الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الثَّالث
أَثَر الأطروحاتِ الاستشراقيَّة في استخفاف المعاصرين بمنهج المُحدِّثين
مع مرور الزَّمن وخمولِ علمِ الحديثِ في هذه الأعصرِ المتأخِّرة، انبعثَ مِن المُستشرقين مَن جَدَّد النَّفخَ في هذه الشُّبهة، والتَّرويج لها عبر المُنتدياتِ العِلميَّة، والمجلَّات البَحثيَّة، دون إمعانٍ للنَّظر في الدَّعوى، أو إعمال للفكر في كلامِ المُدَّعى عليهم، أو سبرٍ في البحثِ في مُصنَّافتهم، زاعمين أنَّ حكمَهم على منهجِ المُحدِّثين نتاج بحث موضوعيٍّ، اقتضاه المنهج النَّقديُّ المُستحدَث في توثيقِ الأخبار.
بل هؤلاء المُستشرقون قد زادوا على تشنيعِات الأقدمينَ على المحدِّثين أمثلةً مِن عندِهم جديدة، حسِبوها شاهدةً على اختلال الأُسسِ المنهجيَّة الَّتي ابتنَى عليها المُحدِّثون صناعةَ الأخبار؛ فإذا بَلغوا مُنْيتَهم في هدمها -وهيهاتَ لهم- انهدمَ تَبعًا لهذا العلم باقي العلومِ النَّقليَّة مِن تَفسيرٍ وفقهٍ ولُغةٍ وتاريخٍ! لاعتمادِ المُشتغلين بها على منهجيَّةِ أهل الحديث في الرِّواية والإسناد،؛ وهنا تكمُن خطورةُ إسقاطِ علمِ الحديثِ على الإسلامِ كلِّه!
ترى شاهدَ هذا الالتفاتِ الخطيرِ لحربِ المُحدِّثين في مثلِ قولِ (عابدٍ الجابريِّ): « .. إنَّ الموروثَ الثَّقافي العربيَّ الإسلاميَّ الَّذي تناقلته الأجيالُ،
منذ عصر التَّدوين إلى اليومِ، ليس صحيحًا على وجعِ القطعِ، بل هو صحيحٌ فقط على شروطِ أهل العلم، الشُّروط الَّتي وَضَعها وخَضَع لها المُحدِّثون والفقهاء والمُفسِّرون والنُّحاة واللُّغويُّيون الَّذين عاشوا في عصرِ التَّدوين، ما بين مُنتصف القرن الثَّاني، ومُنتصف القرن الثَّالث للهجرة»
(1)
.
فما هذا الكلام إلَّا علقمٌ من مشروعٍ أقامه المستشرقون في دراستهم للسُّنة، ونُقرُّ لهم بنجاح تسريبِ كثيرٍ مِن أحكامِهم البَحثيَّة وإنفاذِها في عقولِ جمهرةٍ مِن المُثقَّفين المُحْدَثين؛ كتلك الإشكالات الفنيَّة المتعلِّقة بالتَّدوينِ، وتحريفِهم لمفهوم بعض المصطلحات كـ «السُّنة» ، وقضيَّة اختلاطِ الأحاديث بالإسرائيليَّات .. إلخ؛ ومِن أكثر ما راج لهم مِن ذلك في القرنين المنصرمين: مَقولُهم بإغفال المُحَدِّثين لنقدِ المُتونِ في توثيقِهم للأحاديث
(2)
.
كان مِن أوائل من هوَّش بهذه التُّهمة عليهم مستشرق إيطاليٌّ يُدعى «كايتاني» Caetani»
(3)
؛ تَضمَّنت فقرةٌ مِن كتابه «الحَوْلِيَّات الإسلاميَّة»
(4)
زبدةَ ما خلُصَ إليه في هذا الباب، وهي قوله:«كلُّ قَصدِ المحدِّثين ينحصر ويتركَّز في وادٍ جدبٍ مُمحِلٍ مِن سَردِ الأشخاص الَّذين نَقلوا المَرويَّ، ولا يشغل أحدٌ نفسَه بنقدِ العبارة والمتنِ نفسه! .. » ؛ ثمَّ خمَّن عِلَّة هذه الغفلة منهم بقوله: « .. إنَّ المحدِّثين والنُّقادَ المسلمين لا يجسرون على الاندفاعِ في التَّحليل النَّقدي للسُّنة إلى ما وراء الإسناد، بل يَمتنعون عن كلِّ نَقدٍ للنَّص، إذ يرَونه احتقارًا لمَشهوري الصَّحابة، وقِحةً ثقيلةَ الخطَرِ على الكَيانِ الإسلاميِّ»
(5)
.
(1)
«تكوين العقل العربي» (ص/64).
(2)
انظر «المستشرقون والسنة» لسعد المرصفي (ص/24).
(3)
ليوني كايتاني: مستشرق إيطالي، اشتهر بكتابه «الحوليات» ، وهو أوسع تاريخ استشراقي لعهد النبوة والخلفاء، توفي (ت 1935 م)، انظر «موسوعة المستشرقين» للبدوي (ص/493).
(4)
«المستشرقون والحديث النبوي» لمحمد بهاء الدين (ص/129).
(5)
«دائرة المعارف الإسلامية» (مادة: أصول، المجلد الثاني، هامش 279)، وانظر «المستشرقون والحديث النبوي» لـ د. محمد بهاء الدين (ص/129 - 130).
غير أنَّ المرجعيَّة الاستشراقيَّة قد تركَّزت قبله في استقاء ما صَوَّبه (جولدزيهر) إلى منهج المحدِّثين مِن مَعاوِل النَّقض
(1)
؛ فكانت مُؤلَّفات هذا المَجَريِّ هي الأكثرَ تَداوُلًا في هذا الفنِّ بين الدَّارسين
(2)
، وهو كسالِفه (كايتاني) يعتبرُ «أنَّ نقدَ الأحاديث عند المسلمين قد غَلَب عليه الجانب الشَّكلي منذ البداية، وأنَّه لا يخضع للنَّقدِ إلَاّ الشَّكل الخارجيُّ للحديث.
ذلك أنَّ صِحَّة المَضْمون عندهم مُرتبطة أوثق الارتباط بنقد سلسلة الإسناد، فإذا استقامَ سَنَد حديثٍ لقواعد النَّقد الخارجيِّ، فإنَّ المتن يُصَحَّح، حتَّى ولو كان مَعناه مُجانبًا للواقع، أو احتوى على مُتناقضات، ويكفي للإسناد أن يكون مُتَّصل الحلقات، وأن يكون رواتُه ثقاتٍ، اتَّصل الواحد منهم بشيخه، حتَّى يُقبل مَتن مَرويِّه»
(3)
.
وقد جاء بعد هؤلاءِ مَن خَصَّ البخاريَّ صراحةً بهذه الفِرية، فأقحمَه في زمرةِ المُتهالكين على الإسنادِ من غير تفهُّمٍ، كالَّذي زعمه المستشرق (ألفريد كيُوم)
(4)
فيه بقوله: «مَتى ما اقتنعَ البخاريُّ بتحديدِ بحثِه في سلسلةِ الرُّوَاةِ
(1)
ككِتاباتِه المُضمَّنه في الجزءِ الثَّاني مِن كتابه «دراسات إسلاميَّة» ، حيث خصَّص نصفه الأوَّل عن علم الحديث وتاريخه وتطوُّره، وهذا الجزء طُبع سنةَ 1890 م، وكتابه الآخر «مذاهب التَّفسير الإسلاميِّ» ، المترجم إلى العربيَّة باسم «العقيدة والشَّريعة في الإسلام، وهو في أساسه مجموعة محاضرات ألقاها أمام اللجنة الأمريكية للمحاضرات في تاريخ الأديان، والكتاب طبع سنة 1946 م، وانظر مقدمة المترجمين للكتاب (1/ 5).
(2)
تولي هذه الدعوى جماعة غير (جولدزيهر)، منهم (نيكولاس أغنائدس) و (وِليام مُوير) و (إسبرنجر)، انظر مقالاتهم في «الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية» لـ د. ساسي الحاج (ص/585 - 630)، و «منهج النقد عند المحدثين» لـ د. محمد مصطفى الأعظمي (ص/128 - 149).
(3)
«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» لمحمد حمزة (ص/210).
(4)
ألفريد كيوم: إنجليزي معاصر، اشتهر بالتعصب ضد الإسلام، حاضر في جامعات انجلترا وأمريكا، وتغلب على كتابته وآرائه الروح التبشيرية، من كتبه (الإسلام)، يقول محمد البهي:«من المؤسف أنه تخرَّج عليه كثير ممن أرسلتهم الحكومة المصرية في بعثات رسمية للخارج لدراسة اللغات الشرقية!» ، انظر ترجمته في كتاب هذا الأخير «المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام» (ص/23).
في السَّند، مُفضِّلًا ذلك على نقد المتن، صارَ كلُّ حديثٍ مَقبولَ الشَّكلِ قطعيًّا بحكمِ الطَّبع»
(1)
.
فهذه الدِّراساتُ الغربيَّةُ بما أفرزته من نتائج حُكميَّة على عمل المحدِّثين، قد تبنَّتها شرائح واسعة مِن مُثقَّفين إسلاميِّين وغير إسلاميِّين، تراها منتثرةً في كتاباتِ مثل (أحمد أمين)، و (علي عبد الرَّازق)
(2)
، و (محمود أبو ريَّة)
(3)
؛ وكان (رشيد رضا) في مقدِّمة هؤلاء المتأثِّرين في هذا الباب بسموم الاستشراق، وعليه يُثني (محمَّد حمزة) أحدُ حَداثيِّي تونس بقوله:«محمَّد رشيد رضا كان بحقٍّ مِن أوائِل المُفكِّرين في بداية هذا القرن الَّذين نَبَّهوا إلى ما اعترى منهجَ المُحدِّثين القُدامى مِن خللٍ، حين رَكَّزوا نقدَهم على السَّندِ دون المتن»
(4)
.
إلى أن جاء الحَدَاثِيُّون ليحتسبوا الجُهدَ في تَعْريبِ تلك الدِّراساتِ الاستشراقيَّة في هذا موضوعه السُّنة والحديث، ثمَّ الاستعانةِ بها للتَّشكيكِ بمَصادر التَّلقي عند أهل السُّنةِ بصفةٍ خاصَّة
(5)
.
(1)
Guillaume، Alfred: The Traditions of Islam، P. 55 نقلًا عن «موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية» لأكرم العمري (ص/74).
(2)
علي بن حسن بن أحمد عبد الرَّازق: باحث من أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر، ولد بإحدى أعمال المنيا بمصر، وتعلم بالأزهر، ثم بجامعة أكسفورد، وأصدر كتابه المثير للجدل «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925 م، توفي سنة (1386 هـ)، انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 276).
(3)
انظر أثر تلك الأطروحات الاستشراقية في السُّنة على هؤلاء الكُّتاب وغيرهم في «المستشرقون والحديث النبوي» (ص/272 - 280) لـ د. محمد بهاء الدِّين.
(4)
«الحديث النبوي» (ص/211).
(5)
فلا يُسأَل بعدُ عن فرحةِ الشِّيعة الإماميَّة بهذه الطُّعونِ، وهي بأقلامِ مَن يُحسبُ في ظاهرِه على أهل السُّنةِ، والاستشهادِ بها في طَيَّات ردودِهم على علماءِ السُّنة، كما تراه - مثلًا - في كتاب «أبو هريرة» لعبد الحسين الموسوي (ص/39 - 51)، و «معالم المدرستين» لمرتضى العسكري (1/ 361).