الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الرَّابع
الجواب عن دعوى المُستشرق إقحام أثر عمرو بن ميمون
في «صحيح البخاريِّ» لنَكارة متنِه
فهذا النَّص الأوَّل الَّذي تشاغب به (جولدزيهر) ليُثبت إقحامِ حكاية عمرو بن ميمون عن رجم القِرْدة في أصلِ «الصَّحيح» بكلام الحميديِّ، مُتْبِعًا ذلك بذكر استنكارِ ابنِ عبد البرِّ لمتنِه؛ فلو كان ترَيَّث ونظر في تعقُّب ابنِ حَجرٍ على الحُمَيديِّ عند شرحِه لهذا الأثر، وهو قوله:
«أغربَ الحُمَيديُّ في «الجمع بين الصَّحيحين» ، فزَعَم أنَّ هذا الحديثَ وَقعَ في بعضِ نُسخ البخاريِّ، وأنَّ أبا مسعودٍ وحدَه ذكَرَه في الأطراف .. وما قالَه مَردودٌ! فإنَّ الحديثَ المَذكورَ في مُعظمِ الأصولِ الَّتي وَقَفنا عليها، وكَفى بإيرادِ أبي ذرٍّ الحافظِ له عن شيوخِه الثَّلاثة الأئمَّةِ المتقنين عن الفَربري حُجَّةً، وكذا إيراد الإسماعيليِّ وأبي نعيم في مُستخرَجَيهما، وأبي مسعود له في أطرافِه.
نعم؛ سَقط مِن روايةِ النَّسَفي، وكذا الحديثُ الَّذي بعده، ولا يَلزم مِن ذلك أن لا يكون في روايةِ الفَربري، فإنَّ روايتَه تَزيدُ على روايةِ النَّسفي عدَّةَ أحاديث .. وقد أطنبتُ في هذا المَوضعِ لئلَّا يَغترَّ ضعيفٌ بكلامِ الحُمَيديِّ، فيعتمَدَه وهو ظاهرُ الفسادِ»
(1)
.
(1)
«فتح الباري» (7/ 160 - 161)، وقد وافَقه القسطلاني في «إرشاد السَّاري» (6/ 182)، وهو مِن أعلمِ النَّاس بعده بمَرويَّات «الجامع الصَّحيح» .
فهذا ما يَستَحِقُّ أن يُسَمَّى تحقيقًا وجِدِّيةً في التَّوثُّقِ العلميِّ لا عجَلَة الاستشراق! هذا والحميديُّ نفسه لم يجزِم بما قالَ في كلامه السَّالف، إنَّما ظَنَّ ظنًّا! بحسب ما توافرَ لديه مِن نُسَخ وقته، يدلُّ على عدم جزمه قوله:« .. إنْ صَّحَت هذه الزِّيادة، فإنمَّا أخرَجَها البخاريُّ دلالةً على أنَّ عمرو بن ميمون قد أدركَ الجاهليَّة .. »
(1)
.
لكن عجَبي مِن ابنَ الأثيرِ! كيف استجاز الجزمَ بكونِ حكاية ابنِ مَيمونٍ «مِمَّا أُدخِلَ في صحيحِ البخاريِّ»
(2)
؟! مع أنَّ مَصدرَ دعواه هو الحُميديِّ ولم يجزم بذلك؟!
وأمَّا استبعادُ (جولدزيهر) أن يُخرج البخاريُّ هذا الخَبرَ في «صحيحِه» لِما فيه مِن نَكارةٍ تُدَّعى في إضافةِ الزِّنا إلى غيرِ مُكَلَّف، وإقامةِ الحَدِّ على البَهائم .. إلخ.
فجواب ذلك لمِن لم يُحط بالأخبار علمًا أن يُقال:
إنَّ القِرَدَة تختصُّ عن أكثرِ الحيواناتِ مِن جنسِ الثَّديِيَّاتِ، باتِّخاذِ ذكورِها لإِناثٍ تَختصُّ بها، أشبه ما يكون بما عندنا نحن البشر مِن ارتباطِ الذَّكَرِ بالأنثى في عقودِ الزَّوَاجِ، بحيث تَلزَمُ أنثى القُرودِ ذَكرًا واحدًا يَختصُّ بها، يمنعُ أن يَنزُوَ عليها غيرُه، بل يَهيجُ غَضَبًا لذلك، لِما رُكِّب فيهم مِن غِيرةٍ مُشابهةٍ لبني آدمَ، وهذا أمرٌ مَعروف عنها منذ القِدَم.
فانظر في تقرير هذه الحقيقة الحَيوانيَّة، إلى قول الجاحظ في وصفِه للقِرَدة:«يُحكى عنه مِن شِدَّة الزَّواجِ، والغِيرةِ على الأزواج، ما لا يُحكَى مثلُه إلَّا عن الإنسان! .. واجتمعَ في القِرْد (الزَّواجُ والغِيرة)، وهما خِصلتان كريمَتان، واجتماعهما مِن مَفاخِر الإنسانِ على سائرِ الحيوان»
(3)
.
ويزيد ابن حَجرٍ وصفَه له: «فيه مِن شِدَّة الغِيرة ما يُوازي الآدميَّ، ولا يَتَعدَّى أحدُهم إلى غيرِ زوجتِه، فلا يَدَعُ في الغالبِ أن يحمِلَها ما رُكِّب فيها مِن الغِيرة، على عقوبةِ مَن اعتدَى إلى ما لم يختَصُّ به مِن الأُنثى»
(1)
.
وقد ثبَتَ اليومَ فيها أفعالٌ تَدلُّ على ذَكاوَتِهم، وقِصَصُها شَهيرة فيما يَبثُّه الإعلامُ مِن برامج، يَتعَجَّبُ منها كلُّ ذي عَيْنين؛ وقد وَقفتُ بنفسي على دراسةٍ عِلميَّة حديثةٍ شاهدةٍ على ذلك، أُجرِيَت في حديقة وطنيَّةٍ بغربِ أُوغَندا، أظهرت: تَشابهًا مَلحوظًا في السُّلوكِ الاجتماعيِّ بين ذكورِ (الشَّامْبَانزِي) والإنسانِ، إلى الحَدِّ الَّذي تَتَجنَّب فيه زواجَ الأقاربِ مِن أصولٍ وفروعٍ!
بل أثبتَ الباحثونَ مِن نفسِ المَحميَّة، نتائجَ دراسةٍ مُلَخَّصُها في اثني عشرة صفحةٍ، استغرقَ إجراءُها تسعَ سِنينَ، توصَّلوا فيها إلى: أنَّ قِرْدَ (الشَّامْبَانزِي) الذَّكَر فيه مِن (الغِيرة الجِنسِيَّة) ما يُصبح به عُدوانيًّا عند الاشتباهِ في كونِ شريكَتِه الأنثى قد ضاجَعَت قِردًا آخرَ! وأنَّ الكثيرَ منهم نتيجةَ ذلك إمَّا أن يُشوِّهَ شريكَتَه الأنثى! أو يَنفِرَ منها أبَدَ الدَّهر!
(2)
فلأجل هذا أقول:
لا يلزم مِن كونِ صورةِ الواقعةِ في خبرِ ابنِ ميمونٍ صورةَ الزِّنا والرَّجم، أن يكون ذلك زِنًا حقيقةً ولا حَدًّا! وإنَّما أُطلِق عليه لشَبَهِه بهِ في الصُّورة فقط، فلا إيقاعَ للتَّكليفِ على الحيوانِ كما تَوهَّمَه المُعترض
(3)
.
فأمَّا عن شَبَهِه في الصُّورةِ للزِّنا: فلعَلَّ في سَوْقِ أصلِ القِصَّة مِن وجهِها المُطَوَّل، تجليةً لوجهِ الشَّبَه الَّذي لأجلِه صَوَّر ابنُ مَيمونٍ فِعلَ القِرْدَين على صورةِ ذلك، وهي:
(1)
«فتح الباري» (7/ 160).
(2)
دراسة علميَّة بعنوان: " Female compitition in champanzees"، أي:«المنافسة الأنثويَّة عند قِرَدة الشَّمْبانزي» ، للبَاحثتين (Anne E. pusey) و Kara walker»، وهو منشور بالموقع الرَّسمي لمجلَّة الطِّب الحَيوي وعلوم الحياة في المكتبة الوطنيَّة الأمريكيَّة للصِّحة، وانظر الخبر أيضًا في جريدة (الغد) الأردنيَّة على موقعها الإلكترونيِّ، بتاريخ 11 يونيو 2006 م.
(3)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (7/ 160).
مِن طريقِ عبد الملك بن مسلم
(1)
، عن عيسى بن حطَّان
(2)
،
أنَّه شهِد عمرَو بنَ ميمون، حين سُئِل عن أعجبِ ما رأى في الجاهليَّة؟ قال:
«كنتُ في اليَمَن في غَنمٍ لأهلي، وأنا على شُرُفي، قال: فجاءَ قِردٌ ومعه قِردة، فتوسَّد يدَها فوَضَع يدَه فوق جسَدَها فنام، قال: فرأيتُ قردًا أصغرَ منه جاء يمشي خفيًّا، حتَّى غمز القِردة بيده، ثمَّ وَلَّى ذاهبًا، قال: فسَلَّت يدَها مِن تحتِ خدِّه سلًّا رقيقًا، قال: ووَضَعَت خدَّه على الأرض، ثمَّ تَبِعَته، قال: فوَقَع عليها وأنا أنظر إليه.
قال: ثمَّ رَجَعتَ، فجَعَلت تُدخِل يدَها تحتَ خدِّه إدخالًا رقيقًا، قال: فاستيقظَ فزِعًا مذعورًا! قال: وأطافَ بها وشمَّها، ثمَّ شمَّ حياهَا
(3)
، فصاحَ صيحةً شديدةً، قال: فجَعَلَت القُرود تَجيء يَمنةً ويسرةً، مِن بين يديه ومِن خلفه، واجتمعَ منهم جماعة، قال: فجَعَل يَصيح ويُومئ إليها بيَدِه، ثمَّ سَكَت، قال: فذَهَبت القرود يمنةً ويسرةً، قال: فما لبِثنا أن جاءوا به بعينِه أعرفُه، فحَفَروا لهما حُفَيرة فرَجموهما، فلقد رأيتُ الرَّجم في غيرِ بني آدم قبل أن أراه في بني آدم!»
(4)
.
وقد علِمنا قبلُ اختصاصَ كلِّ أنثى من القرودِ بذَكرٍ مُعَيَّنٍ، فإذا أمكَنَتْ نفسَها مِن آخر مع بقاء ارتباطِها بالأوَّل: عُدَّ ذلك في طباعِها خِيانةً، يستحقُّ فاعِلُه العقابَ، كحالِ الإنسان تمامًا.
(1)
عبد الملك بن مسلم بن سلام الحنفي، أبو سلام الكوفي، ثقة شيعي، من كبار أتباع التابعين، انظر «تهذيب الكمال» (18/ 415).
(2)
عيسى بن حطَّان الرقاشى، من أواسط التابعين، وَثَّقه العجلي وابن حبَّان، انظر «تهذيب الكمال» (22/ 590).
هذا وإنَّ قول ابن عبد البرِّ في «الاستيعاب» (3/ 1206) في عبد الملك بن مسلم، وعيسى بن حطَّان:«لَا يُحْتَجُّ بهما» : ممَّا ردَّه عليه ابن حجر، فإنَّ عبد الملك ثقة مِن رجال الصَّحيح، ولم يسبقه أحد في تضعيفه، وأمَّا عيسى فقال في «التَّقريب»:«مقبول» ، أي حسن الحديث إذا توبع، فحديثه لا بأس به في غير الأحكام على وجه الخصوص، وانظر «لسان الميزان» لابن حجر (6/ 260).
(3)
أي: دُبرها، كما في رواية أبي نعيم في «معرفة الصحابة» (4/ 2047).
(4)
أخرجه ابن شاذان في «أجزائه» (ج 2/ 101 مخطوط)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4/ 2047)، وساقها الإسماعيلي في «مستخرجه» من نفس هذا الطَّريق، كما في «الفتح» لابن حجر (7/ 160).
وغالبُ القِرَدَة لا تُعدَمُ مَخالبَ وأنيابًا تقتلُ بها كالمُفتَرِساتِ، فـ «منها ما يَعَضُّ، ومنها ما يخدش، ومنها ما يَكسِر ويُحطِّم، والقرودُ ترجُم بالأكُفِّ الَّتي جَعَلها الله لها، كما يرجُم الإنسان»
(1)
؛ وبِذلك تَوسَّلَت لقتلِ القِردَيْنِ الخائنينِ في خبرِ ابنِ ميمون.
ومثلُ هذه العقوبات الانتقاميَّةِ مِن الذَّكورِ على مَن اعتدى على خصوصِيَّتِها الجِنسيَّةِ، قد شاهدَه النَّاسُ في زمانِ ابن تيميَّة (ت 726 هـ) في غير القرودِ، حتَّى في الطُّيور
(2)
!
فحاشا البُخاريَّ أن يُريد بهذا الخبرِ حقيقةَ الزِّنا وحَدِّه في الشَّرع، وإلَّا لأوردَه في كتابِ الحدودِ في باب (رَجم المُحصَن) -مَثلًا- أو (إِثم الزُّناة)، وعنده في هذين مِن أحاديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأقوالِ صحابتِه ما فيه غُنيةٌ له عن روايةِ رجلٍ في جاهليَّتِه.
إنَّما أوتي المُعترض على البخاريِّ في هذا الخبر: مِن ظنِّه أنَّ كلَّ خَبرٍ يورِدُه الأئمَّة في مُصَنَّفات الحديث هو دِينٌ، يُراد به تشريعٌ أو عقيدة! والحالُ أنَّ المحدِّثين قد يَرْوُون في جوامعهم ما يخرُج عن هذا، فيسوقونَ أخبارَ تاريخيَّةً، منها أحوالُ النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل البِعثة، وأحاديثُ صِفاتِه الخِلْقِيَّة، وهذان ليسا مِن التَّشريع في شيءٍ؛ أو أخبارَ الجاهليِّين اعتِبارًا أو استظْرَافًا؛ وهنا ساق البخاريُّ أثرَ عمرو بن ميمون! حيث أخرجه في بابِ (أيَّام الجاهليَّة) مِن كتابِ المَناقب.
ووَجه المناسبةِ بين أثر ابن ميمونٍ وبين ترجمةِ البابِ لا تخفى: فالقصَّة فيها تحكي أمرًا غريبًا وَقَع في الجاهليَّة؛ وقوله فيها: « .. فرجمتُها معهم»
(3)
: دلالةٌ لطيفةٌ على عظيمِ قُبحِ خيانةِ العَشيرِ عند العربِ مع جاهِلِيَّتِها، حتَّى استحقَّ فاعلُها عندهم شديدَ العِقاب.
(1)
«تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/373).
(2)
«مجموع الفتاوى» (11/ 545)
(3)
أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصَّحابة» (4/ 2047).
وفيه أيضًا دَلالة على أنَّ عمرو بن مَيمون مِمَّن أسلَمَ وقد أدركَ الجاهليَّة
(1)
، فلأجلِ ذلك اختارَ له البخاريُّ هذه الحكاية، وفي هذا الباب تحديدًا
(2)
.
فهذه النُّكَت الَّتي استعصَى على المُعترضِ لمْحها، ولعمايته اتَّهم الخبر بعدمِ الفائدة؛ وقد أطنبتُ في هذا الموضع -كما أطنَبَ ابن حَجرٍ قبلي في الرَّدِ على الحُميديِّ- كي لا يَغترَّ ضعيفٌ بكثرةِ ما يَبثُّه الزَّائغون مِن الشُّبَه على هذا الخبر، تسفيهًا لعقلِ مُخرِّجه، فيعتمدَها وهي ظاهرة الفسادِ.
(1)
انظر «الجمع بين الصَّحيحين» للحميدي (3/ 490).
(2)
قرَّر هذه النُّكتة ابن الجوزي في «تلقيح فهوم أهل الأثر» (ص/288).