الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
الاختلاف في ما يفيدُه خبرُ الواحدِ على ثلاثةِ أطرافٍ والصَّواب في ذلك
اختلف النَّاس في ما يفيدُه خبرُ الواحدِ على ثلاثةِ أطرافٍ:
طرفٌ مِن أهل الكلامِ ونحوهِم: مِمَّن هو بعيدٌ عن معرفةِ الحديثِ وأهلِه، لا يُميِّز بين الصَّحيح والضَّعيف، فيشكُّ في صحَّةِ أحاديث، أو في القطع بها، مع كونِها معلومةً مقطوعًا بها عند أهلِ العلم به، فيحكم على الكلِّ بالظَّنيَّة ما عدا المتواتر
(1)
.
فبهؤلاء تأثَّر النَّووي في رَدِّه على ابن الصَّلاح.
وطرف آخر: ممَّن يدَّعي اتِّباعَ الحديث والعمل به: كلَّما وَجد لفظًا في حديثٍ قد رواه ثقة، أو رأى حديثًا بإسنادٍ ظاهرُه الصِّحة: يريد أن يجعل ذلك من جنسِ ما جَزم أهل العلم بصحَّته، حتىَّ إذا عارَض الصَّحيحَ المعروفَ، أخذَ يتكَلَّف له التَّأويلات الباردة، أو يجعله دليلًا له في مسائل العلم، مع أنَّ أئمَّة الحديثِ يَعرفون أنَّ مثل هذا غَلط
(2)
.
(1)
انظر «المعتمد» لأبي الحسين البصري (2/ 92).
(2)
انظر هذا التقسيم في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (13/ 353).
ويلاحظ في وصفِ ابن تيميَّة لهذا الطَّرف الثَّاني أنَّه لم ينسب إليه القولَ باعتقادِ القطعِ بكلِّ آحاد رواه الثِّقة، وإنَّما وصفهم بسوءِ استعمالهم لهذه الآحاد وتجازوهم للحدِّ المعقول فيها لفرطِ جهلهم بمنزلتِها المُستحقَّة، وإلَّا فلا أحد من العقلاء يقول ذلك.
وِمن هنا يظهر غلط عددٍ من الأصوليِّين في نسبةِ القولِ بإفادة الحديث الواحدِ للقطع إلى الحنابلة وأهل الظَّاهر، ونبزِهِم فوق ذلك بـ «الحشويَّة» لأجل ذلك، كما تراه عند الجُويني في «البرهان» (1/ 231) -غفر الله له-، وهذا ناتج عن توهُّمِه من بعض عبارات المحدِّثين، أنَّهم يحكمون للآحاد بالعلمِ اكتفاءً بظاهر الإسناد، دون التدقيق في باطن عِللها والنَّظر في مُعارضات ذلك.
هذا فضلًا عمَّن يغلِط على أحمد بنسبة هذا القولِ إليه! كما تَراه عند الآمديِّ في «الإحكام» (2/ 32)، وبَيَّن أبو يعلى في «العُدة» (3/ 900 - 901) أنَّ إمامَه أحمد إنَّما يقول بالعلمِ إذا كان الحديث قد تُلقيَّ بالقبول، أو احتفَّ به من القرائن ما يفيده ذلك.
وقد أغلظَ ابنُ القيِّم القولَ في هؤلاء الأصوليِّين لأجل هذه النِّسبة المغلوطةِ، حتَّى قال:«كذب بعض الأصوليِّين كذبًا صريحًا لم يقله أحد قطُّ، فقال: مذهب أحمد في إحدى الرِّوايتين عنه أنَّ خبر الواحد يفيد العلم من غير قرينة، وهو مطَّرد عندهم في كلِّ خبر! .. فيا لِله العجب! كيف لا يَستحي العاقل من المجاهرة بالكذب على أئمَّة الإسلام؟! لكنَّ عذر هذا وأمثاله أنهم يستجيزون نقلَ المذاهب عن النَّاس بلازم أقوالهِم، ويجعلون لازم المذهب في اصطلاحهم مذهبًا» ؛ انظر «مختصر الصَّواعق المرسلة» (ص/615).
والصَّواب في هذا مذهبُ جمهورِ العلماء بالحديث والأصول مِن المُتقدِّمين، وهو الموافقُ للشَّرع والعقل: أنَّ خبر الواحد الثِّقة إذا كان خاليًا من أيِّ قرينةٍ جابرةٍ لاحتمال الغَلطِ فيه، بقي على أصلهِ الصَّحيح مُفيدًا للظَّنِّ من حيثُ هو، قبلَ انضمام القرائنِ المُقويَّة إليه
(1)
؛ كتلقِّيه مِن قِبل الأمَّة بالقبول، واستفاضتِه، أو تسلسلِه بالأئمَّةِ الحُفَّاظ الفقهاء، ونحو ذلك من القرائن، قدرَ ما يكفي النَّاظرَ فيها للتَّسليم بكونِه صادرًا عن المُخبِر به، فيرتقي الحديثُ إلى مرتبةِ العلمِ به
(2)
.
هذه القرائن، وإنْ كان المازَريُّ (ت 536 هـ) لا يَراها ممَّا يُشار إليها بعبارةٍ
(1)
«النكت الوفية» للبقاعي (1/ 176).
(2)
انظر «الفقيه والمتفقه» (1/ 278)، و «نهاية السول شرح منهاج الوصول» (ص/257 - 258)، و «المختصر لابن الحاجب - بشرح الأصفهاني» (1/ 645)، و «روضة الناظر» (1/ 260 - 263)، و «الإحكام» للآمدي (2/ 32)، و «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (13/ 351)، و «مختصر الصواعق المرسلة» (ص/456 - 459)، و «إرشاد الفحول» (ص/138).
تضبطها
(1)
، فيُمكن أن يُقارَب تعريفها بأن يُقال:«هي ما لا يَبقى معها احتمالٌ، وتسكُن النَّفس عندها، مثل سكونها إلى الخبرِ المُتواتر أو قريبًا منه»
(2)
.
وممَّا يحقِّق أنَّ خبرَ الواحدَ الواجبَ قَبولُه يُوجبُ العلمَ: قيامُ الحجَّة القويَّة على جواز نسخِه للمَقطوع به، فمَشهورٌ رجوعُ أهل قباء عن القبلة الَّتي كانوا يَعلمونها ضرورةً من دين الرَّسول صلى الله عليه وسلم بخبر واحد، وكذلك إراقةُ الخمر ونحو كذلك، «فإذا قيل: الخبرُ هناك أفادَهم العلم بقرائن احتَفَّت به، قيل: فقد سلَّمتم المسألة، فإنَّ النِّزاع ليس في مُجرَّد خبر الواحد، بل في أنَّه قد يُفيد العلم»
(3)
.
ومِن أحسنِ ما يُمَثَّل به للدَّلالةِ على مَعقوليَّةِ هذا المذهب: ما مثَّل به الآمديُّ من جِهة الواقع: أنْ لو كان في جوار إنسان امرأته الحامل، وقد انتهت مدَّة حملها، فسمع الطَّلق من وراء الجدار، وضجَّة النِّسوان حول تلك الحامل، ثمَّ سمع صراخ الطِّفل، وخرج نسوةٌ يقلن: إنَّها قد ولدت، فإنَّه لا يستريب في ذلك، ويحصل له العلم به قطعًا، وإنكار ذلك ممَّا يخرج المناظرة إلى المكابرة
(4)
.
وتفريعًا عن هذا التَّأصيل، نسأل سؤالًا يتَّضح به المُراد، فنقول:
هل يستطيع المسلم المتَّبِع أن يَحلفَ -مثلًا- على حديث: «إنَّما الأعمال بالنِّياتِ» أنَّه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم؟
(5)
فإن قال: نعم؛ فهذا معنى إفادة العلم، لأنَّه إنَّما حَلَف على ما جَزم به.
(1)
«إيضاح المحصول» للمازري (ص/434).
(2)
«البحر المحيط» للزركشي (6/ 138).
(3)
«المسودة في أصول الفقه» لآل تيمية (ص/247).
(4)
«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/ 37).
(5)
يقول تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة: «قوله صلى الله عليه وسلم «إنَّما الأعمال بالنِّيات» هو ممَّا تلقَّاه أهل العلم بالقَبول والتَّصديق وليس هو في أصله متواترًا، بل هو من غرائبِ الصَّحيح، لكن لمَّا تلقَّوه بالقَبول والتَّصديق صار مقطوعًا بصحَّته، وفي السُّنن أحاديث تلقَّوها بالقَبول والتَّصديق، كقوله صلى الله عليه وسلم:(لا وصية لوارث)، فإنَّ هذا مما تلقَّته الأمَّة بالقَبول والعَمل بموجبِه، وهو في السُّنن ليس في الصَّحيح».
وإن قال: لا! فهنا انغلقَ عليه فهمُ الأصلِ الَّذي ابتُنيت عليه مَراتب الأخبار.
بيانُ ذلك: أنَّ «الخبرَ لا تأتيه الآفةُ إلَّا من كَذِبِ المُخبر عمدًا أو من جهةِ خطئِه»
(1)
، فإثبات القطعيَّة أو نفيِها عن الأخبار مداره على احتمال وجود تلك الآفةِ من عدمها، وما دام الرَّاوي غير مَعصوم من هذا كلِّه، تأتي بعض القرائن مَضمومةً إلى خبرِه، فتُزيل هذا الاحتمال مِن الأذهان وتُلغيه.
وما دامَت قرائنُ التَّصحيح مُفيدةً للظنِّ عند التَّجريد في الجُملة، كإتقانِ رُواة الإسنادِ وإمامتِهم في الحديث، الَّذي حاصل في سَلاسل الذَّهب، أو حديثٍ مَشهورٍ ذي طُرق كثيرة مُتباينة، سالمةٍ من أيِّ علَّة: فإنَّ هذه القرينةَ -والحالة هذه- تقوم مَقام خبرٍ آخر؛ ثمَّ لا يزال التَّزايد في الظَّنِّ بزيادة اقترانِ القرائنِ بالخبر، أو قوَّتِها في ذاتِها، إلى أن يحصُل العلم، حتَّى لا يَرِد عليه ما افُترض من احتمال كذب الرَّاوي أو غلطه.
فإذا كانت القرائن وحدَها قد تفيد العلم، فإذا انضمَّ إليها ما صَحَّت نسبتُه بروايةِ العدل الضَّابط عن مثله، فقامت بذلك مَقام الشَّواهد: أفادَت العلمَ مِن باب أولى
(2)
.
وفي تقريرِ هذا الأصل في تقويةِ القرائن للأخبار، يقول الشَّاطبي:«للاجتماعِ من القوَّة ما ليس للافتراق، ولأجلِه أفاد التَّواتر القطعَ، وهذا نوعٌ منه، فإذا حَصَل من استقراء أدلَّة المسألة مجموعٌ يفيد العلم؛ فهو الدَّليل المَطلوب، وإذا تكاثَرت على النَّاظر الأدلَّة، عضَّد بعضُها بعضًا، فصارت بمَجموعِها مفيدةً للقطع»
(3)
.
(1)
1) «جواب الاعتراضات المصرية» لابن تيمية (ص/36).
(2)
انظر «خبر الواحد وحجيته» لابن عبد الوهاب الشنقيطي (ص/183، 202)، و «القطعية في الأدلة الأربعة» لمحمد دكوري (ص/334).
(3)
«الموافقات» (1/ 30).
لكن لمَّا كان النَّاظر في مثل هذه الأخبار يحتاج إلى جهدٍ في استقراءِ الطُّرق والشَّواهد، وأحوالِ الرُّواة والمتون، كَيْ يطَّلِع على تلك القرائن العائدِ مُجملها إلى المُخبِر، وبعضُها يرجع إلى المُخبَر عنه، وبعضها يرجع إلى المُخبَر بِه: كان الحُكم بالقطعيَّة بهذه المثابةِ لا يُتأتَّى لأيِّ أحدٍ، ولا يلزم اطِّراد هذا الحكم لجميع مَن وقف على ذاتِ الخَبر.
فلا يُستشكَل -إذن- عدمُ إفادتها للعلمِ لبعض العلماء غير ذوي التَّخصَّص الحديثيِّ، فإنَّما تُدرَك الكليَّات باستقراء الجزئيَّات، وهذه القرائنُ إنَّما عالجها المُحدِّثون حتَّى صاروا أحَقَّ بها وأهلَها، فما مِن حديثٍ إلَّا وتجدُ لأهل الحديثِ فيه حُكمًا مع إحاطةٍ واسعةٍ بالطُّرق، وطبقات الرُّواة، ومداخل الوَهم، حتَّى كانوا أدرى النَّاس بلسانِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وحالِه «1).
(2)
.
وأمَّا مَن نحى خلافَ هذا الأصل الَّذي قرَّرناه صوابًا مِن بعض علماء أهل السُّنة، مِمَّن يظهر مِن كلامِه المنعُ من تأثير القرائن في التَّصديقِ مطلقًا، فإنَّ قصده نفي القطعيَّة عن قرائن معيَّنة لا عن كلِّها، أو يكونَ بعضهم قد استبعدَ تحقُّقها من جهة الواقع، لانتفاء التَّجربة الدَّالة على ذلك في واقع النَّاس
(3)
، وإن كان جنس تأثيرها مُسلَّمًا عندهم
(4)
؛ والله أعلم.
(1)
انظر «مجموع الفتاوى» (18/ 69 - 70)، و «مختصر الصواعق المرسلة» (ص/564).
(2)
«المنار المنيف» (ص/44).
(3)
قد صرح بمثله الغزالي في «المستصفى» (ص/109).
(4)
انظر «القطعية من الأدلة الأربعة» (ص/331).