الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الرَّابع
جواد عفانة
وكتابه «صحيح البخاري، مخرَّج الأحاديث محقَّق المعاني»
الفرع الأوَّل: نظرة إجمالية إلى كتاب (عفانة).
تسويدُ هذا الكاتب الأردنيِّ أشبه ما يكون بتخريجٍ لأحاديث «البخاري» ونقد صحيحِه مِن ضَعيفه، هذا الضَّعيف الَّذي غَلَب على ثُلثَي «الصَّحيح» ! فليس يصحُّ عنده مِن أحاديثِ الكتاب إلَّا أقلُّ مِن الثُّلث؛ مع اعترافِه -مَشكورًا! - أنَّ نسبةَ الصِّحة الإسناديَّةِ في كتاب البخاريِّ، واقعةٌ على «على 97 _، مع بقاء 3 _ مِن «صحيحِه» غيرَ صحيحٍ سَنَدًا، وذلك عملٌ -والله- كبيرٌ كبيرٌ»!
(1)
ولأنَّ (عفانة) عالمٌ بخطورة ما أقدم عليه في كتابه من نقضِ المُسلَّمات السُّنيَّة، مشفقٌ من احتمالِ صدمةٍ فكريَّةٍ تنِّفر القارئ من كتابِه وتُسخطه على راقِمه، فقد حاول تخفيف وطأةِ فِعلتِه بالتَّقليل من قيمة السُّنة ومَرويَّاتها من حيث التَّشريع، فقال ببرودة دمٍ:
(1)
انظر كتابه «اللباس الشرعي وطهارة المجتمع» (ص/5).
وحين أحسَّ (عفانة) بتَماشي كلامِه في هذا الباب مع ما يقوله القرآنيُّون وانسجامه مع تأصيلاتهم، سارع لردِّ هذا التَّلازم بتغليطِ مَن يفهم من كلامِه ذلك، وذلك -في رأيِه- أنَّ القرآنيِّين ساعون في إسقاط السُّنة كلِّها، أمَّا هو فساعٍ في إسقاطِ شطرِها فحسب! إذ أنَّ «ردَّ السُّنة كلِّها سوف يؤدِّي إلى مشاكل وصعوبات كبيرة في فهم القرآن وتطبيقاته العمليَّة»
(1)
.
مهَّد المؤلِّف كتابه بمقدِّمة بيَّن فيها موقفه مِن «الجامع الصَّحيح» في الجملة، حيث شَرَح متأسِّفًا ما آلَ إليه هذا الكتابُ مِن تقديسٍ عند العامَّة نتيجةَ تسلُّطِ الجهلِ والتَّقليدِ والخُرافة عليهم قرونَ مُتطاولة، فكان أن عبَّر عن هذا الواقعِ المُتوهَّم بصياغةٍ دراميَّةٍ قال فيها:
« .. وسَادَ الجهل، وصارَ فهم القرآن عزيزًا بعد اعتماد المسلمين التَّقليدَ منهجًا، والخرافةَ ديدنًا، إثرَ تخلِّيهم عن المنهجِ العلميِّ العقليِّ القرآنيِّ؛ تمسَّك جمهور المسلمين بـ «صحيح البخاري» تمسُّكًا شديدًا، وأنزلوه منزلةً عظيمةً، حتَّى قال أحدهم: هو أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى!
وعلى الرَّغم مِن أنَّ هذه العبارة لا تعني أنَّه صحيحٌ كلُّه، إلَّا أنَّه قد خرج علينا بعض المُقلِّدين في العصورِ المُتأخِّرة بعبارةٍ تقول: صحيحَا البخاري ومسلم، تَلقَّتهما الأمَّة بالقَبول، لشيءٍ لا يجعله مَصدرًا شرعيًا .. »
(2)
.
العجيب المُضحك حقيقةً، أنَّ (عفانة) حين أراد تسويغَ ما اجترحته يَداه من عَبَثٍ في نقد كتاب البخاريِّ، ردَّ فكرةَ كتابِه إلى أحدِ أعلامِ الحنفيَّة السَّابقين، مُعتبرًا إيَّاه نابِعًا مِن نفسِ الهمِّ الَّذي احتمَله في كتابه على السُّنة، فاعجب له وهو يقول:
« .. استمرَّ الحال على ذلك قرونًا، حتَّى جاء أبو العباس زين الدِّين أحمد بن محمد بن عبد اللَّطيف الشَّرجي الزَّبيدي رحمه الله في القرنِ التَّاسع الهجري، فجرَّدَ
كتابَ «صحيح البخاري» واختصَرَه .. ولأنَّ كتابَ مُختصر الزَّبيدي لم يَنَل مِن العناية والاهتمامِ ما يستحقُّ فيما أعلم، فقد ازدادَ تَعلُّق المسلمين بكتابِ «صحيح البخاري» الأصل، حتَّى صارَت له عند كثير منهم قُدسيَّة خاصَّة»
(1)
.
فقد نَمنَم (عفانةُ) في مَقاله هذا على الزَّبيديِّ كذِبًا -عن سوءِ هَمٍّ، أو قِلَّةِ فهمٍ- حينَ ادَّعى أنَّ قصدَ الزَّبيدي مِن مُختصِره هذا تنقيحَ «البخاريِّ» مِن زَيفِ الحديث؛ فإمَّا أنَّ (عفانة) لم يقرأ كتابَ الزَّبيدي أصلًا! وإنَّما تَوَهَّم ذلك موضوعَه، أو يكون (عفانة) كذَّابًا مُدلِّسًا على قُرَّائه!
والمَعلوم بداهةً لكلِّ حديثيٍّ، بل لِمن تَصَفَّح مُقدِّمة الزَّبيدي للكِتابِ ولو سريعًا: أنَّ غَرَضه منه حذفَ المُكرَّرات والمُعلَّقات مِن أحاديثِ البخاريِّ، لأجلِ الاختصارِ لا غير.
الفرع الثَّاني: شروط (عفانة) في السَّند والمتنِ ومعناه ليصحَّ الحديث.
فعلى ذاك النَّحو المُظلم صارَ (عَفانة) يخبط في البخاريِّ خبطَ عشواءٍ، يرمي كلَّ حديثٍ لا يُوافق قواعده الوَرْهاء، والَّتي أعرضَ بها عن كلِّ ما قعَّده المُحدِّثون في باب النَّقد للحديث، حتَّى استدركَ عليهم شروطًا ابتكرها لا يصحُّ خبرٌ في «البخاري» إلَّا بها، وقد حَصَرها في ثلاثةِ عناصر: السَّند، والمتن، والفهم
(2)
.
فأمَّا السَّند: فقد شَرَطَ فيه (عفانة) عدمَ تَفرُدِّ راوٍ به في أيِّ طبقةٍ مِن طبقاتِ السَّند! أي أن يروِيَه اثنان فأكثر في كلِّ طبقةٍ؛ وهذا لا شكَّ مذهبٌ باطلٌ مَهجورٌ عند أهل الحديث؛ بل روايةُ الواحدِ عن الواحدِ صحيحةٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويكفي في ردِّ كلامه مثال حديث عمر رضي الله عنه:«إنَّما الأعمال بالنِّيات» ، وإجماع العلماء على صِحَّته، مع كونِه فَردًا غريبًا
(3)
.
(1)
«صحيح البخاري مخرج الأحاديث محقق المعاني» (1/ 5 - 6).
(2)
انظر «الإسلام وصياح الدِّيك» (ص/88).
(3)
انظر «توجيه النظر» لطاهر الجزائري (1/ 183 - 185).
فضلًا عن ردِّ (عفانة) لمئاتِ الرِّوياتِ الصَّحيحة لمجرَّد أن أحدَ رواتها قيل فيه: (لا بأس به)، أو (صدوق له أوهام)، أو (صدوق ربَّما أخطأ)، فيكفيه أن يُغمَز الرَّواي بأدنى كلامٍ -ولو كان مَرجوحًا- كي يَتَوقَّف في حديثِه.
ترى صنيعَه هذا ماثلًا في ردِّه لحديث ابن عبَّاس رضي الله عنه: «إنَّهما يعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ»
(1)
، حيث قال عقِبه:«يُتوقَّف فيه سَندًا، فيه عثمان بن أبي شيبة، قال فيه أحمد: ما علمتُ إلَّا خيرًا، وقال أبوحاتم الرَّازي: صدوق»
(2)
!
وكأنَّ (عفانة) يوَّد أن يوهمنا بمثل هذا التَّلاعب بأحكام النُّقاد أنَّه رجل غَيورٌ على السُّنة! يخالُ المسكين أنَّ هذا الغلوَّ في مَعايير القَبولِ ماشٍ فيه على «وِفق علمِ مصطلح الحديث والرِّجال»
(3)
؛ وهيهات! فليته إذ تعَسَّف في الطَّعنِ بثقاتِ الرُّواة، نَظرَ أوَّلًا في مُتابعاتِ حديثِهم وشواهدِه، عساه يجِدُ ما يُمشِّي به حديثَهم ويُقوِّيه على الأقل، ولكنَّ العَجلةَ أعمَتهُ عن تَتبُّع ذلك.
فمثال ذلك في كتابه:
ما أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» قال: قال مالك، أخبرني زيد بن أسلم، أنَّ عطاء بن يَسار أخبره، أنَّ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أخبره، أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إذا أسلمَ العبدُ، فحسُن إسلامُه، يُكفِّر الله عنه كلَّ سيِّئةٍ كان زلفها .. » الحديث
(4)
.
فقال عفانة: «ضعيف مُعلَّق، لا يُؤخذ منه حكمٌ، وفي القرآن ما يُغني عنه»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، رقم: 216)، ومسلم في (ك: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم: 292).
(2)
«صحيح البخاري مخرج الأحاديث محقق المعاني» (1/ 64).
(3)
«صحيح البخاري مخرج الأحاديث محقق المعاني» (1/ 5).
(4)
أخرجه هكذا البخاري في (ك: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء، رقم: 41).
(5)
هكذا ضربة لازب؛ لم يُكلِّف الرَّجل نفسَه ولو فتحَ شرح واحدٍ من شروح البخاريِّ كـ «فتحِ الباري» ، إذن لوَجَد أنَّ الحديثَ فيه مَوصولٌ، يقول عنه ابن حجر:«قد وَصَله أبو ذرِّ الهروي في روايتِه، ولم يسُق لفظَه، ووَصَله النَّسائي في السُّنن، والحسن بن سفيان في مُسندِه، والإسماعيليُّ عنه، والدَّارقطني في غرائب مالك، وسمويه في فوائده، وغيرهم، وقد سُقته مِن طريق عشرة أنفسٍ عن مالك»
(1)
.
وأمَّا شروط (عفانة) في المتن لقبول الحديث:
فذكَرَ منها: موافقةَ الحديثِ للقرآن الكريم، وقصدُه الدَّقيق منه: أنَّ أيَّ حديثٍ فيه إنشاء حُكمٍ ليس له في القرآن أصلٌ فهو مَردود!
وكذا ألَّا يُصادِمَ عنده العِلمَ القطعيَّ اليَقينيَّ، أو يناقضَ السُّنن الكونيَّة، أو يحيلَه العقل أو الواقع، أو يَتعارض مع روحِ الإسلام، أو يُكذِّبه التَّاريخ، وأن لا يطرأ عليه الاحتمال، أو لا يأتي بما تشمئزُّ منه النَّفس، أو يُناقض الكرامةَ والعِفَّة
(2)
.
وليس في السُّنِنِ الصِّحاح -بحمد الله- ما ينطبق عليه ما ذكره في هذه الفقرة الأخيرة، ولكنَّ المُشكلة في فهمِه للمتون الَّتي يعارض بها تلك الأصول.
وأمَّا ما يتعلَّق بشرط الفهم لمتن الحديث عند (عفانة):
فقد شرط في المتن أن يكون واضِحًا مِن جهة اللُّغة
(3)
، يُمكن فهمُه بمُجرَّد سماعِه
(4)
.
ولا شكَّ أنَّ هذا أمرٌ نِسبيٌّ، فلا يُجعل معيارًا مطلقًا، فإنَّ مَخزون اللُّغةِ عند العَربِ زمنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم كبيرٌ يُمكِّنهم من فهمِ كلامِه تلقائيًّا، بخلافِ الخوالِف بعدهم
(1)
«الفتح» لابن حجر (1/ 20).
(2)
انظر كتابه «الإسلام وصياح الديك» (ص/88).
(3)
انظر كتابه «الإسلام وصياح الديك» (ص/88).
(4)
انظر «صحيح البخاري مخرج الأحاديث محقق المعاني» (1/ 5).
ومِن الأعاجِم الَّذين جاءوا بعدُ بقرونٍ، فهؤلاء يحتاجون للرُّجوعِ إلى شرحِ غريب اللُّغة والحديثِ لفهمِ كلامِه، لا أن يَردُّوا ما لم يفهموه لوجود غريبٍ فيه.
هذا كلُّه مِن جِهة التَّنظير والتَّأصيل.
وأمَّا من جِهة التَّطبيقِ لهذه القواعد على الأحاديث:
فقد شَطَّب (عفانةُ) بها على جملةٍ وافرةٍ من أحاديث «الجامع الصَّحيح» ناقَضَت عقيدَته الاعتزاليَّة
(1)
، أو خالفت فهمَه للدِّين، فردَّ بها كلَّ حديث فيه ذكرٌ لأشراطِ السَّاعةِ، أو عذاب القبر، واصفًا لها كلِّها بأنَّها مجرَّد خُرافة
(2)
، بل رَدَّ ما لم يُسبَق إليه مِن السُّنَن، كحديث «صيام يوم عرفة» ، حيث استكثر على الله أن يُكفِّر لعبادِه بصيامِ يومٍ واحدٍ سنتين كاملتين! فرفضه على قاعدة:«ما جاء بثواب عظيم على نافلة صغيرة»
(3)
!
كلُّ هذا العَبث بدعوى ترسيخِ المنهج العقليِّ الواقعيِّ، وحضِّ المسلمين على إعادة النَّظر في تراثهم
(4)
، سببه الأساس مردُّه إلى ظنِّ (عفانة) أنَّ البخاريَّ وغيره من أئمَّة النَّقد سُذَّج غَافلون عن ركامِ الأحاديثِ المَدسوسةِ في السُّنةِ؛ تفهم هذا الظَّن السَّيء منه مِن قولِه مثلًا:«الآن لننتقل إلى أعمال المحترفين في التَّزييف والتَّخريب المتعمَّد -يعني حديث: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» - الَّذي لم ينتبه لبعضِه أكابرُ علماء الحديث ورواته، حتى مرَّ على البخاري والتِّرمذي .. »
(5)
.
وقد تبيَّن لك حالُ الرَّجلِ في السَّفاهةِ والسَّذاجةِ وقلَّة العلم والدِّين، فما كان أقلَّ في حقِّ مثلِه أن يُلحَق بعُسَيلٍ فيُأدَّب بدُرَّة عمر رضي الله عنه.
(1)
انظر «صحيح البخاري مخرج الأحاديث محقق المعاني» (1/ 199، 86، 20) و «الإسلام وصياح الديك» (ص/51، 37، 19).
(2)
«حوار حول أحاديث الفتن وأشراط الساعة» (ص/74).
(3)
انظر كتابه «دور السُّنة في إعادة بناء الأمَّة» (ص/3، 139).
(4)
انظر كتابه «حوار حول أحاديث الفتن وأشراط الساعة» (ص/74).
(5)
«الحق أبلج» (ص/200).