُناسِبُه، وإنْ لم يَدُلَّ عليه ذلك المَسموع، ولا قَصَده المُتكلِّم! ولا يختصُّ ذلك بالكلامِ الدَّالِ على معنى، بل قد يَقَع في الأصواتِ المُجرَّدة»
(2)
فكان على هذا أخطر ما يقترِفُه مَن تَلَبَّس بشيءٍ مِن هذه المَوانع، أن يسارع المسارعة إلى إنكارِ نسبةِ النَّصِ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لوقوفه على تأويلٍ ضَعيفٍ مُتعسِّف له، يحسِبُه الظَّاهرَ مِن الحديثِ! فيَستدِلُّ على بُطلانِه لأجل ذلك الظَّاهر المُتوهَّم؛ فإنَّه لا أقلَّ مِن أن يُقدِّرَ إمكانَ أن يكون للحديثِ معنى صحيحٌ لم يُدركه، فإنَّ مُنتَهى الأمرِ أنَّه طَلَب فلَمْ يَجِدْ، وعَدمُ الوِجدان، لا يدلُّ على عدمِ الوجود.
هذا إن تَجشَّم الطَّلبَ أصلًا! وما أقلَّ هذا الصِّنف من النَّاس في زَمانِنا.
يقول ابن الوزيرِ اليَمانيُّ (ت 840 هـ) في تقعيدٍ بَهيٍّ لهذا الباب: «إذا وُجِد بعضُ شُرَّاحِ الحديثِ .. قد يُؤَوِّل الحديثَ بتأويلٍ فيه تَعسُّفٌ، لم يُقطَع برَدِّ
(1)
انظر هذه الأسباب مُفصَّلة في بحث لـ د. توفيق الغلبزوري بعنوان «أسباب الانحراف المعاصر في فهم السنة النبوية ومظاهره» ، المُقدَّم لندوة «السُّنة النبوية بين ضوابط الفهم السديد ومُتطلبات التجديد» بكليَّة الدِّراسات الإسلاميَّة والعربيَّة بدُبي سنة 1430 هـ 2009 م، (2/ 211) من النشرة المَطبوعة للنَّدوة.
(2)
«مَدارج السَّالكين» (2/ 386).
الحديثِ، لأنَّه يجوز أنَّ القولَ بأنَّ ذلك تأويلُه قولٌ باطِلٌ، وأنَّ ذلك المتأوِّلَ إنمَّا صارَ إليه لقُصورِه في العِلمِ.
وإنَّما يُحكَم برَدِّ الحديثِ، متى علِمنا أنَّه لا تأويلَ له صَحيحٌ، وأنَّه لا يدخل في مَقدورِ أحدٍ مِن الرَّاسخين أن يَهتدِي إلى معنى لطيفٍ في تأويلِهِ، ولكنَّ العلمَ بهذا صعبٌ عَزيزٌ، والدَّليل على صعوبتِه:
أنَّ النَّاظرَ في الحديثِ لا يخلو: إمَّا أن يكون مِن الرَّاسخين في العِلم، الَّذين قيل: إنَّهم يعلمون التَّأويل، أم لا.
إن لم يكُن منهم: فليس له أن يَحكُم بقُصورِهم وعجزِهم عن تأويلِه، لأنَّه لم يرتَقِ إلى معرفةِ التَّأويل الصَّحيح، ومَن لم يعرِفِ الشَّيء، كيف يحكُم بنفيِه أو ثبوتِه؟! وما أمَّنه أنَّه موجودٌ؟ لكن لعدمِ مَعرفتِه له جَهِلَهُ.
وأمَّا إنْ كان النَّاظر في الحديث مِن الرَّاسخين: فإنَّه أيضًا يجوز عليه أن يجهَل التَّأويل»
(1)
.
فإذا كان مِن هؤلاءِ الرَّاسخين في علومِ الشَّريعةِ، الغائِصين في بحارِ التَّأويل -كما يقول- مَن قد يتبادر إلى ذهنِ أحدِهم معنى باطل مِن الحديث، فيَعجزُ عن فهمِه على وجهِه الَّذي أرادَه منه قائله صلى الله عليه وسلم، ويَعجزُ عن إيجادِ ما يُوائم الحديث مِن معنى مَقبول، فلا يُعفِيه عِلمُه الرَّسيخ أن يُبادِرَ إلى ردِّ الحديثِ؛ فكيف بمِن كانت سِلعَتُه في علوم الوَحيِ بائرةً؟! لا يَفتأُ يُنكِر الصِّحاحَ بنفسٍ جائِرةٍ، وفَهمٍ سَمِجٍ جعلَه هو ظاهرَ الحديثِ؟!
وما أكثرَ ما يكون هذا الخَطلُ في أحاديث العَقائدِ، والمُتعلِّقة بصِفاتِ الله تعالى وأفعالِه بخاصَّة.
(1)
«العواصم والقَواصم» (8/ 262 - 263).
يقول ابن فورك (ت 406 هـ)
(1)
:
«ما اتَّفقَ أهلُ النَّقلِ على صِحَّته، وانتشَرَ فيهم، ولم يوجد له مُنكرٌ ولا مُفسِد، وذلك نحو حديثِ الرُّؤيةِ، ووَصفِ الله باليَدِ والنُّزولِ، وما جَرى مَجراه: فهذا البابُ مُنتشرٌ مُشتهرٌ لا دافع له، بل الكلُّ مِن أهلِ النَّقلِ مُجتمعون على صِحَّته، ولا يَطعنُ عليه إلَّا مُبتدعٌ يَرى رأيًا فاسِدًا، يَتَوهَّم أنَّه إذا قيل ذلك أدَّى إلى تشبيهِ الله عز وجل بخَلقِه!
وقد قُلنا: إنَّه لا طريق لأحدٍ إلى إنكارِ الخَبرِ لأجلِ ما يتَوهَّمه مِن الفسادِ في معنى متنِه، وإنَّما يَتَطرَّق إلى إبطالِه بما يرجعُ إلى سَندِه: بكونِهِ مُنقطعًا، أو بأن يَرويه مجهولُ العدالة، أو مجروحٌ ظاهرُ الأمرِ في الكذب.
فأمَّا ما يَتَوهَّمه مُبتدعٌ -بفسادِ رأيِه، ونقصِ معَرفتِه- أنَّ ذلك يُؤدِّي إلى الكذبِ، مِمَّا يُنزَّه بالله سبحانه عنه، فلا يَبطُل الخبرُ بمثلِه، ولا يَبقى إلَاّ الكشفُ عن فسادِ ما يَتَوهَّمه، وإبانةُ وجهِه على الصِّحة، مِن حيث لا يؤدِّي إلى تشبيهٍ ولا إلى تعطيلٍ»
(2)
.
فكانت على ذلك الإبانة عن النَّظرةِ المُهترئة إلى ظواهرِ الأحاديثِ في علاقتها بالبراهين العقليَّة والعِلميَّة عند المُخالفين، تُحتِّم الكشفَ عن حقيقةِ العلاقةِ الاتِّساقيَّة بين دلالةِ العقلِ والعلمِ وبين هذه الظَّواهر، فنقول:
أوَّلًا: العَلاقة التَّوافقيَّة بين ظواهر النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، وبراهينِ العقلِ القطعيَّة:
العلاقة بين العقل وبَراهين العلمِ، وبين ظواهرِ النُّصوصِ عند المُخالفين لأهلِ السُّنة والجماعةِ، علاقةٌ تؤول -في الحقيقةِ- في كثيرٍ مِن حالاتِها إلى غايةٍ
(1)
محمد بن الحسن أبو بكر ابن فورك الأصبهاني: شيخ المتكلِّمين، الأصولي، الأديب، النحوي، الواعظ، يحتذي معتقد الأشعري، أخذ عن أبي الحسن الباهلي تلميذ أبي الحسن الأشعري، بلغت تصانيفه في أصول الدين وأصول الفقه ومعاني القرآن قريبا من المئة، منها:«شرح مشكل الحديث» ، و «التفسير» ، انظر «الأعلام» (6/ 82).
(2)
«مشكل الحديث» لابن فورك (ص/16 - 18).
واحدةٍ، تنصِبُ (العقلَ المَدْخول) حَكَمًا في فهمِها؛ ذلك أنَّهم كثيرًا ما يجعلون المعنى الفاسدَ هو الظَّاهرَ مِن الدَّليل السَّمعي، فيتسلَّطون بذا عليه إمَّا:
بالتَّأويل، طلبًا لأنْ تكون معاني ما دَلَّت عليه البراهين الشَّرعيَّة مُوافقةً لُمرادِهم وأصولهِم، لا لمُراد المُتكلِّم بها أصالةً
(1)
.
وإمَّا برَدِّه جُملةً إن لم يُسعِفهُم تأويلُه، بدعوى أنَّ ظاهرَه مُناقضٌ لمُقرَّرات العقلِ ومُسلَّمات الواقع.
وعلى مثل هذا المهيع جرى الفَخرُ الرَّازي (ت 606 هـ)
(2)
في مَقاماتِ التَّعارض بين ظواهر النُّصوصِ والعقليَّات، بحيث «يقطَعُ -بمُقتضى الدَّلائلِ العقليَّةِ القاطعةِ- بأنَّ هذه الدَّلائل النَّقليَّةُ إمَّا أن يُقال: إنَّها غير صحيحةٌ، أو يُقال: إنَّها صحيحة، إلَاّ أنَّ المُراد منها غير ظواهِرها»
(3)
.
وجاء بعده السَّنوسي (ت 985 هـ)
(4)
وتبِعَه الصَّاوي (ت 1241 هـ)
(5)
ليعُدَّا التَّمسُّكَ بظواهرِ الأدلَّةِ النَّقلية مِن أصولِ الكُفرِ! كما تراه في قول الاخير: «أصولُ الكفرِ والبدعةِ سبعةٌ .. منها: التَّمسُّك في عقائدِ الإيمانِ بمُجرَّد ظواهرِ الكتابِ والسُّنة، مِن غير عَرضِها على البراهينِ العقليَّة، والقواطع الشَّرعيَّة»
(6)
.
(1)
«التَّدمرية» لابن تيمية (ص/69).
(2)
محمد بن عمر التَّيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرَّازي: مُتكلِّم مُفسِّر، أوحد زمانه في المعقولات وعلوم الأوائل، قُرشي النَّسب، ومولده في الرَّي وإليها نسبتُه، أقبل النَّاس على كتبه في حياته يتدارسونها، وكان يحسن الفارسيَّة، من تَصانيفه:«مفاتيح الغيب» في التَّفسير، و «أساس التَّقديس» في العقائد، انظر «تاريخ الإسلام» (13/ 137).
(3)
«أساس التَّقديس» للرازي (ص/220 - 221).
(4)
محمد بن يوسف السنوسي: فقيه مالكي من فقهاء تلمسان في عصره، من تصانيفه:«عقيدة أهل التوحيد» ، ويُسَمَّى «العقيدة الكبرى» و «أم البراهين» ، انظر «شجرة النور الزكية» (1/ 266).
(5)
أحمد بن محمد الصَّاوي الخلوتي أبو العباس: فقيه مالكي متصوف، تلقَّى العلم في الأزهر، من تصانيفه «الفرائد السنية على متن الهمزية» ، و «حاشية على تفسير الجلالين» ، انظر «شجرة النور الزكية» (1/ 364).
(6)
قاله في «شرحه على جوهرة التَّوحيد» (ص/249)، و «حاشيته على تفسير الجلالين» (3/ 9)؛ وانظر ردَّ محمد الأمين الشَّنقيطي على الصَّاوي عبارته هذه في «أضواء البيان» (7/ 266).
وهذا المُستبشَع من الكلام مهما قُلنا في توجيهِ عبارتِه بما يَليق بمَقام هذين العَلَمَيْن، فإنَّ عِلَّة الوقوعِ في مثل هذا الغلط: اعتقادُهم أَنَّ ظواهرَ النُّصوصِ قد تَدلُّ على ما لا يَليقُ نِسْبتُه إلى الشَّرعِ لا بحسبِ الواقعِ! وهذا مَعلومٌ فَسادُه مِن شَريعتِنا؛ يتبيَّن بتحديدِ معنى الظَّاهرِ مِن النَّصِ الشَّرعيِّ، فنقول:
الظَّاهر إذا أُطلِق قُصَد به: ما يَسبِقُ إلى العقلِ الفِطريِّ لمِن يفهم بتلك اللُّغة المُخاطَب بها؛ وهذا الظُّهور قد يكون بمُجرِّد الوَضْعِ، وقد يكون بدلالة السِّياقِ والقرائن المُحتَفَّة به
(1)
.
ولا ريبَ عند المُتحقِّقين بالوَحي الرَّاسخين في العلم: أنَّ النَّصَّ الشَّرعي لا يُمكن بحالٍ أن يكون غُفْلًا عما يُبِينُ عن مُراد الشَّارع، فإنَّ هذا مُمتنعٌ على مَن قَصَد بِشَرْعِهِ أن يكون هِدايةً للخلقِ، وعِصْمةً لهم مِن الضَّلال.
وإحرازُ هذا الظَّاهرِ الحقيقيِّ للنَّصِ، يَستلزمُ لحْظَ معهودِ العَربِ في أسلوبِ تخاطُبِهم، وذلك أنَّ الألفاظَ قوالبُ المعاني، فاللَّفظ -مثلًا- قد يكون له مَعنى مُعجَميٌّ إذا تجرَّد عن التَّركيب، وقد يكون له مَعانٍ أخرى تظهرُ حين الاستعمالِ، فلا يَستبينُ مَدلُولُه إلَّا مِن خِلالِ تَركِيبهِ.
ومَعرفةُ معاني الألفاظِ عِلمٌ برأسِه، يَفتقِرُ إلى مَعرفةٍ واسعةٍ باللُّغةِ، وأساليب العَرَبِ في الخطاب
(2)
.
ثمَّ إنَّ الظَّاهرَ الحقيقيَّ في بعضِ المَوارِد لا يُقتصَرُ في تحصيلِهِ على نصٍّ واحدٍ، بل النَّظرُ مُتَّجهٌ إلى جُملةِ الدَّلائلِ الشَّرعية؛ فإنَّ الوحيَ كالكَلِمة الواحدةِ، يصدِّقُ بعضُه بعضًا.
وفي تقرير هذا الأصل في تلقِّي معاني الوَحي، يقول الشَّاطبيُّ (ت 790 هـ): «مَأخذُ الأدلَّةِ عند الأئمَّة الرَّاسخين، إنَّما هي على أن تُؤخَذ الشَّريعة كالصُّورة
(1)
انظر «إحكام الفصول» للباجي (1/ 48)، و «الرسالة المَدَنيَّة» لابن تيميَّة (ص/31).
(2)
وعليه اشترط الأصوليين التَّمكنَّ فيها لمن قصد الاجتهاد في استنباط الأحكام من النُّصوص، انظر «الموافقات» (4/ 162).
الواحدة، بحسبِ ما ثبَت مِن كُليَّاتها وجزئيَّاتها المُرتبَّة عليها، وعامِّها المُرتَّبِ على خاصِّها؛ ومُطلقِها المحمولِ على مُقيَّدها، ومُجملها المُفسَّر بمُبيِّنها، إلى ما سِوى ذلك مِن مَناحيها؛ فإذا حَصَل للنَّاظر مِن جُملتها حكمٌ مِن الأحكام، فذلك هو الَّذي نطَقت به حين استُنطِقَت»
(1)
.
فلِذا كان مِن الغَلَطِ المُحَقَّق حين تَناول النَّص تجريدُ اللَّفظِ مِن تركيبِه وسِياقِه ومَذهبِ المُتكلِّم به، ثمَّ قَصْرُ الظَّاهرِ على ما يَتبادَرُ مِن اللَّفظ مُجرَّدًا عن هذا كلِّه؛ هذا -بلا ريبٍ- قصورٌ في تحصيلِ الظَّاهر.
والأنكى من ذلك: أن تجِدَ المُخالِفَ يَبْني على مثل هذا القصورِ في نَظَرهِ إلى النَّص مُعاندةَ ما يَراه قطعيًّا للظَّاهِر الشَّرعيِّ! وكثيرًا ما يجري هذا الخطلُ المنهجيُّ على تفهُّم الأحاديثِ النَّبويَّة؛ والحقيقة: أنَّ المُناقضَةَ إنَّما هي واقعةٌ بين العقلِ، وما تَوهَّمه أنَّه ظاهِرُ النَّصِ، لا ظاهرَ النَّصِ في نَفْسِ الأَمر.
والَّذي نعتقده الحقَّ في ذلك: أنَّ البراهينَ إذا كانت قائمةً على صِدقِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وصِحَّةِ ما تَقبَّلته العلماء عنه مِن أخبارٍ، لَزِمَ الإيمان بها على مُرادِه هو صلى الله عليه وسلم، ولا نَتَكلَّف فَهمَ ما لا نقدرُ على فهمِه، ولا نَرُدَّ ما لم نُحِط به خُبْرًا، فرُبَّ حقيقةٍ واقعةٍ لا نَفهمُها.
ولعَلَّ ما عجزنا عن إدراكِه اليومَ، نُدرِكُه غدًا على وجهِه، أو يُدرِكُه غيرُنا؛ فلا أضَلُّ مِمَّن ذَهبَ يَرُدُّ ما لم يَقدِر على فَهمِه، ولا أجهلُ مِمَّن كذَّب بالشَّيءٍ، لأنَّ الله لم يَشأ أن يُفهِمَه إيَّاه.
ثانيًا: نماذج مِن غَلَطِ المُعاصِرين في فهم الحديثِ المُعارَض.
قد كثُر مِن مُنكِري السُّنَن المُعاصِرين الغَلطُ في فَهمِ الأخبار النَّبويَّة على وَجهِها الصِّحيحِ، وذلك منهم لضَعفِ عَربِيَّتِهم تارة، وعَدمِ إدراكِهم لسِياقاتِ النَّصِ، أو لمُجرَّد هَوىً تارة، يحمَلُ به الحديثُ على تأويلٍ مُتعسِّفٍ، أقربَ ما
(1)
«الاعتصام» للشَّاطبي (2/ 62).
يكون إلى الغَباوة، فضلًا عمَّا إذا حُمل لفظُه على معنًى يُخالف أصلًا مِن الأصولِ المَقطوعِ بها، ومِن ثَمَّ يُرَدُّ من أجلِه.
فلذا كان مِمَّا يَجتثُّ دعوى التَّعارض بين الدَّلالة العقليَّة القاطعة وظَوَاهرِ الصِّحاحِ مِن جَذْرِها: ما تَراه مِن انعدامِ المِثالِ الصَّادقِ عليها، والصَّورةِ الصَّحيحة لذلك، فإنَّ كثيرًا مِمَّا يُمَثِّل به الطَّاعنون على ذلك مِمَّا هو في «الصِّحيحين» ، يَكشفُ عن خَللٍ كبير في التَّنظير، جَرَّهم إلى أَخطاءٍ في التَّخريج والتَّطبيق.
وليس مِن حظِّ هذه المَباحثِ استيفاءُ أمثلةِ ما غَلِطوا في فهِمه مِن الحديثِ فأهوَى بهم إلى إنكارِه؛ ولكنْ الكفاية حاصلةٌ للمُنصف الفهيمِ بمِثالَين لكلِّ قِسْمٍ من أسباب استشكال النُّصوص، فأقول:
المثال الأوَّل: حديثُ النِّيل والفُراتِ مِن الجَنَّة:
وهو ما جاء في مسلم مِن حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم يرفعه: «سَيْحان، وجَيْحان، والفُرات، والنِّيل، كلٌّ مِن أنهار الجنَّة»
(1)
.
وكذا قول النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد عودِه مِن مِعراجِه، في حديثِ مالك بن صَعْصعة رضي الله عنه عنه قال:« .. ورُفعت لي سِدرة المُنتهى، فإذا نَبقها كأنَّه قِلال هَجَر، وورقُها كأنَّه آذان الفيول، في أصلِها أربعة أنهار: نهران باطِنان، ونهران ظاهِران، فسألتُ جبريل، فقال: أمَّا الباطِنان ففي الجنَّة، وأمَّا الظَّاهران: النِّيل والفُرات»
(2)
.
فيَحكِي مُصطفى الزَّرقا (ت 1420 هـ)
(3)
، أن أستاذًا كبيرًا مِن أعلامِ القانون الوَضعيِّ في مصر والعَالم العربيِّ، قال له:«إنَّه اشترَى كتاب «صحيح البخاريِّ» ،
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة، رقم: 2839).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، رقم: 3207)، ومسلم في (ك: الإيمان، باب: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات، رقم: 264).
(3)
مصطفى أحمد الزَّرقا: من علماء الفقه السُّوريِّين، وُلد بحَلَب سنة 1322 هـ، تربَّي في بيت علمٍ على المذهب الحنفيِّ، درَّس في عدد كبير من كليَّات الشَّريعة العربيَّة، من مؤلَّفاته:«الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» ، و «نظام التأمين» ، توفي (1999 م 1420 هـ).
ثمَّ فَتَحه مرَّةً، فوَقَع نَظرُه على هذا الحديث .. فلمَّا كان ذاك الأستاذ يَراه مُخالفًا للواقعِ -إذْ أنَّ مَنابعَ هذه الأنهار مَعروفةٌ لكلِّ دارسٍ، فهي نابعةٌ مِن الأرضِ، وليست مِن الجنَّة- أعرَضَ عن صحيح البخاريِّ كلِّه، ولم يُفكِّر في مُجرَّدِ تصَفُّحِه بعدُ!
(1)
فلو حمَلنا هذا الحديثَ على ما حَمَله عليه هذا القانونيُّ مِن كونِ الأنهار المذكورة تخرج الآن مِن الجنَّة، وتَنصبُّ منها، ولم نعبَأ أن نُنازعَ المُشاهَد في ذلك: حينئذٍ جاز لنا أن نستريب في الحديثِ حقًا! لأنَّ هذه الأنهار الأربعة مَوجودة في الأرض، مَعروفةٌ للنَّاس مِن مَبدئِها إلى مُنتهاها، مَشهودة لهم مَنابِعُها الأساسة، ومَصادرها الأوَّلِيَّة، ولكنَّ الأمر -ولله الحمد- على غيرِ الوَهمِ الَّذي استقرَّ في رأسِه، جرَّاء عُسرِ فهمِه للحديث.
فأمَّا الحديثُ الأوَّل: حديث الأنهار الأربعةِ مِن أنهار الجنَّة:
فالأمرُ فيه بيِّنٌ يَسير، وليس يُغاير المُشاهَد كما ادُّعِي، بل «المُراد به: أنَّ في الأرضِ أربعةَ أنهارٍ أصلُها مِن الجنَّة»
(2)
.
(3)
.
ويؤيِّد هذا المعنى: رِوايةٌ أخرى للحديث جاءت بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه: «فُجِّرت أربعةُ أنهارٍ مِن الجنَّة: الفرات، والنِّيل، وسيحان، وجيحان»
(4)
.
(1)
«كيف نتعامل مع السُّنة النَّبوية» للقرضاوي (ص/186).
(2)
«كوثر المعاني الدَّراري» للخضِر الشنقيطي (6/ 326).
(3)
«مشكلات الأحاديث النَّبوية» لعبد الله القصيمي (ص/75).
(4)
أخرجه أحمد في «مسنده» (رقم: 7543)، والبزَّار في «مسنده» (رقم: 7956)، وقال أحمد شاكر في تخريج «مسند أحمد» (7/ 315):«إسناده صحيح» ، ولكن في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة اللَّيثي، روى له البخاري ومسلم مقرونًا، وهو حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات رجال الشَّيخين، وإنَّما الحديث صحيح لغيره.
ثمَّ لْتَلْحَظ أنَّ الرَّوايةَ المُستشكلَة لم تقُل: إنَّ الأنهارَ في الجنَّة، بل فيها:« .. مِن الجنَّة» ، ولا يخفى ما في العِبارتين مِن اختلاف في المعنى.
وأمَّا الحديث الآخر: «في أصلِها أربعة أنهار، .. أمَّا الظَّاهِران فالنِّيل والفُرات» :
فالجادَّة أن يُحمَل على معنىٍ لا يُخالف الواقع، فيُقال مثلًا: إنَّ نهرا النِّيل والفُراتِ المُسَمَّيَان في الحديثِ، هما على ما عُرِفا بأعيانِهما في الدُّنيا، وتكون مَادَّتهما ممَّا يَتنزَّل مِن السِّدرة، بطريقةٍ يعلمُها الله وتخفَى علينا
(1)
.
وهذا ما قَرَّره النَّووي من معنى الحديث فقال: « .. إنَّ الأنهارَ تخرُج مِن أصلِها، ثمَّ تَسِير حيث أرادَ الله تعالى، حتَّى تخرُج مِن الأرض وتَسيرَ فيها، وهذا لا يَمنَعُه عَقلٌ ولا شرعٌ، وهو ظاهرُ الحديث، فوَجَب المصيرُ إليه»
(2)
.
وجائزٌ أيضًا أن يُحمل هذا الحديث على ما حَمَلنا عليه الحديث الأوَّل، بأن يكون مَبدأ هذين النَّهْرين ومصدرهما الأوَّلَ كان مِن الجنَّة، فتكون العبارة مِن بابِ إطلاقِ اسمِ الشَّيء على مَبادِئِه، فإنَّ للنِّيلِ والفُراتِ مَبْدآن في عالم الغَيب، فأطلقَ الوحيُ أساميَ الظَّاهر مِنهما في الدُّنيا، على مَبادئِهما المُغَيَّبة عنَّا
(3)
.
فهذه أوجه المَعاني الَّتي يُفهَم عليها الحديث، لا تَرى فيها أحدًا مِن أهلِ العلمِ أخَذَ الحديثَ على معنى المَصدَرِيَّة المُباشرةِ لتلك الأنهار؛ ولذا نرى العلماءَ قد تَعَقَّبوا القاضي عِياضًا (ت 544 هـ) ظَنَّه أنَّ النِّيل والفُرات ما داما مِن سِدْرة المُنتهى، فأصلُ السِّدرة في الأرض
(4)
! وليس هذا بلازمٍ، فإنَّ كونَهما يَخرُجان مِن أصلِها شيءٌ، وخروجَهما بالنَّبعِ مِن الأرضِ شيءٌ آخر -كما قد مَرَّ قريبًا-؛ وإلَّا لَرُئيَتِ السِّدرةُ عند محلِّ خروجِهِما
(5)
.
(1)
«الميسَّر في شرح مصابيح السُّنة» للتُّوربشتي (4/ 1273).
(2)
«شرح النووي على مسلم» (2/ 224).
(3)
«فيض الباري» للكشميري (4/ 312، 532).
(4)
«إكمال المعلم» (1/ 503).
(5)
انظر «شرح النووي على مسلم» (2/ 224)، و «عمدة القاري» للعيني (4/ 54)، و «كوثر المعاني الدَّراري» للخضر الشنقيطي (6/ 326).
فالحاصِلُ: أنَّ البراهين قد قامَت على صِحَّةِ هذين الَخبرين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلزِم أن نُؤمِن بذلك على مُرادِه صلى الله عليه وسلم، ولا يُحمَل حديثُه على معنى يُخالف الواقعَ والمُشاهدَ مخالفةً تامَّة، مع أنَّ له معنى آخر يُوافقه، أو لا يخالفه على أقلِّ تقديرٍ.
فإن قبِلنا هذا المنهج في اعتبار ظواهر الأخبار، وإلَّا فلا نُكلِّف أنفسَنا فَهْمَ ما لا نقدِرُ على فهمِه! ولا نَرُدَّ ما لم نُحِط به خُبرًا، ولنحترِم عقولَ الصَّحابةِ وتابعيهم، فإنَّهم مهما أخطؤوا في الرِّوايةِ، فلن تبلُغَ بهم السَّفاهةُ والحُمق -وحاشاهم مِن ذلك- أن يَرْوُوا للنَّاس شيئًا يخالف ما يُشاهدونه ضرورةً! ورُبَّ حقيقةٍ واقعةٍ لا نفهمُها.
والمثال الثَّاني: حديث « .. إن يَمُت هذا الغُلام، قامَت ساعَتُكم» .
وأعني به ما اتُّفِق عليه مِن حديثِ عائشة رضي الله عنها وغيرِها: أنَّ رجالًا مِن الأعرابِ جُفاة كانوا يأتون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى السَّاعة؟ فكان ينظُر إلى أصغرِهم فيقول: «إن يَعِش هذا، لا يُدركه الهَرم حتَّى تقومَ عليكم ساعَتُكم»
(1)
.
فقد ادَّعى جمعٌ مِن المعاصرين ظُلمًا افتراءَ الخبرِ على النَّبي صلى الله عليه وسلم، لدعوى مُخالفتِه ما هو مَعلوم بالضَّرورةِ والحِسِّ عَدمُ تحقُّقِه، ذلك أنَّهم فهموا ربطَ الخبر لقيامِ السَّاعِةِ بوفاةِ الغلام! ما يستلزم قيامَها من أمَدٍ بعيد!
تَرى هذا الفَهمِ العِوَجِ بارزًا لك في مثلِ قولِ (سامِر إسلامبولي): «المُلاحَظ مِن الحديث، أنَّ الجوابَ قد حَدَّد قيامَ السَّاعة خلالَ فترةٍ زمنيَّةٍ لا تتَجاوز أن يبلُغ الغلامُ سِنَّ الهَرم، أي ما يُقارب السِّتين عامًا، وقد مَضى على قولِ الحديث ألفٌ وأربعمائة عامٍ، ولم تَقُم السَّاعة! فهناك احتمالان: إمَّا أنَّ الغلامَ لم يبلُغ إلى الآن سِنَّ الهَرم، أو أنَّ السَّاعة قد قامَت ولم نَدرِ نحن! ونكون قد نَفذنا مِن الحساب!»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (ك: الرقائق، باب: سكرات الموت، رقم: 6511) واللفظ له، ومسلم (ك: الفتن، باب: قرب الساعة، رقم: 2952).
(2)
«تحرير العقل من النقل» (ص/223)، وانظر «دين السلطان» لنيازي (ص/411).
ونحن -بدَوْرِنا- نسألُ هذا الفَهيم قائلين: متى كان سيظهر تكذيبُ الواقعِ لمثلِ هذا الخَبر الَّذي تحمِله على فهمِك هذا؟
فلا بدَّ أن يقول: مثلُ هذا الأمرِ الجَليِّ الواضحِ في المخالفةِ للواقعِ، لابدَّ أن يكون قد ظَهَر لِمن قَبلنا بداهةً، وتحديدًا بعد هَرمِ الغُلامِ ومَوتِه، يعني بعد مائةِ سنةٍ على موتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وذلك على أقصى تقدير.
فنقول له: قد وَجَدنا المُحدِّثين مع ذلك يُصحِّحون هذا الحديث، ولو بعد مرورِ هذه المُدَّة الَّتي ذكرتَ! فقد رَواه التَّابعون وأتباعُهم في كُتبِهم، ولا يزال علماء الإسلامِ يتناقلونه من ذاك الوقتِ إلى يومِنا هذا، مع ظهورِ كذبِه للأعمى كما تَدَّعي!
فلا يبقى لنا في الحكمِ على هؤلاء المُحدِّثين حسبَ فهمِك إلَّا أحدُ احتمالين:
أوَّلهما: إمَّا أنَّهم مجانين كلُّهم! يُصحِّحون ما يَظهرُ كذبُه لأغبى الخليقةِ، ويَلحقُهم في هذا الجنونِ عَوَام المسلمين، حين أقرُّوا عُلماءهم على تلك الغَباوة المُفرطة، وصدَّقوهم في مثل هذه الأخبار.
وثانيهما: أنَّهم لم يجدوا في هذه الأخبارِ ما يُخالف الواقعَ بحالٍ! فلذلك قَبلوها.
فظنِّي بهذا المُعترض -إن كان مُنصفًا- أنَّه مهما خالفَ البخاريَّ ومُسلمًا وسائر أهل الحديث في منهج النَّقد، فإنَّه لن يَبلُغَ به الشَّطَط في الخصومةِ أن يعتقد فيهم الجنونَ والتَّغابي إلى هذه الدَّرجةِ مِن البَله.
فعليه أن يُقرِّر لزامًا: أنَّ لهؤلاء تفسيرًا للحديثِ يَدفعُ ما فهمه من مُعارضته للشَّرع والواقعِ؛ فلينظُر إذن في تفسيرِهم للحديثِ، ثمَّ لينقُده بعدُ إذا شاءَ أن يَنقُد، لكن لا يحِقُّ له بحالٍ أن يَتوهَّم في مَن صَحَّح الحديث مِن سادات الأمِّةِ، أنَّهم كانوا في غفلةٍ عمَّا ينقِمُه هو وأمثالُه من مُتعجِّلة من مُشكل الحديث.
وسيأتي بيانُ المعنى السَّليم للحديث، والمُوافق للعقلِ والواقع، ويلحقُه الجوابُ على جُملةِ المُعارضاتِ المُوجَّهة له، وذلك في الباب الثَّالث مِن هذا البحث.
وأمَا القِسم الثَّاني من قِسْمَي سوء الفهم الحاصلِ من المُعترضِ على صِحاحِ الأخبار: الَغلَط في فهمِ الأصلِ المُعارَضَ به:
وذلك بأن يَجعلَ المعنَى الَّذي قرَّره الحديث، هو الظَّاهرَ الَّذي لا يُمكن أن يكون مُرادًا، لمُناقضتِه أصولًا قطعيَّة عنده
(1)
.
فيكون فهمُ المُعترِضِ للحديثِ صحيحًا في ذاتِه، لكن عارَضَه في ذهنِه فهمٌ آخرُ لمِا تَوهَّمه أصلًا مِن الأصول القطعيَّة، ويكون ما اعتقَدَه أصلًا هو -في حقيقتِه- ناشئًا عن فهمٍ مغلوطٍ، أو مُخِلًّا ببعضِ مُقدِّماته ونتائجِه؛ فتَراه يُقدِّم هذا الفهمَ الخاطئَ لمِا يَراه كُليَّةً في الدِّين، أو يَظنُّه أمرًا مَقطوعًا به في علمٍ ما، يُقدِّم هذا على فهمِه الصَّحيحِ لإحدى أفرادِ النُّصوصِ الحديثيَّةِ.
وهذه مَزَلَّة غير سهلةٍ، قد أوْقَعَت أكثرَ أهلِ المَقالاتِ البِدعيَّةِ في مُستنقَعِ الاستشكالاتِ، ورَدِّ المُحكاتِ بالمُتشابهات، وإليها إشارة المُعلِّميِّ (ت 1386 هـ) في قولِه:« .. للاستشكالِ أسبابٌ، أشدُّها استعصاءً: أن يَدُلَّ النَّص على معنى هو حَقٌّ في نفسِ الأمر، لكن سَبَق لك أن اعتقَدْتَ اعتقادًا جازِمًا أنَّه باطل!»
(2)
.
والقرآن أكثرُ الأصولِ النَّقليَّةِ الَّتي يُساء مُعارضة الصِّحاحِ من الأحاديث بها:
وأظهرُ ما يَقَع به المُعارضةُ للأحاديثِ مِن الأصولِ، مِمَّا يُسيء المُعترِضُ فهمَها على وجهِها: القرآن الكريم؛ فإنَّ اتِّفاقَ الطَّوائف الإسلاميَّة كلِّها حاصلٌ على قُدسِيَّتِه، وقَطعِيَّةِ نقلِه، وعُلوِّه على كلِّ مَقالٍ.
(1)
انظر «التدمرية» لا بن تيمية (ص/69).
(2)
«الأنوار الكاشفة» (ص/259).
فكثيرًا ما نسمع مِن المُعترضين المُعاصرين مَن يحتجُّ على أنَّ الحديثَ يُعارض ظاهرَ القرآن معارضةً لا مندوحة معها مِن ردِّه، وعند التَّفتيشِ في معاني الآية المُعارَض بها، نجِدها تخلو مِن مُوجبٍ لردِّ الحديث.
يحكي لنا ابن القيِّم (ت 751 هـ) حجمَ القصور الَّذي وقعت فيه هذه الطَّائفة في نظرها للقرآنِ، فقال:« .. رَدُّوا الحديثَ إذا خالَف ظاهرَ القرآن بزعمِهم، وجَعَلوا هذا مِعيارًا لكلِّ حديثٍ خالَفَ آراءَهم، فأخَذوا عمومًا بعيدًا مِن الحديثِ لم يُقصَد به، فجعلوه مُخالفًا للحديثِ، وردُّوه به»
(1)
.
أمَّا عندنا أهل السُّنة، فإنَّ الحديث إذا صَحَّ وتَلَقَّته الأمَّة بالقَبول، كجمهورِ أحاديثِ «الصَّحيحين» ، كان مِن أشدِّ الأمورِ إحالةً أن يُعارِض القرآنَ، بل هو شاهِدٌ له ومُبَيِّن؛ على ما قَرَّره ابن عبد البرِّ (ت 463 هـ) ونَقَل عليه اتِّفاقَ العلماءِ، فقال:«ليس يَسوغُ عند جماعةِ أهلِ العلمِ، الاعتراضُ على السُّنَنِ بظاهرِ القرآنِ، إذا كان لها مخرجٌ ووَجهٌ صحيحٌ، لأنَّ السُّنةَ مُبيِّنة للقرآنِ، قاضيةٌ عليه، غير مُدافعة له»
(2)
.
هذا الخطلُ في دركِ آياتِ القرآن، كان واقعًا قَديمًا منذ عهدِ الصَّحابِة رضي الله عنهم، يَتأوُّلها كثيرٌ مِن النَّاسِ على غيرِ ما أُرِيدَ بها، فيأتي أهلُ العِلم بالقرآن والسُّنة، ليُبيِّنوا مُرادَ الله منها، مُستَرشِدين في ذلك بسُنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وسِيرَتِه؛ كان أوَّلهم أبو بكر رضي الله عنه في خُطبةٍ له يُرشد النَّاس بقوله:«يا أيَّها النَّاس، إنَّكم تَقرَءون هذه الآيةَ، وتَضَعونها على غيرِ مَواِضعها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنَّا سمِعنا النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ النَّاس إذا رَأوا الظِّالم، فلم يأخذوا على يَديه، أوشَكَ أن يَعمَّهُم الله بعقابٍ»
(3)
.
(1)
«مختصر الصواعق المرسلة» (ص/608).
(2)
«التمهيد» لابن عبد البر (17/ 276).
(3)
أخرجه أبو داود في (ك: الملاحم، باب: الأمر والنهي، رقم: 4338)، والترمذي في (ك: الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر، رقم: 2168)، وابن ماجه في (ك: الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم: 4005).
ولأنَّ السُّنَن الصِّحاح على حالٍ مِن التَّوافق مع القرآنِ عند مَن أعطى كلَّ واحد منها حقَّها مِن النَّظر المنهجيِّ السَّليم، نجِد اللَّاهِجين بدَعوى المُعارضةِ يَتَخبَّطون في أخذِ الآياتِ على مَحامِل عِدَّة لا تستقيم على وزانٍ مُنتظِم، فلا نراهم يُبرِزون ضابِطًا مَوضوعيًّا دقيقًا للمُخالفةِ القرآنيَّة، حتَّى صار هذا البابُ خاضِعًا في مُجملِه للاستشكالِ الشَّخصي القائمِ في ذهنِ أحدِهمِ، أدَّى بهم -في واقعِ الحالِ- إلى اضطرابٍ وتَبايُنٍ، مِن مُوجِباتِه النِّزاعُ والخِلافُ النَّاتِجَين عن نِسبيَّة التَّطبيقِ.
وعلى مثلِ هؤلاءِ المُغتَرِّين بفُهومِهم النَّائيةِ عن مُرادِ الوحي، تَصدُق كلماتُ ابنِ القَيِّم:
«لو ساغَ رَدُّ سُنَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمِا فَهِمَه الرَّجلُ مِن ظاهرِ الكتابِ، لرُدَّت بذلك أكثرُ السُّنَن، وبَطُلت بالكُليَّة؛ فما مِن أحدٍ يُحتَجُّ عليه بسُنَّة صحيحةٍ تخالف مذهبَه ونِحلتَه، إلَاّ ويُمكنه أن يَتشبَّث بعمومِ آيةٍ أو إطلاقِها، ويقول: هذه السُّنَّة مُخالفةٌ لهذا العمومِ والإطلاقِ، فلا تُقبَل!
حتَّى أنَّ الرَّافضةَ -قَبَّحهم الله- سَلَكوا هذا المسْلكَ بعَيْنِه في رَدِّ السُّنَنِ الثَّابتةِ المُتواترةِ، فرَدُّوا قوله صلى الله عليه وسلم:«لا نورِّث، ما تركنا صَدقةٌ» ، وقالوا: هذا حديث يُخالف كتابَ الله، قال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]!
ورَدَّت الجهميَّة ما شاء الله مِن الأحاديثِ الصَّحيحةِ في إثباتِ الصِّفاتِ بظاهرِ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ورَدَّت الخوارج ما شاء الله مِن الأحاديثِ الدَّالةِ على الشَّفاعةِ، وخروجِ أهل الكبائرِ مِن المُوحِّدين مِن النَّار، بما فهِموه مِن ظاهرِ القرآن.
ورَدَّت الجهميَّة أحاديثَ الرُّؤيةِ -مع كثرتِها وصِحَّتِها- بما فهِموه مِن ظاهرِ القرآن، في قولِه تعالى:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]»
(1)
.
(1)
«الطرق الحكمية» لابن القيم (ص/66).
نعم؛ إنَّ مَسلك ردِّ الحديثِ لمُخالفةِ القرآنِ ليس مَنهجُا بِدْعيًّا في حدِّ ذاتِه، بل مَنهجٌ أصيلٌ مُعتَبر إذا تحقَّق مُوجِبُه، لا يَلزَمُ مِن تخبُّطِ مَن سَلَكه أنْ يكون باطلًا في نفسِ الأمرِ، فإنَّ المُتقرَّر عند أهل التَّحقيق في النَّقد، أنَّ «الأصلَ المَعلومَ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماعِ، لا يُعارِضُه خبرٌ واحدٌ رواه الثِّقات، بل يُنسَبون في ذلك إلى الغَلط»
(1)
.
لكن الشَّأن في تَحقُّقِ هذه المُخالفةِ أصالةً، وذلك لا يتحقَّق إلَّا:
بأنْ يكون المعنى الَّذي نَسَبه المُعترِضُ لظاهرِ الآيةِ -مِمَّا يزعُم مُناقَضَتَه للحديثِ- تحتمِله الآيةُ حقًّا مِن غير تَكلُّفٍ.
وكان مَسبوقًا في هذه النِّسبة مِن أهلِ التَّأويل.
مع انعدامِ أوجهِ التَّأويلِ لدَرءِ ما يَظهَر مِن تَعارضٍ.
أو لم يكُن للآيةِ وجهٌ مُعتَبرٌ آخرُ يُوافق الحديثَ عند ثلَّةٍ من أهلِ العلم.
فأمَّا أن تُحمَل الآيات على معنى لا يوائم لُغة العَرب، أو كان خِلاف الظَّاهر منها، مُخالفًا لِتفسيرِ السَّلَف لها: فهذا أصلُ الخَلَلِ في هذا الباب.
يقول الحجويُّ الفاسيُّ (ت 1376 هـ)
(2)
: «قول النَّاقلِ عن الشَّيخ عبدُه، أنَّ العلماء اتَّفقوا على أنَّ الحديث إذا خالَف القرآنَ يُنبَذ، فهذا الكلامُ اتَّفَق كلُّ مَن نقلَه على أنَّه مُقيَّد، وليس على إطلاقِه، فقد زادوا شَرطين:
الأوَّل: أن تكون الآية صريحةً قطعيَّةَ الدَّلالة، والحديث ليس بمُتواتر،
(1)
«جامع المسائل» لابن تيمية (2/ 104).
(2)
محمد بن الحسن بن العربي الحجوي الثَّعالبي الجعفري الفلالي: فاسيٌّ من فقهاء المالكية السَّلفية في المغرب، دَرَس ودَرَّس في القرويِّين، وأُسندت إليه سفارة المغرب في الجزائر، وولي وزارة العدل فوزارة المعارف في عهد الاحتلال الفرنسيِّ، وبسبب تماهيه مع تنصيب ابن عَرَفة ملكًا للمغرب بدَلَ محمَّد الخامس، نَفَر منه كبار مُواطنيه وهَجَروه، ثمَّ عُزل بعد رجوع محمَّد الخامس، وتُوفيَّ بالرباط، ولم يُصلَّ عليه! حتَّى نقلت الحكومة المغربيَّة في عهد الاستقلال تُربتَه إلى مكان مجهول، له كُتب مَطبوعة مُفيدة، أجَلُّها «الفكر السَّامي في تاريخ الفقه الإسلامي» ، انظر ترجمته في «إتحاف المُطالع» لابن سودة (2/ 560)، و «الأعلام» للزركلي (6/ 96).
بل خبر آحاد مَظنونٌ، فتُقدَّم الآية عليها لأنَّها قطعيَّةٌ من جهة تواترها، وجِهة دلالتها القطعيَّة.
الثَّاني: أن لا يُمكن الجمع بين القرآن والسُّنة، أمَّا إذا أمكنَ الجمع بينهما، فإنَّه لا يحلُّ لأحدٍ أن يدَّعي التَّعارض، ويعرض عن سُنَّة المُصطفى صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
والحاصِلُ: أنَّ هذا المَسلك في مُقابلةِ الأحاديثِ بالقرآنِ -لا شكَّ- مَسلكٌ وَعِرٌ، يُحذِّر العلماء مِن الولوغ فيه من غير سَنَدٍ علميٍّ متين، إذْ ليس «كلُّ النَّاسِ يَقدِرُ أن يَعرضِها على القرآنِ، فيعرِفَ ما وافَقَه منها ممَّا خالَفه، إنَّما ذلك إلى الفقهاءِ، العُلماءِ، الجهابذة، النُّقادِ لها، العارِفين بطُرقها ومَخارجها»
(2)
.
وبهذا تَعلمُ غَلَطَ مَن توسَّع في هذا البابِ مِن بعض فضلاءِ عصِرِنا، فاستعجَلَّ ردَّ بعضِ الأخبارِ النَّبويَّة الصَّحيحةِ لما انقدح في ذهنِه من ظاهرِ المُعارضة للقرآن، دون استقراء لتوجيهاتِ العلماءِ المَاضين لهذا، وهذا السُّلوك المَنهجيُّ الخاطئ، قد فَتَح البابَ واسِعًا أمامَ المُتطفِّلين ليعبَثوا في أدلَّةِ الشَّرع، فينكبُّوا على جَلْدِ كلِّ حديثٍ لا يَروق لهم بسِياطِ القرآن.
والقرآن مِن هذه الجهالاتِ بَراءٌ؛ حتَّى بَلَغَ السَّفَه بأحدِ أولاءِ الرُّوَيبضة أن يُطالِبَ «باستبعادِ قُرابةِ ألفَيْن إلى ثلاثةِ آلافِ حديثٍ، نِصفُها على الأقل ممَّا جاءَ في الصَّحيحين، لأنَّها تَتَعارض مع القرآن»
(3)
!
وهذه بعضُ أمثلةٍ لأحاديثَ في «الصَّحيحين» ، ردَّها المُعاصِرون لفهمِهم الخاطئِ لآيِ القرآن، فنقول:
الِمثال الأوَّل: أحاديث الآياتِ الحِسِّيةِ للنَّبي صلى الله عليه وسلم:
حيث ادَّعى قومٌ بُطلانَ الأحاديثِ الواردةِ في إتيانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لبعضِ الآياتِ الحِسيَّةِ، كانشقاقِ القَمر، وجَريانِ الماء مِن بين أصابِعه الشَّريفة، بدعوى أنَّ
(1)
«الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام» لمحمد بن الحسن الحجوي (ص/109).
(2)
«نقض الدَّارمي على المرِّيسي» (2/ 602).
(3)
وهو جمال البنَّا في كتابه «السنة النبوية ودورها في الفقه الجديد» (ص/265).
القرآنِ دلَّ على قَصْرِ ما اختَصَّ به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن المُعجزات في القرآنِ وحدَه، وأن ليس مِن اختصاصِه الإتيانُ بآياتٍ خارقةٍ للعادةِ.
ترى هذا الاعتراضَ ماثلًا في دعوى (عابدٍ الجابريِّ): «نحنُ نُؤكِّد -فعلًا- أنَّ الشَّيء الوحيدَ الَّذي يُفْهَم مِن القُرآن بأكملِه، أنَّه معجزةٌ خاصَّةٌ بالنَّبي محمَّد صلى الله عليه وسلم: هو القرآن لا غير، فالقُرآن يَكفي ذاته بذاتِه في هذا الشَّأن .. »
(1)
.
واستدَلَّ بقولِه تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].
وكان (رشيد رضا) مِن السَبَّاقِين قبلَه للاستدلالِ بهذه الآيةِ على نفيِ الآياتِ الحِسيَّة
(2)
.
وليس فيما استَدَلَّ به ولا الجابِريُّ مُستمسَكٌ، ولا في الآيةِ ما يَدلُّ على دعواهما، فإنَّ الإغلاقَ واقعٌ في الآيةِ لإجابةِ أهلِ مكَّةَ فيما اقترحوه مِن آياتٍ بعينِها، لا في مُطلقِ الآياتِ، وذلك لكونِ التَّكذيب بعد وقوعِ الخارقِ المَطلوبِ يوجِبُ هلاكَ المُكذِّبين، كما في قولِه تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فلذا لم يُجِبهُم الله إلى طَلبِهم تلك الآياتِ بأعيانِها، رحمةً منه بقَومِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا، تكون (الـ) التَّعريفِ في {الآيَاتِ}: عَهْدِيَّة؛ وإلَّا فحصولُ الكفايةِ بالقرآن هو حَقٌّ لا نُمارِي فيه، فهي الآيةُ الكُبرى للنَّبي صلى الله عليه وسلم، لكنْ هذا لا يَقتضي نفيَ ما عداه مِن الآيات الحِسيَّة، والَّتي تَواترت عنه في الجُملةِ
(3)
.
(1)
«مدخل إلى القرآن الكريم» لمحمد الجابري (ص/187).
(2)
«مجلة المنار» (30/ 362).
(3)
وسيأتي مزيد تفصيلٍ في دفع المُعارضاتِ عن هذه الأحاديث في مَبحثِها المُناسب.
المثال الثَّاني: حديث سِحر النَّبي صلى الله عليه وسلم.
فقد شَنَّع (محمَّد الغزالي) على أهلِ الحديثِ روايَتهم لحديثِ سِحْرِ لَبيدِ اليهوديِّ للنَّبي صلى الله عليه وسلم، مع كونِه مُتَّفقًا على صِحَّتِه
(1)
(2)
.
ومَعلوم أنَّ المَنزع القُرآنيَّ لهذه الشُّبهةِ اعتزاليٌّ قديمٌ، لا يَكاد يخلو منه كلامُ مَن رَدَّ الحديثَ مِن الأقدَمِين، وتوارَثه المُنكِرون المُتأخِّرون، كـ (محمَّد عبده) الَّذي احتجَّ بالآيةَ، ليرُدَّ على بعضِ الأزاهرةِ الَّذين أنكروا عليه نُكرانَه للحديث
(3)
.
والآيةِ على غير ما أرَادا، فإنَّ المشركين إنَّما ابتغوا بقولهم:{إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} : أنَّ أمرَ النُّبوة كلُّه سِحْرٌ، وأنَّ ذلك ناشِئٌ عن أنَّ الشَّياطين استَولوا عليه -بزَعمِهم- يُلقون إليه القرآن، ويَأمرونَه، ويُفهِمونه، فيُصدِّقهم في ذلك كلِّه، ظانًّا أنَّه إنَّما يَتَلقَّى مِن الله ومَلائكتِه.
ولا ريبَ أنَّ الحال الَّتي ذُكِر في الحديثِ عُروضُها له صلى الله عليه وسلم لفترةٍ خاصَّةٍ، ليست هي هذه الَّتي زَعَمَها المُشركون، ولا هي مِن قِبَلِها في شيءٍ مِن الأوصافِ المَذكورة
(4)
.
الفرع الثاني: مِن أسبابِ استشكالِ الأحاديثِ النَّبويَّة ضَعفُ النِّسبة.
كثيرًا ما يُستشكَل حديثٌ تَلوح منه مَعالم المُخالفة الصَّريحة لصحيحِ المَنقول، أو صريح المَعقول، فيُتَّخذُ وسيلةً في تشكيكِ جَهلةِ المسلمين في سُنَّة نبيِّهم، ثمَّ يتَبيَّن بعد التَّفتيشِ عدم ثبوتِه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الطب، باب: السحر، رقم: 5766) ومسلم في (ك: السَّلام، باب: السِّحر، رقم: 2189).
(2)
«الإسلام والطاقات المعطلة» (ص/54).
(3)
«مجلة المنار» (33/ 41 - 43).
(4)
انظر «الأنوار الكاشفة» (ص/252)؛ وسيأتي مَزيد تفصيلٍ في دفع المُعارضاتِ عن هذه الأحاديث في مَبحثِها المُناسب.
أو يكون ما يُدَّعَى أصْلًا يُدفَعُ به في نحرِ الحديثِ هو الضَّعيفَ مِن حيث الثُّبوتِ، كأن يأتي المُعترضِ إلى واقعةٍ تاريخيَّة ما، فيرُدّ بها حديثًا ثابت الإسناد، بدَعوى أنَّه يخالف ما أثبتَته تلك الواقعة، مع أنَّ الواقعةَ ظَنِّية الثُّبوت! لا يجوز أن يُدفعَ بها حديثٌ قد صُحِّحَ لو فرضنا كونَه ظنيًّا أيضًا، فكيف إذا كان في «الصَّحيحين» ؟ والطَّامةُ إذا كانت الواقعةِ التَّاريخيَّة المُعارَض بها مَكذوبةً مِن الأساسِ!
وهذا السَّببُ في الاستشكال كسابقه مُتفرِّع إلى قِسمَين:
القسم الأوَّل: أن يكون الحديثُ المُعارَضُ غيرَ ثابتِ النَّقلِ أصلًا.
وذلك بأن يُستشكَلُ خبرٌ مَرويٌّ في بعضِ مُصَنَّفات الحديث، ويكون مَعناه باطلًا مُعارِضًا لأصلٍ قَطعيٍّ مِن الأصول، فإمَّا:
أن يتَكَلَّف ناسٌ مِمَّن لا خبرةَ لهم في الحديثِ تأويلَه على أوجهٍ مُتعَسِّفة
(1)
.
أو يَرميَ به آخرونَ أهلَ الحديثِ بتَقبُّلِ الأباطيل، ويتنقَّصون به السُّنة وأهلَها؛ مع أنَّ الحديثَ في الأصلِ لو فَّتشوا إسناده، لوَجدوه ساقط الاعتبار.
(2)
.
(1)
تَرى أمثلةَ هذا تَتْرَى في كِتابِ «مُشكِلِ الحديثِ وبَيانُه» لابنِ فورك، من ذلك حديث:«إنَّ الله تعالى لمَّا قضى خلقَه، استلقى وَوَضَع إحدى رِجْلَيه على الأخرى، ثمَّ قال: لا ينبغي لأحدٍ أن يفعل مثل هذا» ، فقد بالَغ ابن فورك في تأويلِه على أوجه مُستهجنةٍ في كتابه هذا (ص/120)، مع أنَّ الحديث مُنكر موضوع! انظر «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (2/ 177).
(2)
«درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية (1/ 150)(7/ 92)، وانظر «الصواعق المرسلة» لابن القيم (3/ 830).
فهذا النَّوع مِن الواهياتِ لا وجود له في «الصِّحيحين» -ولله الحمد- فنُمثِّل بشيءٍ منهما.
القسم الثَّاني: أن يكون الأصلُ المُعارَضُ به غير ثابت.
وذلك بأن يُأتى إلى حديثٍ صحيحٍ، فيُستَنكرَ متنُه، لأنَّه في زَعْمِ المُعترضِ يُخالفُ ما يعتقده حقيقةً، سواءٌ كانت تاريخيَّة أو عِلميَّة تجريبيَّةً أو نحو ذلك؛ وعند عَرضِ ما ادَّعاه تحت عَدَسة التَّحقيقِ، نجده مُجرَّد ظنونٍ لم تثبُت أصلًا، ولم ترقَ إلى القطعيَّات.
وأضربُ مِثالًا لهذا القِسم يَكثُر الزَّلل فيه في زمانِنا المُتأخِّر على وجه الخصوصِ، فأقول:
الفرع الأوَّل: مثال هذا القسم: الأحاديث المُدَّعاة مُخالفتها لمُقرَّرات العلومِ الحديثةِ.
المُتَقرَّر مِن منهجِ أهلِ السُّنةِ في هذا البابِ مِن التَّعارضِ بين الأحاديثِ الصَّحيحةِ ومُكتشفاتِ البَشَر في شتَّى العلومِ العصريَّة: أنَّ الكَلِمةَ العُلْيا فيه للنُّصوصِ الشَّرعيَّة الَّتي تَلقَّتها العلماءُ بالقبول، من غير إنكارٍ للعلمِ الحديثِ بوَسائِله المُبتَكرة النَّافعة، بل واستخدامِ نتائجِه القَطعيَّةِ في تعزيزِ مَكانةِ النُّصوصِ نفسِها.
والفتنةُ الكبرى الواقع فيها كثيرٌ مِن المُتشرِّعةِ في هذا الباب: سَعيُهم إلى التَّوفيق بين الأخبار النَّبويَّة وبين العلوم الحديثة في النَّتائجِ، لكنْ بمبدأِ سِيادةِ الثَّانية على الأولى! وقد يُعاد تفسيرُ الآياتِ القرآنيَّة، وتأويلُ الأحاديثِ بما يُوافِق تلك النَّتائج العِلميَّة، ولو ضُرِب بقواعد التَّفسير عرضَ الحائط، وإلَّا فما أسهل إبطال الأحاديثِ إذا خالَفت عندهم تلك المُكتشفات، ولو رَوَاها الثِّقات المُتثبِّتون.
وهذا الاتِّجاه في النَّقد غير مَقبولٍ شرعًا ولا عقلًا، فإنَّ جوهرَ الدِّين يَقوم على كونِه مَتبوعًا لا تابِعًا، ولا يُمكن أن يُعَطَّل حديثٌ نَبويٌّ قد أخَذَت به الأمَّة قرونًا مُتطاولةً، بدَعوى مُعارضتِه لنَظريَّاتٍ أو مُكتشفاتٍ عِلميَّة، تُقدَّم هي نفسُها للتَّجربةِ لتُمتَحَن، بل قد تُعَدَّل إلى فروضٍ أخرى، لتُقدَّم للتَّجربةِ مرَّةً أخرى!
(1)
(2)
؛ فرُبَّ حديثٍ صَحيحٍ، ظُنَّ ردحًا مِن الدَّهرِ أنَّه مُخالفٌ لمُقرَّراتِ العِلم، وبالبحثِ تَبيَّن أنَّ ما ظُنَّ مِن مُقرَّراتِ العلوم، ما هو إلَّا نظريَّات ظَنيَّة، أو آراء افتراضيَّة، بل أوهام باطِلة! ولعلَّ أجلى مِثالٍ على ذلك: نَظريَّةُ «دارْوِن» في النُّشوءِ والارتقاء
(3)
.
وها هُم علماء الغَربِ أنفُسهم، نراهم يعجزون عن إدراكِ حقائقِ الغَيبِيَّات الَّتي يجزم الإنسان بوُجودِها، وعن تفسيرِ كثيرٍ مِن الظَّواهرِ المُحَسَّة
(4)
، وعن الوصولِ إلى اليَقينِ في كثيرٍ مِن القضايا المَبحوثة، بل عَجَزَ كثيرٌ منهم عن تَفادي جُملةٍ مِن الأخطاءِ البَشريَّة في استنتاجاتِه المخبَريَّة، بل منهم من يَتعمَّد الكذب فيها!
ومِمَّن شَهد على شيءٍ من هذه البَوائقِ في تقرير مُخرَجات العلوم عند الغَرْبيِّين:
(1)
انظر «مَوقف الاتِّجاه العقلانيِّ الإسلاميِّ من النَّص الشَّرعي» لـ د. سعد العتيبي (ص/146).
(2)
«دستور الوحدة الإسلامية» ، محمد الغزالي (ص/160 - 161).
(3)
«فتاوى معاصرة» ليوسف القرضاوي (2/ 42).
أمَّا تشارلز دارْوِن (ت 1882 م): فهو عالم أحياءٍ وجيولوجي بريطاني، اكتسب شُهرتَه لتأسيسه لنظريَّة التَّطور في كتابِه «أصل الأنواع» ، ونظريَّتُه مَفادُها أنَّ الكائنات الحيَّة لها أسلافٌ مشتركة، كما أنَّ الإنسان سَلفُه قرد، وأنَّها مع مرور الزَّمن تَسبَّبت التَّغيُّرات التَّطوُّرية في أنواع جديدة، انظر «أيقونات التَّطوُّر» لجوناثان ويلز (ص/24).
(4)
فنحن نعلم ما الَّذي تفعله الكهرباء، لكن لا نعلم لماذا تعمل الكهرباء ما تعمله!
د. جِيمْس كونانْت (ت 1978 م)
(1)
(2)
.
الفرع الثَّاني: القاعدة في باب التَّعارض بين الأخبار النَّبويَّة وبين مُكتشفات العلوم الحديثة.
إنَّ تحريرَ مَقاصِد بعض أهل الحديث فيما قَعَّدوه مِن كونِ كلِّ خبرٍ كَذَّبه الحِسُّ أو التَّاريخ فهو باطل
(3)
: هو أمرٌ مَتَحتِّم حقٌّ في ذاتِه، فإنَّ ما قَطَع العقلُ بواسطةِ الحسِّ باستحالته، يَستحيلُ بمُقتضاه اعتقاد صدقِ خبره؛ إذْ معنى ذلك الجمعُ بين النَّقيضَيْن
(4)
.
لكن لا يُسترْوَحُ إلى طعنِ النُّصوص بمُجرَّد ما يَنشأُ في وَهْمِ النَّاظر أنَّه مُخالَفةٌ للحسِّ أو التَّاريخ أو العلومِ الحديثةِ، فإنَّ البَلِيَّة مِمَّن يسارع إلى تَقديمِ ما يَراه الدَّليلَ العِلميَّ الحِسِّيَّ على الحديث عند بُدوِّ أيِّ تَعارضٍ بينهما، فيجعلُ جِهةِ التَّرجيحِ كونَ الدَّليلِ عَقْليًّا أو عِلْمِيًّا تجريبيًّا بإطلاق.
وهذا لا شكَّ غلط من جِهة النَّظر القويم إلى مراتب الأدلَّة، بل الصَّحيح في مثلِ هذا المَقامِ، أن نسلُك ما سلكه بعضُ المُحقِّقين في مقامِ تَعارُض العَقلِيَّات مع النَّقليَّات، فنقول:
هل هذا الحديث النَّبوي، وهذه النَّتيجة العِلميَّة التَّجريبيَّة، هما دليلانِ قَطعيَّان أم ظنِّيان؟ أو أنَّ أحدَهما قطعيٌّ والآخر ظنيٌّ؟!
(1)
جِيمس كونانْت: أستاذ في الكيمياء، ورئيس جامعة (هارفرد) من سنة 1932 إلى 1953، انظر مقدمة د. أحمد زكي في ترجمتِه لكتابِ «مواقف حاسمة في تاريخ العلم» لـ د. كونانت.
(2)
«مواقف حاسمة في تاريخ العلم» (ص/33).
(3)
انظر «الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 150)، و «المنار المنيف» لابن القيم (ص/44).
(4)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/759 - 760).
1 -
فإن قيل أنَّهما قَطعيَّان: فإنَّ القطعيَّ لا يعارضُه قطعيٌّ آخر، كما تقدَّم.
2 -
وإن كانا ظَنِّيين: فالمُقدَّم هو الرَّاجح منهما على الآخر، سواءٌ كان نقلِيًّا أو عِلميًّا تجريبيًّا؛ فمدخل التَّقديم هنا هو الرُّجحان، لا كونه نَقليًّا أو عِلميًّا.
3 -
وأمَّا إنْ كان أحدُهما قَطعيًّا والآخرُ ظَنيًّا: فالقَطعيُّ هو المُقدَّم مُطلقًا
(1)
.
فأحسَبُ أنَّ هذا التَّقسيمَ واضحٌ مُتَّفَق على مَضمونِه بين العُقلاء.
وشَرطُ هذا القَطْعِ: التَّحقُّقُ مِن حصولِ مُخالفةِ الحديثِ للحسِّ أو الواقع المُشاهَد أو مُقرَّرات العلمِ القطعيَّة؛ فإنَّ هذه قد يَعتريها الغَلَط والوَهْم أو الكذب، وما يُقَدَّر وُرُودُه على النَّقلِ، يُقدَّر ما هو أبلَغُ منه على الحِسِّ والتَّجربة.
(1)
سيأتي تفصيل هذه القاعدة في المَبحث التَّالي.