الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
انغلاق فهم بعض المُعاصرين عن إدراك وجه المُناسبة
بين تراجمِ البخاريِّ وأحاديثِها سبيل عندهم لتسفيهِه
المُتقرَّر عند مُصَنِّفي الحديثِ شَرطُ صِحَّةِ التَّرجمةِ بتَحَقُّقِ المناسبةِ بينها وبين المُترجَم له
(1)
، فإنَّ كثيرًا مِمَّن نظر في تراجم أبواب البخاريِّ تَعَسَّر عليهم الرَّبطُ بينها وما انتقاه تحتها مِن أخبار؛ ذلك أنَّ البخاريَّ لم يخُض نفسَ الأساليبِ التَّأليفيَّة، والمناهج الوَضعيَّة الَّتي جَرى عليها المُحدِّثون وقتَه في تصنيفِ العلومِ، بل نحى طريقًا خاصًّا في التَّدوينِ، لم يقتصر فيه على مُجرَّدِ ما يَتبادر مِن النُّصوصِ مِن مَعاني.
فلقد كان البخاريُّ في تراجمِه سَبَّاقَ غاياتٍ، وصاحبَ آياتٍ في وَضعِ تراجمَ لم يُسبَق إليها، لم يَستطع أن يُحاكيه أحَدٌ مِن المتأخِّرين في طريقتها، حتَّى نَبَّه على مسائل مَظانِّ الفقه مِن القرآن، بل أقامَها منه، ودَلَّ على طُرق التَّأنيس منه، وبه يتَّضح ربطُ الفقه والحديث بالقرآن بعضِه ببعض.
فكانت تراجمُه صورةً حَيًّة لاجتهادِه وعَبقريَّته في مَنهجيته
(2)
، جامعًا في كتابِه المُباركِ «العِلْمين والخَيْرين الجَمَّين، حازَ كتابُه مِن السُّنةِ جَلالَتها، ومِن
(1)
«توضيح الأفكار» للصنعاني (1/ 44).
(2)
«فيض الباري» للكشميري (1/ 35).
المَسائلِ الفقهيَّة سُلالتَها، وهذا عِوَضٌ ساعَدَه عليه التَّوفيق، ومَذهبٌ في التَّحقيقِ دقيق»
(1)
.
والسِرُّ في غموضِ هذه التَّراجم كامنٌ في تنوُّعِ مَقاصد البخاريِّ وبُعد مَراميه، وفرْطِ ذكائِه، وتَعمُّقه في فهمِ الحديث، وحرصِه على الاستفادةِ والإفادة منه أكبرَ استفادةٍ ممكنة؛ «كنَحْلةٍ حريصةٍ توَّاقَة -والله- تجتهدُ أن تَتَشرَّب مِن الزَّهرةِ آخرَ قطرةٍ مِن الرَّحيق، ثمَّ تُحوِّلها إلى عَسَلٍ مُصَفَّى، فيه شفاء للنَّاس»
(2)
.
فلأجل ذا أُلِّفت في فقهِ تَراجمِه كُتبٌ بحالِها قديمًا وحديثًا، أجَالَ العلماء في هذا الموضوعِ قِداحَهم، وأرْكَضوا في هذا المَيْدانِ جِيادَهم، قد اعْتصَروا فيها عقولَهم الرَّاجحة، وعلومَهم الرَّاسخة
(3)
، «فلم نَعرِفْ أديبًا ولا لُغويًّا تَعمَّق في فهمِ بيتٍ مِن الأبيات، ومَعرفةِ معنىً مِن المعاني الشِّعريَّة، والوصولِ إلى غايةٍ مِن غاياتِ الشُّعراء، مثل تَعمُّق شُرَّاحِ «الجامعِ الصَّحيحِ» والمُشتغلين بتدريسِه، في فهمِ مَقاصد المؤلِّفِ وشرحِ كلامِه»
(4)
.
والمقصود؛ أنَّ البخاريَّ لمَّا أودع كتابَه مِن الفقهِ الَّذي اشتملت عليه التَّراجم ما أودَع، ورَصَّع في عقودِ تلك الأبوابِ مِن جواهرِ المعاني ما رَصَّع، ظهرَتْ مِن تلك المَقاصد فوائد، وخَفِيَت فوائد، فاضطرَبت بعض الأفهامِ فيما خَفِيَ، فمِن مُحوِّم وشاردٍ.
(1)
«المتواري على تراجم أبواب البخاري» (ص/39).
(2)
«نظرات على صحيح البخاري» لأبي الحسن الندوي (ص/33).
(3)
من أشهر ما كُتب في شرح مناسبات تراجم اليخاري: «المتواري على أبواب البخاري» لابن المنير المالكي الذي سيأتي ذكره هنا، و «مناسبات تراجم البخاري» لبدر الدين ابن جماعة، و «تراجم أبواب البخاري» للشَّاه ولي الدَّهلوي، و «شرح تراجم أبواب البخاري» للكاندِهلوي، وكلُّها هذه مطبوعة، ولعل أجودها كتاب «ترجمان التراجم» لابن رشيد السبتي، غير أنه لم يكمله، حتى قال فيه ابن حجر في «الفتح» (1/ 93):«ووقفت على مجلد من كتاب اسمه ترجمان التراجم، لأبي عبد الله بن رُشيد السبتي، يشتمل على هذا المقصد، وصل فيه إلى كتاب الصيام، ولو تم لكان في غاية الإفادة، وأنه لكثير الفائدة مع نقصه» ، وقد عثر مؤخَّرًا على جزءٍ صغير منه طُبع بتحقيق د. زين العابدين رستم.
(4)
«نظرات على صحيح البخاري» (ص/25)، وأصلها مقالة قدَّم بها أبي الحسن الندوي لكتاب «لامع الدراري على جامع البخاري» للكاندهلوي.
فقائلٌ يَقول: اختُرِم ولم يُهذِّب الكتابَ، ولم يُرتِّب الأبواب.
وقائلٌ يقول: جاءَ الخَلل مِن النُّساخ وتجزيفِهم، والنَّقَلَة وتحريفِهم.
وقد سَبَق الجواب على هذين بِما يكفي بالَ المُنصِف مِن الانشغال بهما.
يَبقى النَّظر محصورًا في هذا الموطن في قول مَن قال: «قد أبعْدَ البخاريُّ المنتجَعَ في الاستدلال، فأَوْهَمَ ذلك أنَّ في المطابقةِ نوعًا مِن الاعتدال»
(1)
، وما هو منه إلَّا الغلَط في فهمِ الأحاديث؛ «فإنَّ أدلَّتَه عن تراجِمه مُتقاطعة، فيُحمَل الأمرُ على أنَّ ذلك لقصورٍ في فكرتِه، وتجاوزٍ عن حَدِّ فِطرتِه.
وربَّما يجِدون التَّرجمةَ ومعها حديثٌ يُتَكَلَّف في مُطابقتِه لها جِدًّا، ويجدون حديثًا في غيرها هو بالمطابقةِ أوْلى وأجْدَى! فيحمِلون الأمرَ على أنَّه كان يَضع التَّرجمةَ ويُفكِّر في حديثٍ يُطابقها، فلا يَعِنُّ له ذكرُ الجليِّ، فيعدِل إلى الخَفيِّ، إلى غير ذلك مِن التَّقادير الَّتي فَرَضوها في التَّراجم الَّتي انتقدوها، فاعْترَضوها»
(2)
.
ومِمَّن عَلِمتُه سَبَّاقا إلى هذا التَّخريجِ الحاطِّ مِن فقهِ البخاريِّ: أبو الوَليد الباجِيُّ (ت 474 هـ)؛ فبعدَ سَوْقِه لمَشهورِ نَصِّ المُستَمْلي في إلحاقاتِ تراجمِ نُسخةِ الفِرَبري مِن «الجامع الصَّحيح» - وقد ذكرناه في موضع سابق - «أتبعَه الباجيُّ بما كانَ الواجبُ عليه تَركُه»
(3)
(4)
.
(1)
«المتواري على أبواب البخاري» لابن المنير (ص/36).
(2)
«المتواري على أبواب البخاري» (ص/36)
(3)
«إفادة النَّصيح» لابن رشيد السبتي (ص/26 - 27).
(4)
«التَّعديل والتجريح» (1/ 310 - 311).
وهذا القولُ منه بمَنأىً عن التَّحقيق! وما ينبغي لِمن استعْصَى عليه الظَّفرُ بوجهِ تلك المناسبات أن يُسارع بردِّ العَيْبِ في المُتَرْجِم، ما دام القصورُ في فهمِ النَّاظرِ واردٌ.
فلأجل هذا الَّذي بدر من الباجيِّ، تَعقَّبَه ابنُ رشيد السَّبتي (ت 721 هـ) بما يَدفع اللَّومَ به عن البخاريِّ، قائلًا:«إنَّما وَقَع للبخاريِّ رضي الله عنه هذا، لِما كان عليه مِن النُّفوذِ في غوامضِ المَعاني، والخلوصِ مِن مُبهماتِها، والغَوصِ في بحارِها، والاقتناصِ لشَوارِدها، وكان لا يَرضى إلَّا بدُرَّة الغائص، وظَبْية القانِص، فكان رضي الله عنه يَتأنَّى ويَقف وقوفَ تخيُّرٍ لا تحيُّرٍ، لازدحامِ المعاني والألفاظ في قلبِه ولسانِه، فحُمَّ له الحِمام، ولم تُمهله الأيَّام، لا لمِا قاله أبو الوليد مِن قولِه الخطأِ الَّذي ضَربنا عن ذكرِه؛ ومَن تأمَّل كلامَه فِقهًا واستنباطًا وعربيَّةً ولغةً، رأى بحرًا جَمَع بحارًا، إلى ما كان عليه مِن حُسنِ النِّيَّة، وجميل الفِعلة في وضعِ تراجم هذا الكتاب»
(1)
.
غير أنَّ هذا المُستَحْسَن عند ابن رُشيدٍ يَسلُب حُسْنَه مَن يُسيء فهمَ مَقاصِد البخاريِّ في تراجِمه، مِن بعضِ الاتِّجاهاتِ المُنحرفة المُعاصرة، فعَابوها عليه حينَ عَزَّ عليهم إدراكُ كثيرٍ مِن مُناسَباتِها؛ فلم يَجد (حسن حَنفي) بُدًّا ليتَخلَّصَ مِن دوَّامةِ فهمِها إلَّا بتحقيرِ هذه التَّبويباتِ، كونُها عنده «اختيارًا إيديولوجيًّا طِبقًا للسُّلوكِ القَديم، وما يَتَّفق مع البِيئَةِ العَربيَّة الأولى»
(2)
؛ فما البخاريُّ في اختياراتِه لتبويباتِه إلَّا خادِمٌ للتَّوجُّهاتِ السُّلطويَّة والاجتماعيَّة
(3)
.
من هنا، حسُن بنا التَّعريج بإيجازٍ على طبيعةِ التَّبويباتِ الَّتي حبكها البخاريُّ في «صحيحِه» ومنهجه في ترجمتها، كي نجليَّ أنظار من استشكلوا ذلك مِن الغبشِ الحاصل في أفهامهم تُجاه فقهِ البخاريِّ وفهمِه للأحاديث؛ فنقول:
(1)
«إفادة النَّصيح» لابن رشيد (ص/26 - 27)
(2)
«من النَّقل إلى العقل» (2/ 23).
(3)
«في فِكرنا المعاصر» لحسن حنفي (ص/180).
الفرع الأوَّل: أنواع التَّراجم المودعة في «الجامع الصَّحيح» .
يُقرِّر بعضُ المُتحقِّقين بـ «صحيح البخاريِّ» ، أنَّ المناسبة بين التَّراجم والمُترجم لها فيه تأتي على جهتين:
الجهة الأولى: جهة المطابقة، وهي نوعان
(1)
:
النَّوع الأوَّل: المطابقة الكليَّة: وهي الَّتي تكون التَّرجمة فيها مطابقةً للمُترجم مطابقةً تامَّةً مِن كلِّ وجه، فكلُّ ما دلَّ عليه فهو واردٌ في التَّرجمة.
النَّوع الثَّاني: المطابقة الجزئيَّة: وهي الَّتي تكون التَّرجمة فيها مطابقةً للمُترجم مطابقةً ناقصة، فليس كلُّ ما دلَّ عليه المُترجَم واردًا في التَّرجمة، بل إنَّ التَّرجمة دالَّة على جزءٍ من المُترجم فقط.
وكِلتا الجِهتين مِن المطابقة لا إشكال فيها فيمن ينظرُ في كتابِ البخاريِّ، لتَنصيصه على المناسبة في نفس التَّرجمة كليًّا أو جزئيًّا
(2)
.
أمَّا الجهة الثَّانية: فجِهة إدراكِها، وهي قسمان:
القسم الأوَّل: المناسبة الجَليَّة: وهي الظَّاهرة الَّتي لا تحتاج إلى كثيرِ تدبُّر وتأمُّل، وإنَّما هي الظَّاهر المنقدح في الذِّهن مباشرةً، وهذه واقعة في تراجم البخاريِّ كثيرًا
(3)
.
وليس ذكر هذه الجهة من غرضنا في هذا المبحث أصالةً؛ وفائدتها: الإعلام بما ورد في ذلك الباب من اعتبار لمقدار تلك الفائدة، فكأنَّه يقول: هذا الباب الَّذي فيه كذا وكذا، أو باب ذكر الدَّليل على الحكم الفلاني مثلًا
(4)
.
(1)
مُستفاد من «تراجم أحاديث الأبواب» لـ د. علي الزبن (بحث منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود، العدد: 5، محرم 1412 هـ، ص 158 - 162).
(2)
انظر هذا التقسيم في «المتواري» لابن المنير (ص/37)، و «الحِطَّة» لصدِّيق حسن خان (ص/170 - 171).
(3)
انظر «المتواري» لابن المنير (ص/37).
(4)
انظر «هُدى السَّاري» (1/ 13).
القسم الثَّاني: المناسبة الخَفيَّة: وهذه الَّتي تحتاج إلى سِعة علمٍ، وتَوقُّدٍ ذِهنيٍّ حاضر، فآثَرَها البخاريُّ على ما ظهر من التَّراجِم، حيث اقتصَرَ على ما يدلُّ بالإشارةِ، وحَذَف ما يدلُّ بالصَّراحةِ، وهذه الَّتي يَعِزُّ على الأكثرين دَرْكُها، حتَّى سُمِّيت بـ «التَّراجم الاستنباطيَّة»
(1)
.
فهذا النَّوع مِن التَّراجِم عند البخاريِّ أجلُّ أنواعِ تراجمه وأنفسِها، حتَّى كانت عادتَه الأشهرَ في تَبويباتِ كتابِه، والصِّفةَ السَّائدة فيها؛ وفيها يقول ابن حَجر:«ظَهَر لي بالاستقراء مِن صَنيع البخاريِّ، اكتفاءُه بالتَّلويحِ عن التَّصريح .. ، قال: وقد سَلَك هذه الطَّريقة في مُعظَمِ تَراجِم صحيحِه»
(2)
.
فمَن أنْعَم النَّظَر في هذه التَّراجم، وقُدِّر له أن يَتَصَفَّحها ويَتلَمَّحها برَويَّةٍ، مُستَعينًا في ذلك بما سَطَّره شُرَّاح الحديثِ، استطاعَ أن يُمسِك بالحبلِ الرَّابطِ بينها، فلَاحَ له عن كثبٍ مَغزى البخاريِّ منها.
وثمَّة تَنويعٌ ثانٍ نفيس لتراجمِ البخاريِّ في «صَحيحِه» : وهو ما نحى إليه أبو الحسن السِّندي (ت 1138 هـ)، يقربُ أن يكون جمعًا بين كِلا الجِهتين السَّالِفتين في التَّقسيمِ الأوَّل: جِهة المُطابقة، وجهة الإدراك، يُعينُ على حَلِّ كثيرٍ مِن الإشكالاتِ الَّتي قد تَكتنِف علاقةَ بعضِ التَّراجم بمُترجَمِها عند بعضِ النَّاظرين، يقول فيه:
«اِعلم أنَّ تراجِمَ الصَّحيحِ على قِسمين:
1 -
قِسمٌ: يذكرُه لأجلِ الاستدلالِ بحديثِ البابِ عليه.
2 -
وقِسمٌ: يذكره ليُجعَل كالشَّرح لحديثِ الباب: فيُبيِّن به مُجمَل حديث الباب -مثلًا- لكونِ حديثِ البابِ مُطلقًا قد عُلِم تقييدُه بأحاديث أُخَر، فيأتي بالتَّرجمةِ مُقيَّدةً، لا ليستدِلَّ عليها بالحديثِ المُطلَق، بل ليُبيَّن أنَّ مُجمَل الحديث هو المُقيَّد، فصارَت التَّرجمةُ كالشَّرحِ للحديث.
(1)
«الإمام البخاري وفقه التَّراجم في جامعه الصَّحيح» لنور الدِّين العتر (ص/74).
(2)
«فتح الباري» (1/ 8).
والشُّرَاح جَعَلوا الأحاديثَ كُلَّها دلائل لمِا في التَّرجمة، فأشكَلَ عليهم الأمرُ في مَواضع، ولو جَعَلوا بعضَ التَّراجم كالشَّرحِ، تخلَّصوا من الإشكالِ في مَواضع»
(1)
.
فلِلْغَفلةِ عن مثلِ هذه المَقاصد الدَّقيقة، «اعتَقَد مَن لم يُمعِن النَّظرَ، أنَّ البخاريَّ تَرَك الكتاب بلا تَبيِيضٍ»
(2)
-وقد أسلفنا التَّنبيه إلى غلطه- ومَن تأمَّل ظَفَر!
الفرع الثَّاني: الحِكمة مِن إيثارِ البخاريِّ للتَّلميحِ دونَ التَّصريحِ في أكثرِ تَراجِمه.
اختارَ البخاريُّ هذا النَّمط مِن التَّلميحِ في تراجم أبواب كتابه، شحْذًا منه لعقلِ قارِئ كتابِه، وتَدريبًا لفهمِ طلبةِ الحديثِ على الاستنباطِ، وصقلًا للمَلَكاتِ في ذلك، وتنبيهًا على مَواطن العِلَّة؛ وفي تقرير هذه المَقاصد التَّربويَّة الجليلة يقول المُعَلِّمي:«لِلبخاريِّ رحمه الله وُلوعٌ بالاجْتِراءِ بالتَّلويح عن التَّصريح، كما جَرى عليه في مَواضع مِن جامِعِه الصَّحيح، حِرصًا منه على رياضةِ الطَّالب، واجتذابًا له إلى التَّنبُّهِ والتَّيقُّظِ والتَّفهُّمِ»
(3)
.
وقد وَجدنا العلماءَ قديمًا وهم يَنْعَمون بمثلِ هذا الحِسٍّ الرَّائقِ في تَلقين العلم، فيتَفنَّنون في تَقليبِ المادةِ العِلميَّة على وجوهٍ مُختلِفةٍ، حِرْصًا على استنهاضِ مَلَكةِ الاستحضارِ في الطَّلَبة.
فكان مِن طرائقِ ذلك عندهم -مثلًا-: أن يُورِد الشَّيخ آيةً، ثمَّ يَستفزَّ أذهانَ الطُّلابِ لذكرِ كلِّ ما يَتَعلَّق بها، تفسيرًا وفِقهًا وحديثًا ولُغةً
(4)
؛ وهذه الطَّريقة
(1)
حاشية السندي على «صحيح البخاري» (1/ 5).
(2)
«هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/14).
(3)
مقدِّمته لتحقيق كتاب «مُوضِّح أوهام الجمع والتَّفريق» للخطيب (1/ 14).
(4)
وقد كان يسلك هذه الطَّريقة في التَّعليمِ إبراهيم بنُ جماعة في تمرينِه لتلامذتِه، يقول ابن حَجر في «رفع الإصر عن قضاة مصر» (ص/29):«ذَكَر لي القاضي جلال الدِّين البلقيني، أنَّه حضر دروسَه، ووَصَفه بكثرةِ الاستحضار، قال: وكانت طريقتُه أنَّه يُلقي الآيةَ أو المسألة، فيَتَجاذب الطَّلبةُ القولَ في ذلك والبحث، وهو مُصْغ إليهم، إلى أن يَتَناهى ما عندهم، فيَبتدئ فيُقرِّر ما ذكروه، ثم يَستدرك مَا لم يَتَعرَّضوا له، فيُفيد غرائبَ وفَوائد» .
النَّافعة لتنميِة مَلَكة الاستحضارِ لا تَصلحُ إلَّا بإزاءِ شَيخٍ مُتمَكِّن في مثل مقام البُخاريِّ!
الفرع الثَّالث: ألوانٌ من خفيِّ تراجم البخاريِّ الدَّالةِ على غَوْصِه في المعاني واستحضارِه للأدلَّة.
لقد ألْفَى المُحقِّقون من أهل المعرفة بـ «الصَّحيح» هذه المناسباتِ الخفيَّة فيه عدَّةَ أنواعٍ:
فمنها: أن يكون في التَّرجمةِ لفظٌ يُفيد مَعنىً مُعيَّنًا لا ذِكر له في الحديث الَّذي أثبَتَه، لكن يكون هذا الحديث ذا طُرقٍ، أثبتَ منها البخاريُّ ما يُوافق شرطَه في كتابه، ولم يُثبته مِن الطَّريق الموافقةِ للتَّرجمة، لقصورِ شَرطِها عن شَرطِه، فيأتي بالزِّيادةِ الِّتي لم تُوافق شرطَه في التَّرجمة.
كما أنَّه كثيرًا ما يَذكرُ التَّرجمةَ بخلافِ لفظِ الحديث، ويكون الغَرَض منه: الإشارةُ إلى اختلافِ ألفاظِ الرِّوايةِ الواردةِ في الباب، وهذا مُطَّرد في كتابه
(1)
؛ فيظنُّ الجاهلُ بالرِّوايات أنْ لا علاقةَ بين ما في التَّرجمةِ والحديث! ومثل هذا لا يَنتفِعُ به إلَّا المَهَرة مِن أهلِ الحديث.
مثل ما أوردَ من حديثِ الخوارج: ««إنَّ مِن ضِئْضِئِ هذا قومًا يَقرءون القرآنَ، لا يُجاوز حَناجِرَهم .. » ؛ أورده البخاريُّ في بابِ «قول الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}»
(2)
.
فقد بيَّن العَسْقَلانيُّ أنَّ حديث الخوارج هنا جاءَ في بعضِ رواياتِه -غير الرِّواية الِّتي ساقها البخاريُّ في الباب المذكورِ- بلفظ: «ألَا تأمنُوني وأنا أمينُ مَن
(1)
مثاله في «المتواري» لابن المنير (ص/273).
(2)
«صحيح البخاري» (7/ 186).
(1)
.
ومن أنواع الخفيِّ من تراجم البخاريِّ: أنَّه يُترجِم للبابَ على صورةٍ ما، فيُورِد فيها أحاديث مُتعارضةً في ظاهرِها، فينبِّه على وجه التَّوفيق بينهما أحيانًا، وقد يَكتفي بصورةِ المُعارضة، تنبيهًا منه على أنَّ المسألةَ اجتهاديَّة
(2)
، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافِها، ليُقرِّب إلى الفقيه مِن بعدِه أمرَها، كما فَعَل في بابِ «خروج النِّساءِ إلى البُرازِ»
(3)
.
ومن ذلك: أنَّه يذكرُ حديثَ صحابيٍّ ما لا يُناسب التَّرجمة، وهو يُشير بذلك إلى حديثٍ آخرَ لنفسِ هذا الصَّحابي المُناسب لهذه التَّرجمة! وهذا مِن أشدِّ تَشحيذاتِه للأذهانِ، لِتلتفِتَ إلى مُتعلَّقاتِ الحديث وأشباهِه.
يتَّضح هذا بما تَرجَم به بابًا، قال فيه:«باب: طولِ القيامِ في صلاةِ اللَّيل» ، أورَدَ في آخره حديثَ حذيفة رضي الله عنه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتَّهجدِ مِن اللَّيل، يَشوص فاهُ بالسِّواك» .
فقد استشكلَتْ بعضُ الأفهام العلاقة بين طول القيامِ وهذا الحديث في التَّسويك؛ حتَّى أبانَ البدرُ بن جماعة (ت 733 هـ) عن وجهِ ذلك بقوله: «أرادَ بهذا الحديث استحضارَ حديثِ حذيفة رضي الله عنه الَّذي أخرجه مسلم: «أنَّه صَلَّى مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقرأ البقرةَ وآل عمران والنِّساء في ركعة، وكان إذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبَّح، أو سؤالٍ سَأل، أو تعوِّذٍ تعوَّذ، ثمَّ ركَع نحوًا ممَّا قام» الحديث،
(1)
«فتح الباري» (13/ 418).
(2)
«المتواري» لابن المنير (ص/73).
(3)
«شرح أبواب صحيح البخاري» لولي الله الدهلوي (ص/20).
(1)
.
بينما رأى العَينيُّ (ت 855 هـ) بعده بأنَّ «التَّرجمةَ في طولِ القيام في صلاة اللَّيل، وحديثُ حذيفة فيه القيامِ للتَّهجُّد، والتَّهجُّد في اللِّيل غالبًا يكون بطولِ الصَّلاة، وطولُ الصَّلاة غالبًا يكون بطولِ القِيامِ فيها، وإن كان يَقعُ أيضًا بطولِ الرُّكوع والسُّجود»
(2)
.
ومن ذلك: أن يأتيَ البابُ خاليًا مِن ترجمةٍ أصلًا، ويكتفي عنها بكلمة (بَابٌ)، مع إيراده للأحاديث تحتها، وتُسمَّى بـ «الأبوابِ المُرسَلة»
(3)
، فيكون هذا الباب بمَنزلةِ الفَصْلِ مِن البابِ السَّابق، فلا بُدَّ له مِن تَعلُّق به
(4)
.
أو أنَّه يحذِف التَّرجمةَ تكثيرًا للفوائد، فإنَّ الحديث الواردَ في البابِ يُستنبط منه مسائل عديدة مُناسبة لهذا المَحَلِّ، فيَحذف التَّرجمة، تشحيذًا للأذهان في إظهارِ مُضمَره، واستخراجِ خَبيئه، وإيقاظًا للنَّاظِرين أن يُخرِجوا منه تَراجم عديدةً مُناسبة لهذا الحديث
(5)
.
ومن ذلك: أنْ يورِدَ بعد التَّرجمةِ حديثًا يُوافقها، ثمَّ يذكرَ بعده حديثًا لا يُوافقها، ويكون ذكرُه للحديثِ الثَّاني لمصلحةِ الحديثِ الأوَّل، كتَوضيحِ إجمالٍ فيه، أو يكون في إسنادِ الثَّاني تصريحٌ بسماعِ راوٍ قد عَنْعنَ في الحديث الأوَّل، فيُثبت به الاتِّصال، على المَعروفِ مِن شرطِ البخاريِّ في ذلك، وهكذا.
والفائدة المُنتزعة مِن هذا: أنَّ كثيرًا ما يَتَحصَّل وجهُ المناسبةِ بالنَّظرِ إلى مَجموعِ الرِّواياتِ في البابِ، فلا تَسْتَقلُّ كلُّ روايةٍ بإفادةِ ما وُضِعَت له التَّرجمة.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (3/ 20).
(2)
«عمدة القاري» (7/ 186).
(3)
«الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصحيح» لـ د. نور الدين عتر (ص/85).
(4)
«هُدى السَّاري» لابن حجر (1/ 125)، وانظر «عمدة القاري» للعيني (4/ 241)، ونحا نحو هذا الترمذي في «جامعه» ، والخطيب البغدادي في كتابه «الكفاية في معرفة أصول علم الرواية» .
(5)
«الأبواب والتَّراجم» للكاندهلوي (1/ 97).
وفي تقريرِ هذه الفائدة في النَّظر إلى تراجم البخاريِّ، يقول السِّندي (ت 1138 هـ):«كثيرًا ما يذكُر بعد التَّرجمةِ آثارًا لأدْنَي خاصيَّةٍ بالباب، وكثيرٌ مِن الشُّراحِ يَرَوْنها دلائلَ للتَّرجمة، فيَأتون بتَكلُّفاتٍ باردةٍ لتصحيحِ الاستدلالِ بها على التَّرجمةِ، فإن عَجزوا عن وجهِ الاستدلال، عَدُّوه اعتراضًا على صاحبِ «الصَّحيح» ، والاعتراضُ في الحقيقةِ مُتوجِّه عليهم، حيث لم يَفهموا المَقصود»
(1)
.
ومن ذلك: أن يُضَمِّن التَّرجمةَ ما لم تَجرِ العادة بذكرِه في كُتبِ الفقه، وهذا ممَّا يَستغربه بعضُ أهلُ العلمِ مِن تَراجمه، وقد يَظنُّه بعضُ المُعاصرين مِمَّن لا يَعرف البخاريَّ: أنَّه مِن ضَعف إلمامِه بتقسيماتِ الأبوابِ! وأنَّه ذكرٌ لِما لا جَدْوى منه
(2)
!
يُمثِّلونَ لذلك بترجمتِه لبابِ «أكل الجُمَّار» ؛ فقد يَظنُّ الظَّانُ أنَّ هذا لا يُحتاج إلى إثباتِه بدليلٍ خاصٍّ، لأنَّه على أصلِ الإباحةِ كغيره، لكنَّ البخاريَّ لاحَظ أنَّه رُبَّما يُتَخيَّل أنَّ تجميرَ النَّخلِ إفسادٌ للمالِ وتَضييع له، فنَبَّه على بُطلانِ هذا التَّوهُّم إنْ سَبَق إلى ذهنِ أحَدٍ.
فلأجل نفاسة هذا المَلمح، عقَّب على البخاريِّ ابنُ المنيِّر (ت 683 هـ) في هذا الموطن بأن قال:«رضيَ الله عنك! وقد سَبَق الوَهم إلى بعضِ المُعاصرين، فانتَقَد على مَن جمَّر نخلةً واحدةً بعد أخرى ليَقتات بالجُمَّار، تحرُّجًا وتَورُّعًا مِمَّا في أيدي النَّاس، لما عُدِم قُوتَه المعتاد في بعضِ الأحيان، وزَعَم هذا المُعترض أنَّ هذا إفسادٌ خاصٌّ للمال، وفساد عامٌّ في المال، وربَّما يُلحِقه بنهيِ مالك رحمه الله عن بيع التَّمرِ قبل زهوه على القطع إذا كثُر ذلك، لأنَّ فيه تسبُّبًا إلى تقليلِ الأقوات؛ فلمَّا وَقفتُ على ترجمة البخاريِّ، ظَهَرت لي كرامَتُه بعد ثلاثِ مائةِ سنةٍ ونيِّف! رحمه الله»
(3)
.
(1)
«حاشية السندي على البخاري» (1/ 5).
(2)
كما ادَّعاه عبد الصَّمد شاكر الإمامي في كتابه «نظرة عابرة إلى الصحاح الستة» (ص/59).
(3)
«المتواري» (ص/38).
مع ما يجب التَّنبُّه له في هذا الباب من استكناه مقاصد البخاريِّ من تراجمه: أنَّ أكثرَ ما يُترجِم به لمثلِ هذا -مِمَّا قد يظهر منه عدمُ جَدواه- إنَّما يكون تَعقُّباتٍ وتَنكيتاتٍ على عبد الرَّزاق (ت 211 هـ) وابن أبي شيبة (ت 235 هـ) في تَراجم «مُصَنَّفيهما» ! ومِن ثمَّ فإنَّ مثل هذه التَّوجيهات لهذا النَّوع مِن التَّراجم، لا يَهتدي إليها إلَّا مَن مَارَس المُصَنَّفَيْنِ، واطَّلَع على ما فيهما
(1)
!
ثمَّ إنَّ البخاريَّ قد يَعقِد بابًا يأتي له بترجمةٍ ما، ليس له مِن وراءه قَصدٌ إلَّا نَقضُ ما انتَشَر في النَّاسِ مِن فتوى فقيه، هي عنده مخالفةٌ لدَلالةِ سُنَّة؛ ومَن كان مُطِّلعًا على ما كان سائدًا في عصره مِن آراءٍ يكثر فيها الخِصام، تلَمَّح ذلك في مثلِ هذه التَّراجم مِن طرفٍ خَفيٍّ
(2)
!
إلى غير ذلك من أنواعِ التَّراجِم الَّتي انبرى العَالِمون الفاهِمونَ لتَجلِيتها، وما ذلك منهم إلَّا حَسَنةٌ مِن حَسناتِ فِقهِ البخاريِّ وواسِع فهمِه للشَّريعة.
الفرع الخامس
مجاوزة عبقريَّة البخاريِّ أوجهَ التَّناسب في التَّراجم
إلى تناسبِ الكُتِب والأبواب فيما بينها وترتيبها
سَيزيدُ انبهارُك بهذه العقليَّة البُخاريَّة وشفوفِ روحِه الإبداعيَّة، حينما تعلمُ أنَّ ما مَرَّ بك مِن أمثلةٍ قليلةٍ في «صحيحِه الجامع» مِن المُناسباتِ، ليس مُقتصرًا على ما كان بين تراجِم الأبوابِ وما ضَمَّته مِن أحاديث وآثار، بل قد طالت يدُ إبداع البخاريِّ الكُتبَ المَوضوعيَّة نفسَها، بالرَّبط فيما بينها من جهة، وبين الأبوابِ في الكتابِ الواحدِ من جهة
(1)
، بل بين الأحاديثِ في البابِ نفسه من جهة أخرى! فكان يُرتِّبها بحسب الغَرض الَّذي مِن أجله يَسوق تلك الأحاديث.
فتارةً يبدأ بالحديث العَالي، ويُتبعه ذكر النَّازل.
وتارةً يبدأ بالحديثِ المُعنعَن، ثمَّ يردفه بما فيه التَّصريح بالسَّماع.
وتارةً يبدأ بالحديثِ الأكثر دلالةً على الحكم الفقهيِّ، ثمَّ يتبعه بالشَّواهد، وهكذا .. ، كلُّ ذلك وِفقَ منهجٍ مُحكم
(2)
.
فلقد سارَ في هذا كلِّه على ترتيبٍ مُبتَكرٍ لم يُسبَق إلى مثلِه ولا قُورِبَ، حتَّى أصبح الكتاب عِقْدًا مَنظومًا، ووَحدةً مُتناسقةً مُتكاملةً، يخدم غايةً واحدةً.
(1)
كان بدر الدين العَيني في شرحه «عُمدة القاري» أكثر من التزم بيانَ هذا التَّناسب في كتب «الصَّحيح» أكثر من غيره، مع بيانه لنوعِ هذا التَّناسب، انظر بعضا من أمثلته فيه (1/ 99) و (1/ 100) و (1/ 103).
(2)
بيَّن ابن حجر بعض أمثلته في «هُدى السَّاري» (ص/210).
يَكفيك مَثلًا على ذلك: براعةُ استهلالِه بكتابِ «بدء الوَحي» ، وإتباعُه بكتاب «الإيمان» ، ثمَّ «العِلم» ، وهكذا حتَّى خَتَم التَّسلسل بكتاب «التَّوحيد» .
وإلى هذا النَّوع مِن التَّناسب، كان التِفاتُ البُلقينيِّ (ت 805 هـ) فيما كتبه عن «الصَّحيح» عن علاقةِ كُتبِه فيما بينها تقديمًا وتأخيرًا، فكان ممَّا قاله:
وهكذا حتَّى ساق البلقينيُّ (ت 805 هـ) جميعَ كُتبِ» الصَّحيح» بحسب تَرتيبها، مُبيِّنًا وجهَ التَّناسب بينها؛ ليختم ذلك بقوله: «ولمَّا كانت الإمامةُ والحُكم يَتمنَّاها قومٌ، أردَف ذلك بـ (كتابِ التَّمَني)! ولمَّا كان مَدار حكم الحُكَّامِ في الغالب على أخبارِ الآحاد، قال:(ما جاء في إجازةِ خبرِ الواحد الصَّدوق).
ولمَّا كانت الأحكام كلُّها تحتاج إلى الكتاب والسُّنة، قال:(الاعتصام بالكتاب والسُّنة)، وذكر أحكام الاستنباط مِن الكتاب والسنة، والاجتهاد، وكراهية الاختلاف، وكان أصل العِصمة أوَّلًا وآخرًا هو توحيد الله، فختم بكتاب (التَّوحيد) .. »
(1)
.
ثمَّ جاء اعتناء تلميذه ابن حَجرٍ (ت 852 هـ) بنوعٍ آخرَ مِن المُناسباتِ، دَلَّلَ به على بَراعةِ الاختتامِ عند البخاريِّ للأبوابِ، وبيَّن أنَّه لم يَرَ مَن نَبَّه عليه، بحيث أنَّ البخاريَّ «يَعتني غالبًا بأن يكون الحديث الأخير مِن كلِّ كتابٍ مِن كُتُبِ هذا الجامع مُناسبًا لختمِه، ولو كانت الكلمةُ في أثناءِ الحديثِ الأخير، أو مِن الكلامِ عليه»
(2)
.
(1)
«هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/470 - 473)
(2)
«فتح الباري» (13/ 543)، وانظر مثالًا لهذا النوع من المناسبات في «هدى الساري» (ص/358).
فهذا عن ختم البخاريِّ للكتابِ الواحد من «صحيحِه» .
أمَّا عن اختتامِه لصحيحِه كلِّه: فقد جاء الحديث فيها مُتناسبًا مع أوَّلِ حديثٍ صَدَّر به «الصَّحيح» ، تناسبًا يُبقِ لمن تأمَّله أثرًا بليغًا يوجب رِقَّة في قلبِه، يقول العَينيُّ في بيانِ سَبَبِ بَدْءِ البخاريِّ الكتابَ بحديثِ «إنَّما الأعمال بالنِّيات»:«أرادَ بهذا إخلاصَ القَصدِ، وتصحيحَ النِّية، وأشارَ به إلى أنَّه قَصَد بتأليفِه الصَّحيحَ وجهَ الله تعالى، وقد حَصَل له ذلك، حيث أُعْطِي هذا الكتابُ مِن الحَظِّ ما لم يُعْطَ غيره مِن كُتبِ الإسلام، وقَبِلَه أهلُ المَشرق والمَغرب»
(1)
.
أمَّا عن آخر حديثٍ خَتم به «صحيحه» ، فهو حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه:«كلِمتان حبيبتان إلى الرَّحمن، خَفيفتان على اللِّسان، ثَقيلتان في الميزان: سُبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ، حيث جعله آخرَ بابِ: قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، مِن كتاب (التَّوحيد):
فوجه تناسبه مع الحديث الأوَّل في النِّيات، قد أبانَ عن حُسنِه البُلقيني بقولِه:
«لمَّا كان أصل العِصمة أوَّلًا وآخرًا هو توحيد الله، فختم بكتاب التَّوحيد، وكان آخر الأمور الَّتي يظهر بها المُفلح من الخاسر ثقلُ الموازين وخفَّتُها، فجعله آخر تراجم كتابه
…
فبدأ بحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيات» ، وخَتَم بأنَّ أعمال بني آدم تُوزن، وأشار بذلك إلى أنَّه إنَّما يُتقبَّل منها ما كان بالنيَّة الخالصة لله تعالى»
(2)
.
وهكذا قد أبان البخاريُّ بهذا التَّناسب عن (فكرٍ مَنظوميٍّ) بَديعٍ، تَجلَّى في هذه الوحدةِ المَوضوعيَّة المترابطة في كلِّ كتابٍ مِن كُتبه وأبوابِه، ابتنى آخرَها على أوَّلها، وأوَّلها على آخرِها، مُتوخِّيًا في ذلك الكمالَ في هندسةِ كتابِه، على تصميمٍ
(1)
«عمدة القاري» (1/ 22).
(2)
«هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/473).
(1)
.
فلقد أطنبتُ الكلام في هذا الباب المُتعلِّق بتراجم البخاريِّ ومُناسباتِه، كي ينزجِر السَّاخر مِن فقهِ البخاريِّ، فيَعلَم أنَّه بنفسِه كان أوْلى بأن يَسخر؛ وما يُلقِّنه أساتذة الرَّفضِ لِطَلَبتِهم في هذا الباب مِن انخرام أهليَّة البخاريِّ للتَّأليف
(2)
، الخرْمُ لأهليَّتِهم لتفهُّم الحقِّ هم به أوْلى! والله غالبٌ على أمرِه.
(1)
«البرهان في علوم القرآن» للزركشي (1/ 36)، ولمزيد تفصيل في أنواع التناسب في «صحيح البخاري» انظر «التناسب في صحيح البخاري - دراسة تأصيلية» لـ د. علي عجين (ص/9 - 16).
(2)
يذكر حيدر حبُّ الله -وهو باحث إمامي، صاحب كتاب «المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي عند الإمامية» - في موقعه الشَّخصيِّ على الشَّبكة العالميَّة بتاريخ 10 - 7 - 2014 عن أستاذه أحمد عابدي: أنه مما كان يقرره في كراسته التي دوَّنها للتدريس في كلية أصول الدين في مدينة قُم الإيرانية إشكالا على كتاب البخاري: وهو أنه غير منظَّم، ولا مرتَّب الأبواب، ولا يوجد تنسيق منطقي بين أبوابه، فقد بدأ بكتاب (بدء الوحي) ثم (كتاب الإيمان) ثم كتاب (العلم) ثم كتاب (الطهارة)، ثم انتهى إلى كتاب (التوحيد)، فلا يوجد رتبية ولا ترابط منطقي بين هذه الأبواب حسبَ فهمِه!