الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الأوَّل
تاريخ إنكار السُّنة
كان لظاهرة إنكار السُّنة النَّبوية بوادر آخرَ عهدِ الصَّحابة رضي الله عنهم في حالات نادرة لا اعتبارَ بها نتيجةَ شبهاتٍ عارضةٍ، سُرعان ما تنكشف ببيانٍ وجيزٍ مِن أحدِ الصَّحابة أو التَّابعين.
كما جرى في مجلسٍ تحديثٍ لعمران بن حصين رضي الله عنه، قيل له فيه: «يا أبا نجيد، لا تحدِّثنا إلَّا بالقرآن؛ فقال له عمران: أنتَ وأصحابُك يقرؤون القرآن، أكنتَ مُحدِّثي عن الصَّلاةِ وما فيها، وحدودَها؟! أكنت مُحدِّثي عن الزَّكاةِ في الذَّهب، والإبل، والبَقر، وأصنافِ المال؟! ولكن قد شهدتُ وغبتَ أنت.
ثمَّ قال: فرَضَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزَّكاة كذا وكذا .. ، فقال الرَّجل: أحيَيْتَني أحياكَ الله!»
(1)
.
ولقد كانت عامَّة بلادِ المسلمين في مَنأىً عن هذا الانحرافِ أوَّلَ أمرِها، حتَّى بدأت شرارتها في الاشتعال في بلادِ العراقِ مِن قِبل أفرادٍ لا يُمثِّلون فرقةً مُستقلَّة بذاتِها، أو اتِّجاهًا جماعيًّا مُؤثِّرًا
(2)
؛ ثمَّ ما فَتِئ الأمر يتَطوَّر رُوَيدًا بعد
(1)
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 192، برقم:372) والطبراني في «معجمه الكبير» (18/ 165، برقم:369) والخطيب في «الكفاية» (ص/15).
(2)
انظر «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» للسباعي (ص/148) و «زوابع في وجه السنة» لصلاح الدين مقبول (ص/37).
ذلك قُبيلَ نهاية القرن الثَّاني، فبرَزَت شراذم أنكرَت حُجيَّة السُّنة في التَّشريع، وطائفة أخرى أنكرَت حُجيَّة الآحادِ منها بالخصوص
(1)
، قد أَقْبَرهما الشَّافعيُّ بكتابٍ سَمَّاه «جمِاع العلم» ، ردَّ فيه على كِلتا الطَّائفتين.
فأمَّا إنكارُ السُّنةِ على هيئةٍ مُؤثِّرة، انتهجتها تيَّاراتٌ عَقديَّة لها ذِكرٌ في التَّاريخ:
فكان لَبِنته مِن جِهة التَّأصيل على أيَدي الخوارجِ الأُوَل، ثمَّ غُلاة الشِّيعة، لا نفيًا منهم أن تكون مصدرَ تَشريعٍ في نفسِها، ولكن مِن جهةِ الطَّعن على النَّقَلة بداعي مُعارضةِ مَرويَّاتِهم بالقرآن، أو تكفيرِهم بالمرَّة.
يقول عبد القاهر البغدادي (ت 429 هـ) عن الخوارج:
(2)
.
ولقد ضرَبَ عموم الأمَّة صفحًا عن هذا القولِ دهرًا مِن الزَّمَن، فلم تَقُم لهذه البدعة النَّكراء قائمةٌ بعد ذلك لقرون مُتطاولةٍ، قد صارت أكثرُ أقوالها في ذمَّةِ التَّاريخ تُدرَّس لأجلِ الاعتبارِ، بفضلِ ما سخَّره الله تعالى من جهودِ المُحدِّثين في نقضِ أصولِها، وفضحِ جهلِ أصحابِها، والتَّشديدِ على كلِّ مَن تفوَّه بهذه الشُّبهةِ منذ زَمنٍ مُبكِّرٍ.
(1)
«دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» لمحمد مصطفى الأعظمي (ص/22). ط 3، الرياض.
(2)
«الفَرق بين الفِرق» لعبد القاهر البغدادي (ص/64)، ويُستثنى من كلام البغدادي بعض طوائفهم الَّتي لم تغلو غلوَّ مقَدَّميهم، كالإباضية الَّتي تروي الحديث النَّبوي في مصنَّفاتها عن مثلِ عليٍّ وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم كما تراه في «مسند الرَّبيع بن حبيب الفراهيدي» .
وقد ذكر عبد القاهر (ص/109 - 113) بعد ذلك انضمام بعد الطوائف من المتكلمين إلى القول بهذا الأصلِ الشَّنيعِ، كالنَّظَّامية والهُذيليَّة من المعتزلة، وإن كان بشكلٍ أخف من متقدميهم.
من ذلك قول أيُّوب السَّختياني: «إذا حَدَّثت الرَّجلَ بالسُّنة، فقال: دَعْنَا مِن هذا، وحدِّثنا مِن القرآن، فاعلمْ أنَّه ضَالٌّ مُضِلٌّ!»
(1)
.
(1)
أخرجه الخطيب في «الكفاية» (ص/16).