الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الخامس
ابن قرناس
(1)
وكتابه «الحديث والقرآن»
يزعم (ابن قرناس) أن غرضه من تأليفِ هذا الكتابِ: البرهنة على كفايةِ القرآن في التَّديُّنِ، واستغناء المسلمِ به عن الأحاديثِ النَّبويَّة، تصديقًا بأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يوحَى إليه غير القرآن، وأنَّ تلك المَروِيَّات المنسوبة إليه هي السَّببُ في تفرقةِ الأمَّة، وأنَّ الأمَّة لو اعتمدوا على القرآن وحده دون تأويل، لما تَفرَّقوا واختلفوا مِن بعد ما جاءهم البَيِّنات.
لقد أطنبَ القولَ في توكيدِ هذه الأصولِ البدعيَّة في مُقدِّمة كتابه، ومِمَّا مهَّد به لها قوله فيها:«هذا الكتابُ يقومُ على عرضِ نَزرٍ يسيرٍ مِن الأحاديث على كتابِ الله عز وجل، لإثباتِ أنَّ الحديث لا يُمكن أن يكون صَدَر مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بصورتِه الَّتي في كُتبِ الحديث، ولا يُمكن أن يكون جُزءً مِن دين الله»
(2)
.
ولإثبات هذا الادِّعاء اختارَ (ابن قرناس) أكثرَ مِن (مائتي وخمسين) روايةً مِن «صحيح البخاريِّ» مظهرًا تعارضَها مع القرآن، مقارنًا لها بما في كتاب الرَّافضةِ «الكافي» حاوِيَةِ الأكاذيب! مُرتِّبًا إيَّاها حسب ترتيبِها في «الجامعِ
(1)
كاتب سعودي يخفي اسمه الصريح، منكر للسنة النبوية وحجيتها، له صفحة خاصة على موقع (أهل القرآن) على الشبكة العالمية، والذي يشرف عليه كبيرهم (أحمد صبحي منصور).
(2)
«الحديث والقرآن» (ص/21).
الصَّحيح»، مُبيِّنًا غَرَضَه من التَّركيزِ على كتابِ البخاريِّ دون سائرِ مُصنِّفاتِ الحديث في قولِه:
«يستحيلُ أن نناقش كلَّ الأحاديث المَنسوبة للرَّسول، فقد اكتفينا بمناقشةِ بعضِ أحاديثِ البخاريِّ، كمُمَثِّل للأحاديثِ السُّنِيَّة، إضافةً إلى عدد قليلٍ من الأحاديث الواردة في كتابِ «الكافي» لتمثيلِ أحاديثِ الشِّيعة»
(1)
.
وقد بيَّن ابن قرناس طريقة تأليفِه للكتابِ في المقدِّمة نفسها، وأنَّه قسَّمه إلى خمسةِ أقسام، فقال:
«يتعرَّض القسم الأوَّل إلى الأحاديث بشكل عامٍّ، والَّتي تتناول كافَّة المواضيع.
أمَّا القسم الثَّاني: فيتعرَّض لما تقوله الأحاديث عن الحكَّام والسَّلاطين، لأنَّ التَّحول عن الدِّين القويم جاء بمباركتهم.
والقسم الثَّالث: يعطي فكرة عن رسول الله في كتب الحديث، وعن جرأتها على الله جل جلاله في القسم الرَّابع.
أمَّا القسم الأخير: فقد عرضنا فيه عددًا من الأحاديث الواردة في كتاب (الكافي) للكُليني»
(2)
.
والمُؤلِّف مع هذه الفذلكة الفارغة مُفتقِرٌ إلى تحصيلِ أوَّلِيَّات علمِ الحديث، مُستمرئٌ أن يضعَ نفسه قاضيًا على عُلمائِه، جامحٌ في جَهالتِه بمَناهج المُصنِّفين في السُّنة، فكان مِن غُبنِ آراءِه تلك -مثلًا- أنْ أنكرَ عليهم إخراجَ أحاديثِ الصِّحابِ رضي الله عنهم، دون تصريحِهم لفظًا برفعِها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم!
(3)
!
(1)
«الحديث والقرآن» (ص/23).
(2)
«الحديث والقرآن» (ص/23).
(3)
«الحديث والقرآن» (ص/433).
ومثَّل لذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنه: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، قال:«نَسَختها الآيةُ الَّتي بعدها»
(1)
.
فقال: «هذا منسوبٌ لمِن هو دون الرَّسول، ولذلك كان يجبُ ألَّا يكون في كُتب الحديث»
(2)
، وقد عَمِي عن أنَّ قولَ ابن عمرَ له حكمُ الرَّفع، لأنَّ مثله لا يُقال بالرَّأي، فضلًا عن الرِّواياتِ الأخرى في نفسِ البابِ، والَّتي تُصرِّح برفعِ هذا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ثمَّ أتبعَ (ابنُ قرناسٍ) هذا بعمايةٍ أخرى عن مصطلحات القومِ، وذلك أنَّه أساء الظَّنَّ بعدالة أهل الحديث لمُجرَّد أنَّ فيهم من وُصف بالتَّدليس، وهو يفهِم لفظَ (التَّدليس) على المعنى الدَّارج عند العامَّة، الَّذي هو بمعنى (التَّحيُّلِ في الكذبِ)، فاعتقدَه دليلًا يُطعَن به في عدالةِ حَمَلة السُّنَن، قائلًا:« .. وِمنهم مَن دَلَّس على الرَّسولِ، مع سبق الإصرار والتَّرصُّد» !
فأمَّا أوَّل حديثٍ استفَتَح به كتابَه، يُنبيك عن سقوط أمانته في النَّقد وأحقيَّته بمفهومه للتَّدليس القبيح:
ما رُوي عن أبي سعيد الخدري مَرفوعًا: « .. أخرجوا مَن كان فيه قلبه مِثقال حبَّةٍ من خردلٍ من إيمان .. » .
يقول ابن قرناس فيه: «إذا كان الحديث قال به الرَّسول، فمَن أخبَرَه بخَبرِ الجنَّة والنَّار، وهما مِن عالمِ القيامةِ الَّذي لم يُخلق بعد؟!
…
وكلُّ ما سيحدثُ في يومِ القيامةِ هو مِن عالَم الغيب، الَّذي تَفَرَّد الله -سبحانه- بعلمِه لوحده:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن: 26]»
(3)
.
كذا قال، واضعًا يَدَه على الآية بعدها -كاليهود- يستُرها ألَّا تفضحَ هواه، وتُسقط دعواه! وهي قوله تعالى بعدها:{إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 27].
(1)
أخرجه البخاري (ك: تفسير القرآن، باب {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}، برقم: 4546).
(2)
«الحديث والقرآن» (ص/433).
(3)
«الحديث والقرآن» (ص/29 - 30).
ويكفيكَ لتعلمَ مقدار عقلِ الرَّجل، ومَدى أهليَّته للنَّقد، أن تقرأ ما تعقَّب به قوَله صلى الله عليه وسلم:«لا أحدَ أغْيَرُ من الله، ولذلك حَرَّم الفواحش» ، حيث فَسرَّ تَعسُّفًا معنى الفاحشةِ بمُطلق الجِماع! أي: أنَّ الله تعالى يَغار مِن ممارسةِ عبدِه للجنسِ مُطلقًا!
نعم والله، هكذا فهِمَ الحديثَ! وزادَ أن استنكرَ على مَن يُصدِّق هذا الخبر بشدَّةٍ، وراحَ يُعدِّد للقارئ فوائد الشَّهوةِ الجنسيَّة تطمينًا لقلوبِهم! يقول:«هذا القول تجنٍّ فاحش على الذَّات الإلهيَّة، فالله هو مَن خَلق الخلق، وجَعَل فيهم غريزةَ الجنس لكي يَتَناسل البَشرَ ويبقون .. »
(1)
.
وهكذا تكون بدائع الفوائد وإلَّا فلا!
و (ابن قرناسٍ) وإن كان يحاول جهدَه بيانَ العِلل الَّتي لأجلِها استنكرَ حديثًا ما، غير أنَّه يُبهِم ذكرَ ذلك كثيرًا، فتراه يستنكر الحديث دون إبداء سببٍ ظاهرٍ، وهذا النَّفيُ الجازم منه إمَّا أن يكون لخبرٍ غَيبيٍّ بَلَغه، أو أن يكون لمانعٍ عقليٍّ يقطع بعدم إمكانِ ذلك؛ وكلُّ ذلك لا وجود له.
كما الشَّأنُ -مثلًا- مع حديث ابن عباس رضي الله عنه: «إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سَجَد بالنَّجم، وسَجَد معه المسلمون، والمشركون، والجنَّ، والإنس» ، فقال ابن قرناس:«بطبيعةِ الحال هذا لم يحدُث، ولا يُمكن أن يكون حَدَث» ، .. ثمَّ سَكَت!
(2)
وسيأتي رَدُّ بعضِ مُعارضاتِه لأحاديث «الصَّحيحين» مِمَّا نراه يستحقُّ شيئًا من النَّظر في مكانها المُناسب مِن الباب الثَّالث في هذا البحث -إن شاء الله-.
(1)
«الحديث والقرآن» (ص/417).
(2)
«الحديث والقرآن» (ص/69).