الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الخامس
دفع دعوى تحايُدِ البخاريِّ عن الرواية عن أهل البيت
ليس مسلم بن الحجَّاج عند الإماميَّة مِمَّن يُقرَن بالبخاريِّ في هذه الدَّعوى، فإنَّهم يجدونَه يروي في «صحيحِه المُسند» عن جعفر الصَّادق سبعةَ عشر حديثًا
(1)
، ولا يجدون عن جعفر ولا روايةً واحدةً عند البخاريِّ في «صحيحِه» .
واعتقادُ الإماميَّةِ لوجودِ عَداوةٍ بين البخاريِّ ورُواةِ أهل البيتِ: أمرٌ مُتخيَّل في أذهانِهم، ليس له في الخارج حقيقةٌ، وقد قدَّمنا قبلُ اعتزازَ البخاريِّ بأصولِ أهلِ البيتِ العُتَّقِ، وروايةِ مَناقبِهم في أكثرِ مِن بابٍ، ولذا رَوى من أحاديثِهم الكثيرَ في «جامِعه الصَّحيح» .
ولقد بلغَ مجموعُ مَن رَوى عنهم البخاريُّ وحدَه مِن أهل البيتِ أو مَواليهم في «صحيحِه» وباقي كُتبِه: اثنين وخمسينَ راويًا
(2)
، يَكفي أن نعلمَ أنَّ مَرويَّاتِ عليٍّ عليه السلام وحده في «صحيحِه» أكثرُ مِن مَرويَّاتِ باقي الخُلفاء الرَّاشدين مُجتمعةً! حيث أورد له البخاريُّ ثمانيةً وتسعين حديثًا بالمُكَرَّر، وأصلُها أربعةً وثلاثين حديثًا بلا مُكرَّر؛ كما أنَّ مسلمًا أخرجَ له في «صحيحِه» ثمانيةً وثلاثين حديثًا.
(1)
انظر «مرويات الإمام جعفر الصادق في الكتب التسعة» لياسر بطيخ (ص/59).
(2)
انظر في ذلك «مؤتمر أعلام الإسلام - البخاريُّ نموذجًا» (ص/57 - 72).
كما روى البخاريُّ للحُسين بن عليٍّ رضي الله عنه حديثين عن أبيه
(1)
، ومُسلمٍ روى من هذا أربعة أحاديث
(2)
.
ومِن عظيمِ إجلالِ أئمَّة الحديثِ لهؤلاءِ الرُّواةِ من أهل البيتِ بهذا الإسناد، أن جعلَ بعضُهم سندَ: الزُّهريِّ، عن علي بن الحُسين، عن الحُسين رضي الله عنه، عن عليٍّ عليه السلام: أصحَّ الأسانيد الذَّهبيَّة عند أهل السُّنة
(3)
.
فكيف يُقال بعد هذا أنَّ البخاريَّ مُعادٍ لرُواةِ أهل البيت؟!
واتِّهام الإماميَّةِ البخاريَّ بالطَّعنِ في جعفرٍ الصَّادقِ رضي الله عنه لتركِه حديثَه:
فمَحضُ افتراءٍ عليه، إذ كان البخاريُّ أتقى لله وأعقلَ مِن أن يتَّخِذ مِثلَ هذا الإمام الشَّريفِ خصمًا له بين يدي ربِّه تعالى، وتَتَبيَّن براءتُه مِن الطَّعنِ فيه مِن وَجهين:
الأوَّل: أنَّ مُجرَّد خلوِّ أسانيدِ البخاريِّ في «الصَّحيح» مِن أحدِ الرُّواةِ لا يعني طعنًا منه فيه البتَّة، فإنَّه لم يَشترِط أصلًا استيعابَ جميعِ الثِّقاتِ في كتابِه، وقد تَركَ البخاريُّ الرِّواية عن عددٍ مِمَّن يُحسَب مِن أكابِر الثِّقاتِ.
فإنَّك لن ترى في كتابِه روايةً مُسنَدةً عن سُهيل بن أبي صالح (ت 140 هـ)
(4)
، ولا عن حمَّاد بن سَلَمة (ت 167 هـ)
(5)
، ولا عن محمَّد بن رُمح (ت 242 هـ)
(6)
، ولا عن أبي داود الطَّيالِسي (ت 204 هـ)، بل ولا عن الشَّافعيِّ مع جَلالتِه!
وهذا أحمد بن حنبل وهو إمام الحديثِ وشيخُه، لم يذكره البخاري في كتابِه إلَّا مرَّتين، لم يُسند عنه فيهما إلَّا حديثًا واحدًا
(7)
.
(1)
في (ك: الجمعة، رقم: 1127)، وفي (ك: فرض الخُمس، رقم: 3091).
(2)
انظر «تحفة الأشراف» (7/ 361).
(3)
انظر «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص/53)، و «مقدمة ابن الصَّلاح» (ص/16).
(4)
«سؤالات السُّلمي للدراقطني» (ص/183).
(5)
«تهذيب التهذيب» (3/ 13).
(6)
«سير النُّبلاء» (11/ 499).
(7)
في (ك: المغازي، باب: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 4473)، وفي (ك: النكاح، باب ما يحل من النساء وما يحرم، رقم: 5105).
وفي تقرير هذا الوجه من الرَّد، يقول أبو عبد الله الحاكم:«إنَّ كتابَيهما -يعني الصَّحيحين- لا يشتمِلان على كلِّ ما يَصِحُّ من الحديثِ، وإنَّهما لم يحكُما أنَّ مَن لم يُخرِجاه في كتابَيهما مجروحٌ أو غير صِدقٍ»
(1)
.
وانظر بعدُ إلى عقلِ الخطيب البغداديِّ، وليُقتدى بإنصافِه -مع ما اشَتَهر عنه مِن القوَّةِ في الردِّ- لم يَستفزَّه ترك البخاريِّ روايةَ إمامِه الشَّافعيِّ في «صحيحه» ، فلم يَبنِ قِبابًا مِن الأوهامِ -كما تفعل الإماميَّة- فيَصيح مِن أعلاها مُشنِّعًا: ويْلَك يا بُخاري، قد أزريتَ بنفسك!
بل بيَّن الخطيب بكلِّ مَوضوعيَّة وهدوء، أنَّ البخاريَّ لم يختر ترك الرِّواية عن إمامِه الشَّافعيِّ وأضرابِه مِمَّن تَقدَّم ذكرُهم لمعنى يُوجِب ضعفَهم عنده؛ ولكن -كما قال الخطيب- قد يفعلُه البخاريُّ استغناءً بما هو أعلى منهم، فيَروِي عَمَّن هو أكبرُ منهم سِنًّا وأقدمُ سَماعًا؛ ثمَّ ضَرَبَ أمثلةً مِن أقرانٍ للشَّافعي وشيوخٍ له أدركَهم، روَى عنهم البخاريُّ دونَه
(2)
؛ والشَّافعي ماتَ مُكتَهِلًا، فلا يَرويه البخاريُّ نازِلًا؛ وإن كان قد رَوَى هو عن الحسين وأبي ثورٍ مسائلَ عن الشَّافعي
(3)
.
الثَّاني: أنَّ جعفرًا على فرضِ أنَّ البخاريَّ يَراه ناقصًا عن مَرْتَبة الضَّابط في الصَّحيح، فإنَّه لم يَشُذَّ بذلك عن اتِّفاق أهل هذا الفنِّ حتَّى يُشَنَّع عليه! فإنَّ مِن بعضِ النُّقاد مَن تكَلَّم في حديثِه أيضًا، كشيخِه أحمد بن حنبل، حيث قال:«جعفر بن محمَّد، ضعيفُ الحديث مُضطربٌ»
(4)
.
وحين سُئِل يحيى بن سعيد القطَّان عنه قال: «في نفسي منه شيءٌ، قيل: فمُجالِد؟ قال: مُجالِدٌ أحبُّ إليَّ منه»
(5)
.
(1)
«المدخل إلى الصحيح» للحاكم (ص/112).
(2)
«الاحتجاج بالشَّافعي» للخطيب (ص/38 - 39).
(3)
«طبقات الشَّافعية الكبرى» للسُّبكي (2/ 215).
(4)
«العلل ومعرفة الرجال» رواية المروذي (ص/201).
(5)
«تهذيب الكمال» (5/ 76).
نعم؛ يحيى بن سعيد مُتعَقَّبٌ في هذا الرَّأي، فقد قال الذَّهبي في «أعلام النبلاء» (6/ 256):«هذه مِن زَلقاتِ يحيى القطَّان، بل أجمعَ أئِمَّة هذا الشَّأن على أنَّ جعفرًا أوثقُ مِن مُجالدٍ، ولم يَلتفِتوا إلى قول يحيى» .
وإن كان أكثرُ النُّقادِ على تَوثيقِ جعفرٍ
(1)
.
فلعلَّ من أعدلِ الأقوالِ فيه ما حَرَّره الذَّهبي بقولِه: «جعفرٌ ثقةٌ صدوقٌ، ما هو في الثَّبَتِ كشُعبة، وهو أوثقُ مِن سهيل وابنِ إسحاق، وهو في وَزنِ ابنِ أبي ذئبٍ ونحوه، وغالبُ رواياتِه عن أبيه مَراسيل، وقد حدَّث عنه الأئمَّة، وهو مِن ثقاتِ النَّاس كما قال ابنُ مَعين»
(2)
.
أقول: بصَرفِ النَّظرِ عن أيِّ الأقوالِ أصدقُ حُكمًا على حديثِ جعفرِ بن محمَّد رضي الله عنه، فإنَّ البخاريَّ قد اجتهَدَ اجتهادًا صرفًا مِن حيث الصَّنعة النَّقديَّة لمَرويَّاتِ الرَّجل، فكان ماذا؟!
والبخاريُّ لا تَشوبُه في اجتهاده شائبةُ هوًى طائفيٍّ البتَّة، فإنَّه وإن ترَك الرِّوايةَ عنه في «صحيحِه الجامع» ، فلِمعنًى في حديثِه نفسِه لا غير، وهذا لا يستلزم بحالٍ تَنقُّصًا من قدْرِ جعفرٍ، ولا مِن دينِه وعلمِه؛ حاشَاه!
فإنَّ البخاريَّ لو كان طاعنًا في هذا الإمامِ الشَّريفِ تَعصُّبًا كما تبهتُه به الإماميَّة، لَما رَوى عنه في كتابِه الآخر «الأدب المُفرد» حديثين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم
(3)
!
بل لَما جَعَلَه حُجَّةً له في موضوعِ كتابِه «خلق أفعال العِباد» ، حيث استدَلَّ بقولِه رضي الله عنه أنَّ «القرآن كلام الله، وليس بمَخلوقٍ»
(4)
!
ثمَّ إنَّ البخاريَّ وإن لم يُخرِج هو عن جعفرٍ الصَّادق، فقد خَرَّج لعليٍّ زين العابدين (ت 93 هـ)
(5)
، وللباقر محمد بن عليِّ (ت 114 هـ)
(6)
، وأخرج لمحمد بن
(1)
انظر بعض أقوالهم في «تهذيب الكمال» (5/ 76) فما بعد.
(2)
«سير أعلام النبلاء» (6/ 257).
(3)
في (باب: إِذا ضَرب الرَّجل فَخِذَ أَخِيه ولَم يرد به سوءا، رقم: 959، 962).
(4)
«خلق أفعال العباد» (2/ 16، رقم: 17).
(5)
«الهداية والإرشاد» (2/ 527).
(6)
«تهذيب الكمال» (33/ 192).
عمرو بن الحسن بن علي (ت 91 - 100 هـ)
(1)
، في آخرين مِمَّن قدَّمنا ذكرهم من أئمَّةِ آل البيت رضي الله عنهم.
إنَّما آفةُ الإماميَّةِ وسرُّ شَغبِهم بجعفر على البخاريِّ، أنَّهم يَرون جعفرًا إمامًا مَعصومًا! بوصلةُ مَذهبهم في الفقه، لا يأتيه الباطلُ مِن بين يَدَيه ولا مِن خلفِه، أشبهَ ما يكون بالنَّبي! وهم يُريدون أن يُلزِموا سائرَ عُقلاء الأمَّة بهذا التَّخريفِ والجنون!
وغيرُ البخاريِّ من أئمَّةِ للحديثِ قد خَرَّجوا حديثَ جعفرٍ واحتَجُّوا به، كمسلمٍ وأصحابِ السُّنَنِ الأربعةِ؛ فهل نَفَعَهم هذا للسَّلامةِ مِن رَميِ الإماميَّةِ لهم بالنَّصبِ؟!
كلَّا؛ لنعلمَ أنَّ عيبَهم على البخاريِّ في هذه المسألةِ مُجرَّد هوىً أزَّته الخصومة لا غير.
(1)
«الهداية والإرشاد» (2/ 670).