الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث السَّابع
مركزيَّة «التَّاريخيَّةِ» في مشروعِ العَلمانيِّين لإقصاءِ السُّنةِ النَّبويةِ
يعتبر الفكر العَلمانيُّ الحَداثيُّ العَربيُّ بأنَّ «التَّاريخيَّة»
(1)
هي جوهر الإصلاح الثَّوريِّ الَّذي ينبغي استحداثه في الفكر الإسلاميِّ، فإنَّه لا يُمكن نقلُه إلى الانفتاحِ إلَّا من خلالِها، كما أنَّه لا سبيل إلى تمريرِ القراءة الحَداثيَّة للتُّراث الدِّيني كما وَقَع في الغربِ إلَّا عبر التَّأكيد على نِسبيَّتِه
(2)
.
ولأجل تحقيق هذه الغاية، نَراهم يَجهدون لإثباتِ هذا الأصلِ في قراءة النَّص الشَّرعيِّ، وإقناعِ الجماهير بـ «إيجابيَّةِ التَّغيِيرِ، وسِلبيَّة الثباتِ» مُطلقًا، وهي مِن أكبرِ الفَرَضِيَّات الَّتي بَنى عليها الحَداثيُّون أُطروحاتِهم بشأنِ تاريخيَّةِ النَّص الشَّرعيِّ؛ مع أنَّنا نعلمُ بداهةً أنْ لا تلازم بين الإيجابيَّة والتَّغيير، ولا بين السَّلبية والثَّبات! بل الأمرُ كثيرًا ما يصدُق على خلافِ ذلك؛ وهم بهذا المنطق يُهدرون
(1)
مصطلح «التاريخية» أو «التاريخانية» ظهرت بوادر نشوءه في الغرب نهاية القرن 17 م، والمقصود منه: القول بأنَّ الحقائق تاريخية تتغير وتتطور بتطور التاريخ، ومن أبرز من روج لهذا المصطلح: محمد أركون، والذي يعني عنده:«تحول القِيم وتغيرها بتغير العصور والأزمان» ، وهو أول من أثار قضية تاريخية القرآن الكريم وارتباط أحكامه بظروف معينة خاصة، انظر كتابيه «الفكر الإسلامي، قراءة علمية» (ص/212)، و «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي» (ص/26).
(2)
«موقف الفكر الحَداثي العربي من أصول الاستدلال في الإسلام» لمحمد القرني (ص/139).
هذه المُسلَّمات لأجلِ خلقِ اجتهادٍ مَفتوحٌ، ينبني على فكرةِ أنَّ إنتاجَ المعنى مَسئوليَّةُ الإنسانِ وحده
(1)
.
وهم في هذا التَّصوُّرِ لتشريعاتِ الدِّين مَسبوقون بفلاسفةِ التَّنويرِ الغَربيِّ الوَضعيِّ
(2)
، حين اعتبروا كتابَهم المُقدَّس بعَهْدَيْه مُجرَّدَ رموزٍ، وأنَّ التَّديُّن إنَّما يُمثِّل مَرحلةً تاريخيَّةً في عُمرِ التَّطوُّرِ الإنسانيِّ، تُعدُّ فيه مرحلةَ الطُّفولةِ العقليَّة، فهو إيمانٌ مَثَّل حِقبةً تاريخيَّةً، فهذه الأديان والشَّرائع لم تَعُد صالحًة لعصرِ النَّهضة التَّقنيَّة اليوم بزعمِهم
(3)
.
وقد صرَّح (نصر أبو زيد) بابتناءه كلامه في نصوص التُّراث الإسلاميِّ على أفكار الفيلسوف الأمريكيِّ (إيريك هيرش)
(4)
في تفريقه بين المعنى الثَّابت والمغزى المتغيِّر من النُّصوص اللُّغويَّة
(5)
، وعليها عدَّ (أبو زيد) نصوص الشَّرع تاريخًا مضى لا يصلح بالضَّرورة لواقعنا المعاصر، لكونها مُنتجًا ثقافيًّا تخضع للمعايير الاجتماعيَّة والثَّقافية السَّائدة في زمن المُفسِّر لها، فليس لها أيُّ مضمون ثابت
(6)
.
(1)
انظر لهذه الفكرة في «إسلام المُجدِّدين» لمحمد حمزة (ص/57)، و «الإسلام السُّني» لبسَّام الجمل (ص/9 وما بعدها).
(2)
الوضعيَّة: نزعة فلسفية علمانية ظهرت بداية من النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلاد في أوربا، رفضت أيَّ سلطان على العقل إلَّا للعقل، وأحلَّت العقل والعلم والفلسفة محلَّ الدِّين واللَّاهوت الكَنسي، انظر «موسوعة المذاهب الفكرية المعاصرة» (1/ 395).
(3)
انظر بحث «تاريخية القرآن الكريم» لمحمد عمارة، ضمن مجموع «حقائق الإسلام في مواجهة المشكِّكين» (ص/307 - 308).
(4)
إيريك دونالد هيرش: ناقد أدبي أكاديمي، وأستاذ فخري في التربية والعلوم الإنسانية بجامعة فرجينيا بأمريكا، وُلد سنة 1928 م، من مؤلفاته «صناعة الأمريكيين: الديموقراطية ومدارسنا»، ترجمته في الموسوعة الإلكترونية (ويكيبيديا).
(5)
انظر «نقد الخطاب الديني» له (ص/217).
(6)
انظر «نقد الخطاب الديني» له (ص/198).
فبهذا المبدأ من تاريخيَّة النَّص، شَمَّر الحداثيُّون عن أيادي الجدِّ لنزعِ لَبوسِ التَّشريعِ عن السُّنةِ، بانتزاعِ مَعانيها المُطلَقة، ذلك أنَّ الواقعَ المُتطوِّر إذا جاوَز عندهم العملَ بحرفيَّاتِ نصوصِ الشَّريعة، لجأ النَّاس حينها لا محالة إلى مُخرجاتِ عقولِهم مِن قوانين وضعيَّة.
وهم لتحقيقِ هذا الهدف يسلكون مَسالِك شتَّى لإسقاطِ اعتبارِ هذه السُّنة المُبارَكة، مُجملُ ذلك عائدٌ -كما قُلنا- إلى دعواهم أنَّها مُجرَّدُ عاداتٍ وتقاليدَ قديمة، لا تلزمُ عصرَنا في شيءٍ
(1)
، وأنَّ التزامَها كان «السَّببَ في تحنيطِ الإسلامِ، وتَخلُّفِ أهلِه»
(2)
! لأنَّها إنَّما ناسَبَت مَرحلةً وبيئةً مُعَيَّنتين لا تُوافقان ما نحن فيه، فالاكتفاءُ بمَقاصِدها كان إذن أوْلى
(3)
.
فبهذه الحُجَّة المُسمَّاةِ بـ «التَّاريخيَّة أو التَّاريخانيَّة» تَوسَّل كثيرٌ مِن العَلمانيِّين لتحنيطِ السُّنة النَّبوية، وحَبسِها داخلَ حدودِ الجزيرةِ العربيَّة زمَنَ الإسلامِ الأوَّل، كونُها مجرَّد تفاعلٍ تاريخيٍّ يُلائم ظروفَ العَرب ومَن حولهَم آنذاك، فأحاديثُها «لا تَصف وقائعَ، بقدرِ ما هي مُجرَّد قراءةٍ لا أكثر، قراءةٍ في العالَم، أو كتابةٍ للحياةِ، بوَصفِها خِبرةً، أو تجربةً، أو مُعايشةً»
(4)
.
وهذا ما يُنتِج عند (علي مبروك)
(5)
«أنَّ لكلِّ عَصرٍ الحقُّ في أن تكون له قراءتُه، بل وصياغتُه لمُجملِ التَّصوُّراتِ العَقائديَّة»
(6)
، فيكونَ لكلِّ عَصرٍ فهمه الخاصُّ للنُّصوص، ولكلِّ عَصرٍ شريعتُه!
(1)
انظر «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية» لنصر أبو زيد (ص/40)، و «حقيقة الحجاب وحجية الحديث» لمحمد العشماوي (ص/121).
(2)
انظر «الكتاب والقرآن» لمحمد شحرور (ص/548)، و «إسلام ضد إسلام» للصادق النيهوم (ص/139).
(3)
انظر «الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية» لنصر أبو زيد (ص/40 - 46)، و «أصول الشريعة» لمحمد سعيد العشماوي (ص/121)، و «إسلام ضد إسلام» للصادق النيهوم (ص/139)، و «السنة بين الأصول والتاريخ» لحمادي ذويب (ص/34، 54).
(4)
«نقد الحقيقة» لعلي حرب (ص/131).
(5)
باحث وكاتب علماني مصري، كان أستاذ للفلسفة بجامعة القاهرة، ومن بُناة مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» ، توفي قريبًا سنة 2016 م، وترجمته في نفس موقع المؤسسة السالف ذكرها.
(6)
«النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ» لعلي مبروك (ص/299).
يَضربُ لنا (محمَّد شحرور) -مثلًا- على هذه الأحكامِ السُّنِّية التَّاريخيَّة البائدة: بـ «مَنعِ التَّصوير، والنَّحتِ، والرَّسمِ، والمُوسيقى، والغناءِ، ولبسِ الذَّهبِ، واستلامِ المرأة لمناصبَ في الدَّولةِ» ، ويُعلِّل هذا:«بأنَّ منعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للرَّسم، والنَّحت، والتَّصوير، -إن صحَّ- كان مَفهومًا في حينِه، حيث إنَّ العَرَب كانوا حَدِيثي عهدٍ بالوَثنيَّة، فمنعُ ذلك كخطوةٍ وِقائيَّةٍ مُؤقَّتةٍ، حيث أنَّ هذا المنعَ لم يَرِد في الكتابِ نِهائيًّا»
(1)
.
والعَلمانيُّون إذْ يُقرِّرون هذا الأصلِ في مَرحليَّةِ السُّنة، لم يُعدَموا قواعدَ مِن التُّراثِ الإسلاميِّ الفقهيِّ يستنِدون عليه في ذلك؛ فمِن ذلك:
أنَّهم يحتجُّون بقولِ بعض الفقهاء: أنَّ «العِبرَة بخصوصِ السَّببِ، لا بعموم اللَّفظ»
(2)
، وأنَّه «لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغيُّرِ الزَّمانِ والمكان»
(3)
!
ونقضُ مُجملِ هذا المسلكِ التَّاريخانيِّ، يَتبيَّن مِن وجوه:
أوَّلًا: أنَّ مِن مَنائِر الحقِّ في التَّصور الإسلاميِّ: توارث الحقيقةِ الشِّرعيَّةِ الواحدةِ عبر مختلفِ الأجيالِ، فليست تتَلوَّن بتَلوُّنِ الأجيال، وإنَّما كلِّ جيلٍ يصطبغُ بها اصطباغًا، ولهذا كانت قيمة الثَّبات عبر الأزمانِ قيمةً ثمينةً في الإسلام، يطلبُها، ويضَعُ لها ما يَصونها، فهي أصلٌ في اتِّساقِ عناصِرِ نِظامه، ومُطابقة معناه لمَبناه مهما عصَفَت بتصوُّراتِ النَّاس مُدلهمَّات الأفكار.
ولذا جاء في الحديثِ الشَّريفِ: «سيكون في آخرِ أمَّتِي أناسٌ يحدِّثونَكم ما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم!»
(4)
؛ يقول ابن رجَبٍ: «إشارةٌ إلى أنَّ ما استَقرَّت مَعرِفتُه عند المؤمنين، مع تقادُمِ العهدِ وتطاول الزَّمان، فهو الحقّ، وأنَّ ما أُحدِث بعد ذلك مِمَّا يُستنكَر، فلا خيرَ فيه»
(5)
.
(1)
«الكتاب والقرآن» لمحمد شحرور (ص/552 - 553).
(2)
انظر «جوهر الإسلام» لمحمد العشماوي (ص/128)، وهذه قاعدة مردودة عند جمهور الأصوليين، كما ترى تحقيقه في حاشية «روضة الناظر» لابن قدامة (2/ 35).
(3)
انظر «إعلام الموقعين» (4/ 337).
(4)
أخرجه مسلم في مقدمة «صحيحه» (1/ 12)، وأحمد في «المسند» (14/ 542، رقم: 8596).
(5)
«جامع العلوم والحكم» (2/ 101).
فهذا الأصل القائل بـ «تاريخيَّة» نصوصِ السُّنة والقرآن، والإتيان بمعانٍ شرعيَّة جديدةٍ لا يعرفها المُسلمون، مُناقضٌ لأصلِ الشَّريعةِ في الثَّبات، ومقصِد تنزيلِ الوحيِ على العباِد، ومُعارضٌ لمِا هو مَقطوع به عند المُسلمين مِن خَتمِ الرِّسالةِ، وإتمامِ الدِّين بمُستلزماتِ التَّشريعِ إلى قيامِ السَّاعة؛ فخطاب الله للمؤمنين بطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم واتِّباعِه في سُنَّتِه أمرٌ مُطلقٌ، لم يُحَدَّ بزمانٍ ولا مكانٍ.
وربُّنا تبارك وتعالى يقول مُخاطبًا أتباعَ نبيِّه جميعَهم مِمَّن رآه ولم يَرَه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59].
وفي تقرير هذا الأصل، يقول أبو المَعالي الجُوينيُّ (ت 478 هـ):«لو كانت قَضايا الشَّرعِ تختلفُ باختلافِ النَّاسِ، وتناسخِ العصور: لانحَلَّ رباطُ الشَّرع، ورجَعَ الأمرُ إلى ما هو المَحذور مِن اختصاصِ كلِّ عصرٍ ودهرٍ برأيٍ، وهذا يُناقض حكمةَ الشَّريعة في حملِ الخلقِ على الدَّعوة الواحدة»
(1)
.
ثانيًا: على خلافِ ما أرادَ العَلمانيُّون الاستنادَ إليه مِن قواعد أصوليَّة، فإنَّ المُتَّفق عليه بين جَماهيرِ الأصوليِّين
(2)
أنَّ العِبرة بعموم اللَّفظ، لا بخصوصِ السَّبب، إلَّا أن تقوم الدَّلالةُ على قَصْرِ النَّصِ على السَّببِ.
دليلُ ذلك في ما قرَّره الآمديُّ:
«أنَّه لو عَرِي اللَّفظُ الواردُ عن السَّببِ كان عامًّا، وليس ذلك إلَاّ لاقتضائِه للعمومِ بلفظِه، لا لعدمِ السَّبب، فإنَّ عدم السَّببِ لا مَدخل له في الدَّلالاتِ اللَّفظيَّة؛ ودلالةُ العموم لفظيَّة، وإذا كانت دلالته على العموم مُستفادةٌ مِن لفظِه، فاللَّفظُ واردٌ مع وجودِ السَّببِ، حسبَ ورودِه مع عدمِ السَّبب، فكان مُقتضيًا
(1)
«نهاية المطلب في دراية المذهب» للجويني (17/ 364).
(2)
حُكي عن الإمام مالك في هذه المسألة روايتان، وذهب أكثر المالكية إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما عند القرافي في «شرح تنقيح الفصول» (ص/216)، وحكاه القاضي أبو يعلى عن بعض الحنابلة، واختاره المزني، والقفَّال الشَّاشي وبعض الشَّافعية، انظر «القواعد» لابن اللَّحام (ص/318)، و «الإحكام» للآمدي (2/ 219).
للعموم، ووجود السَّببِ -لو كان- لكان مانعًا مِن اقتضائِه للعموم، وهو ممتنع لثلاثة أوجه:
الوجه الأوَّل: أنَّ الأصلَ عدمُ المانِعيَّة، فمُدَّعيها يحتاجُ إلى البيان.
الوجه الثَّاني: أنَّه لو كان مانِعًا مِن الاقتضاءِ للعمومِ، لكان تصريحُ الشَّارع بوجوبِ العملِ بعمومِه مع وجودِ السَّبَب، إمَّا إثباتَ حُكمِ العمومِ مع انتفاءِ العموم، أو إبطالَ الدَّليل المُخصِّص، وهو خلافُ الأصل.
الوجه الثَّالث: أنَّ أكثرَ العموماتِ ورَدَت على أسبابٍ خاصَّة، فآيةُ السَّرقة نزلت في سَرقة المِجنِّ
(1)
، أو رداء صفوان
(2)
، وآية الظِّهار
(3)
نزلت في حقِّ سَلمة بن صخر
(4)
، وآية اللِّعان نزلت في حقِّ هلال بن أميَّة
(5)
…
إلى غير ذلك.
والصَّحابة عَمَّموا أحكامَ هذه الآيات مِن غير نَكيرٍ، فدَلَّ على أن السَّبَب غير مُسقطٍ للعموم، ولو كان مُسقطًا للعمومٍ، لكان إجماعُ الأمَّةِ على التعَّميمِ خلافَ الدَّليل، ولم يَقُل أحَدٌ بذلك»
(6)
.
فهذا الحقُّ في المسألة أصوليًّا.
وعلى فرضِ التَّسليم بأنَّ «العِبرة بخصوصِ السَّبب، لا بعمومِ اللَّفظ» :
فإنَّ ذلك لا يختلف مع ما أبنَّاه مِن رُجحانِ خلافِها عند التَّحقيق، إلَّا في شيءٍ واحدٍ، وهو: أنَّ الدَّلالة فيما يُماثل الواقعةَ الَّتي وَرَد بسببِها حكمُ النَّصِ،
(1)
أخرجها البخاري في صحيحه (ك: الحدود، باب: قول الله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وفي كم يقطع، رقم: 6795) ومسلم في صحيحه (ك: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، رقم: 1685).
(2)
أخرجها النسائي في «السنن الصغرى» (ك: السرقة، باب: الرجل عن سرقته بعد أن يأتي به الإمام، رقم: 4878).
(3)
وهي الآيات الأولى من سورة المجادلة.
(4)
الصَّواب أنَّها نزلت في حقِّ أوس بن الصَّامت وزوجته خولة بنت ثعلبة، انظر تفسير ابن كثير (8/ 35 - 38).
(5)
أخرجها البخاري في صحيحه (ك: الشهادات، باب: إذا دعى أو قذف، فله أن يلتمس البينة، وينطلق لطلب البينة، برقم: 2671)، ومسلم في صحيحه (ك: اللعان، برقم: 1496)
(6)
«الإحكام» للآمدي (2/ 239).
ليست مِن ذلك اللَّفظ العامِّ نفسِه مِن حيث الدَّلالة فيه على حكمِه، بل مقصورةٌ على الواقعةِ الَّتي وردَ بسببها النَّص فقط، والدَّلالة فيما يُماثل هذه الواقعة، إنَّما هي بطريقِ القياسِ على تلك الواقعة.
في حين أنَّ جمهورَ الفقهاء -على القولِ الأوَّل الصَّوابِ- يقولون: إنَّ دلالةَ اللَّفظِ على ما يُماثل الواقعةَ الَّتي هي صورة السَّبب، كدلالتِها تمامًا على الواقعة الأولى، أي أنَّها كلُّها أفرادٌ تندرج تحت عمومِ ذاك اللَّفظ.
هذا هوالخلاف بين القولين الأصوليَّين فقط؛ فأمَّا أن يُقال كما يقول العَلمانيُّون: إنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ ذاتَها مقصورةٌ على صورةِ أسبابِها، بحيث لا تتَعدَّاها إلى ما يَستجِدُّ مِن الوقائع المُشابهة: فشيءٌ خارجٌ عن أقوالِ علماء الأمَّة بالكليَّة
(1)
.
ثالثًا: احتجاجُ العلمانيَّة بقولِ بعضِ الفقهاء: «لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزَّمان والمكان» ، ليس على مَوردِ ما لأجلِه ساقَه الفقهاء، إنَّما يقصد مَن أطلقَ هذه العبارةَ بالأحكام: ما تعلَّق منها بالمصلحةِ والعُرف فقط
(2)
؛ أمَّا الحُكم الشَّرعيُّ ذاته، والَّذي جاء به النَّص: فلا يَتَغيَّر بتغيُّرِ الأزمنةِ والأمكنةِ، إذْ لا يُمكن أن يكون على صورةٍ مُعيَّنة مُخالفًا لحكمِ صورةٍ مُطابقةٍ لها في مناطِ الحكم، وإنَّما الاختلافُ يكون في الصُّورة الحادثةِ
(3)
.
بيانُ ذلك: أنَّ الحكمَ الشَّرعيَّ حتَّى يَثبُت، لا بُدَّ له مِن تَحقُّق مجموعِ مناطات لذلك الحكم: مِن أسبابٍ وعِلَلٍ، وتحقُّقِ شروطٍ، وانتفاءِ عوارض وموانع، فهذه المُعطيات تُشكِّل في مجموعِها صورةَ المسألة؛ فإذا حَصَل تشابهٌ بين صُورَتين واختلَف الحُكم بينهما: فمرجِعُه إذن إلى اختلافِ مُؤثِّرٍ بين الصُّورتين في إحدى تلك المُعطياتِ السَّابقة.
(1)
انظر «التِّيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم» (ص/408).
(2)
انظر تفصيل ذلك في «إغاثة اللَّهفان من مصايد الشيطان» لابن القيم (1/ 133).
(3)
انظر «البحر المحيط» للزركشي (1/ 220).
مثالُ ذلك: لحمُ الخنزيرِ مُحرَّمٌ أكلُه بالنَّصِ، وهذا حُكمٌ خالٍ مِن أيِّ عَوارض، لكنَّه في بعض الحالاتِ قد يكون جائزًا، بل واجبًا، كما في حالةِ المُضطَرِّ المُشرفِ على الهلاكِ بالجوع مَثلًا.
فهذا حين نُجيز له أكلَ لحمِ الخنزير، فليس ذلك تَغيُّرا في الحُكم بمَفهومِ الشَّارعِ، لأنَّها صورةٌ مختلفةٌ عن الصُّورة الأصل.
فعليه نُنبِّه المُغالِطينَ بمثل هذه القواعد الفقهيَّة فنقول:
إنَّ الزَّمانَ والمكانَ مِن حيث هما ظرفان لتلك الحوادث، لا تأثيرَ لهما في تَغيِيرِ الأحكام، وقولُ العَلمانيَّة بأنَّها تتغيَّر بتَغيُّر الأزمانِ لا يصحُّ منهم إلَّا بعد الإتيانِ بمثالٍ تتطابق فيه صورتانِ مِن الأوجه السَّابقةِ جميعًا، ومع ذلك بقِيَ الحكم فيهما مُتغايرًا؛ وأنَّى لهم بهذا المثال!
فلذا كان الصَّحيح من حيث الشَّرع والعقل أن يُقال: إنَّ تغيُّر الأحكامِ متعلِّقٌ بتحقُّقِ المناطِ الَّذي عُلِّق به الحكم من عدِمه، فإذا تحقَّق في صورةٍ ما: لزِم أن تأخذ تلك الصُّورة نفسَ الحكم، وإذا انعدم في صورةٍ ما: لم يأخذ نفسَ الحكم.
وهذا عَينُ ما سَلَكه عمرُ رضي الله عنه عند منعِه لسَهمِ المُؤلَّفة في الزَّكاة، فإنَّ مناطَ التَّأليفِ انتفَى في زَمنِه، وكذا إيقافِه رضي الله عنه لحَدِّ السَّرقةِ عامَ المَجاعةِ، و «هو مَحْضُ القِياس، ومُقتضى قواعد الشَّرع؛ فإنَّ السُّنة إذا كانت سَنة مجاعةٍ وشدَّة، غَلَبَ على النَّاسِ الحاجةُ والضَّرورة، فلا يَكاد يَسْلَمُ السَّارق مِن ضرورةٍ تدعوه إلى ما يَسدُّ به رَمَقَه، ويجبُ على صاحبِ المالِ بَذْلَ ذلك له، إما بالثَّمنِ، وإمَّا مجَّانًا، على الخلافِ في ذلك»
(1)
؛ مع ما تَقرَّر في شرعنا من أنَّ الحدود مَدروءةٌ بالشُّبهاتِ.
فسَقَط استدلالُهم الأصوليُّ هذا بالتَّمام، ولله الحمد.
(1)
«إعلام الموقعين» لابن القيم (4/ 352).