الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
تَلقِّي الأُمَّة لأحاديث الصَّحيحين بالقَبول قرينةٌ تفيد العلم
الفرع الأوَّل: شُهرةِ تقرير ابن الصَّلاح لتلقِّي الأمَّة لأحاديث «الصَّحيحين» بالقَبول.
عُدَّ ابن الصَّلاح اشهر مَن أعلن القولَ بتلقِّي الأمَّة للصَّحيحين بالقبول وفصَّل القولَ فيه، ولم يكن ذلك منه بدعًا من الحكم، بل مسبوقًا في ذلك من جِهة التَّعريض والإيجاز من أصوليِّين ومُحدِّثين.
فبعد أن ذكَرَ أقسامَ الصَّحيح الَّذي خرَّجه الأئمَّة في تصانيفهم من حيث الرُّتبة قال: «هذه أمَّهات أقسامه، وأعلاها الأوَّل، وهو الَّذي يقول فيه أهل الحديث كثيرًا:(صحيح متَّفق عليه)، يُطلقون ذلك ويَعنون به اتِّفاق البخاريِّ ومسلم، لا اتِّفاق الأمَّة عليه، لكنَّ اتِّفاق الأمَّة عليه لازمٌ من ذلك وحاصلٌ معه، لاتِّفاق الأمَّة على تلقِّي ما اتَّفقا عليه بالقَبول، وهذا القسم جميعُه مقطوع بصحَّته، والعلم اليَقيني النَّظريُّ واقعٌ به ..
وما انفرد به البخاريُّ أو مسلم مندرجٌ في قَبيل ما يُقطع بصحَّته، لتلقِّي الأمَّة كلَّ واحدٍ من كتابيهما بالقَبول، على الوجه الَّذي فصَّلناه من حالهما فيما سبق، سِوى أحرف يسيرةٍ تكلَّم عليها بعض أهل النَّقد من الحُفَّاظ، كالدَّارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشَّأن»
(1)
.
(1)
«علوم الحديث» لابن الصلاح (ص/28 - 29).
ويقول في شرحه على «صحيح مسلم» :
(1)
.
فقد جعل ابن الصَّلاح من خلال هذين النَّصَين:
1 -
ما اتَّفق عليه الشَّيخان أعلى مراتب الصَّحيح.
2 -
واتِّفاق الأمَّة تابعٌ لاتِّفاقهما لتلقِّيها ما أخرجاه بالقَبول.
3 -
وأنَّ التَّلقِّي في صورتِه تلكَ لا يفيدُ الظَّن الرَّاجح فحسب، بل هو مُفيدٌ للعلم النَّظريِّ
(2)
، سواءً ما اتَّفقا عليه، أو ما انفرد كلُّ واحدٍ منهما به.
4 -
ومستنده في هذا الحكم إلى عصمةِ الأُمَّة من الاجتماع على خطأ.
5 -
ومِن ثمَّ استثنى من حكمه بالقطعِ أحاديثَ يسيرةً منهما تكلَّم فيها بعض أئمَّة الحديثِ، لخروجِها عن نِطاق الاتِّفاق السَّابق تقريره.
ومُراد ابن الصَّلاح بهذا التَّلقي ما كان محلُّه الأحاديث الَّتي سيقت لأصل موضوع الكتابين، أعني الأحاديث المَرفوعة المُسندة، فتخرج المُعلَّقات والمَوقوفات، ومتونُ الأبوابِ، دون التَّراجِم ونحوِها؛ لأنَّ في بعضِ الأخبار المَسوقة فيها ما ليس مِن ذلك قطعًا
(3)
.
(1)
نقله عنه النووي في مقدمة شرحه على «صحيح مسلم» (1/ 20).
(2)
العلم بمعناه الخاصِّ: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، ومعنى كونِه (نظريًّا): أنَّه يحصل للإنسان بعد النَّظر والاستدلال لمن له أهلية النظر، وبالتالي فرَّقه ابن الصلاح عن المتواتر الذي يفيد (العلمَ الضَّروري) الذي يضطر الإنسان إليه دون نظر أو استدلال، انظر «التعريفات» للجُرجاني (ص/155)، و «نزهة النظر» لابن حجر (ص/44 - 45).
(3)
كأن يُخرج البخاريُّ -مثلًا- حديثًا لا يُبوِّب على جزءٍ مِن أجزائه، فهذا لا يكون مُفيدًا للعلمِ في هذا الجزءِ مِن الحديث، لأنَّ عدمَ تبويبه له أورث فيه شبهة، والقطعُ كان على جهة القرائن، وهذا قرينة على خلافه، انظر «مقدمة ابن الصلاح» (ص/26)، وانظر مثال هذه القرينة المانعة في «فيض الباري» للكشميري (1/ 42).
الفرع الثَّاني: موافقة عامَّة العلماء لابن الصَّلاح على تلقِّي الأمَّة لأحاديث «الصَّحيحين» بالقَبول.
وافق ابن الصَّلاح على حكمه العامِّ لأحاديثِ الصَّحِيحين كثيرٌ مِن أئمَّة الفقه والحديثِ قبله، أقدمُ ما وَقفتُ عليه مِن كلامِهم مِمَّا يُخبرون فيه بتَلقِّي «الصَّحيحين» بالقَبول، يَبدأ عامَّتُه مِن القرن الخامسِ، أي بعد قُرابةِ قرنينِ مِن انتشارِ كِتابَيْ الشَّيخين، منهم:
أبو بكر الجَوْزَقي (ت 388 هـ)، صاحب «المُستخرج على مسلم»
(1)
.
ثمَّ أبو إسحاق الإسْفَرايِيني (ت 418 هـ)، وقد اشتُهِر عنه قولُه في رِسالتِه في «أصول الفقه»: «أهلُ الصَّنعة مجُمِعون على أنَّ الأخبارَ الَّتي اشتملَ عليها الصَّحيحان مَقطوعٌ بصحَّة أصولِها ومتونِها
(2)
، ولا يحصُل الخلافُ فيها بحالٍ، وإنْ حَصَل، فذاك اختلافٌ في طُرقِها ورُواتها، قال: فمَن خالفَ حكمُه خَبرًا منها، وليس له تأويلٌ سائغٌ للخَبرِ، نَقَضنا حُكمَه؛ لأنَّ هذه الأخبار تَلقَّتها الأمَّةُ بالقَبول»
(3)
.
ثمَّ أبو نصر السِّجزيُّ (ت 444 هـ)، الَّذي قال:«أجمَعَ أهلُ العلم الفقهاءُ وغيرُهم، على أنَّ رجلًا لو حلَف بالطَّلاقِ، أنَّ جميعَ ما في كتابِ البخاريِّ مِمَّا رُوي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قد صَحَّ عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لا شكَّ فيه، أنَّه لا يحنَث .. »
(4)
.
ثمَّ أبو المعالي الجُويني (ت 478 هـ) في قولِه: «لو حَلَف إنسانٌ بطلاقِ امرأتِه، أنَّ ما في كِتابي البخاريِّ ومسلمٍ مِمَّا حَكَما بصحَّتِه مِن قولِ النِّبي صلى الله عليه وسلم، لمَا ألزَمتُه الطَّلاقَ، ولا حنَّثتُه، لإجماعِ علماءِ المسلمينِ على صِحَّتِهما»
(5)
.
(1)
نقل ذلك عنه ابن حجر في «النكت على ابن الصلاح» (1/ 380)، ولم أقِف على عبارَتِه.
(2)
إطلاق الإسفراييني لهذا الحكم على كل حديث أخرجه الشَّيخان غير صحيح، وقد خالف بعض أهل الحديث في صحَّة بعض متونها كما سيأتي بيانه.
(3)
«النُّكت على ابن الصَّلاح» لابن حجر (1/ 377)، و «فتح المغيث» للسَّخاوي (1/ 72).
(4)
«مقدمة ابن الصلاح» (ص/26).
(5)
«صيانة صحيح مسلم» لابن الصَّلاح (ص/86).
ومحمَّد بن أبي نصر الحُميدي (ت 488 هـ) بعد نقلِه لاتِّفاق النُّقاد على صِحَّة ما فيهما قال: « .. فتبادرت النِّيات المُوفَّقة على تباعُدها، مِن الطَّوائف المُحقِّقة على اختلافها، إلى الاستفادةِ منهما، والتَّسليمِ لهما في علمِهما، وتمييزِهما، وقبولِ ما شهِدا بتصحيحِه فيهما»
(1)
.
ثمَّ نقلُ ابنِ طاهرٍ المَقدسيِّ (ت 507 هـ) في كتابِه «صفوة التَّصوُّف» إجماعَ المُسلمين على صحَّة ما أُخرِج فيهما
(2)
.
وغير هؤلاءِ مِن أئمَّة الأصول والحديث ممَّن جاء بعدهم كثير
(3)
، حتَّى عدَّ ابنُ تيميَّةَ قولَهم هذا «مذهبَ أهلِ الحديث قاطبةً، وهو معنى ما ذكرَه ابن الصَّلاح في مدخلِه في «علوم الحديث» ، فذَكَر ذلك استنباطًا، ووَافقَ فيه هؤلاء الأئمَّة»
(4)
.
ثمَّ وَافقَ ابن الصَّلاح من بعدِه جلَّةُ أهلِ الحديثِ وصَّححوا قوَله، منهم ابنُ حَجرٍ (ت 852 هـ) وهو مِن أخبرِهم بـ «الصَّحِيحين» ، حيث قال:«والخبر المُحتفُّ بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشَّيخان في صحيحيهما ممَّا لم يبلغ حدَّ التَّواتر، فإنَّه احتفَّ به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشَّأن، وتقدُّمهِها في تمييز الصَّحيح على غيرهما، وتلقِّي العلماء لكتابيهما بالقَبول، وهذا التَّلقي وحدَه أقوى في إفادة العلم من مجرَّد كثرة الطُّرق القاصرة عن التَّواتر»
(5)
.
وقال الشَّوكاني (ت 1250 هـ): «اِعلم أنَّ ما كان مِن أحاديثِ هذا الكتابِ في أحد الصَّحيحين، فقد أسفرَ فيه صُبح الصِّحة لكلِّ ذي عينين، لأنَّه قد قطع
(1)
«الجمع بين الصَّحيحين» (1/ 74).
(2)
انظر «محاسن الاصطلاح» للبلقيني (ص/172، بهامش ابن الصلاح»، لكنه أغربَ بعدها حين أضاف إلى مسألة التَّلقِّي والإجماع، ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.
(3)
انظر «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (ص/33)، و «محاسن الاصطلاح» (ص/172)، و «فتح المغيث» (1/ 73)، و «تدريب الراوي» (1/ 145).
(4)
«النكت على مقدمة ابن الصلاح» لابن حجر (1/ 376).
(5)
«نزهة النظر» لابن حجر العسقلاني (ص/52).
عرق النِّزاع ما صحَّ من الإجماع على تلقِّي جميعِ الطَّوائف الإسلاميَّة لما فيهما بالقَبول، وهذه رُتبة فوقَ رتبةِ التَّصحيح عند جميع أهل العقولِ والمنقولِ، على أنَّهما قد جمعا في كتابيهما مِن أعلا أنواع الصَّحيح ما اقتدى به وبرجاله من تصدَّى بعدهما للتَّصحيح»
(1)
.
الفرع الثَّالث: استثناء ما وقع بينه التَّعارض في أحاديث الصَّحيحين بلا مُرجِّح من إفادة العلم.
فحيث قرَّرنا كونَ الصَّحيحِ من مذاهبِ العلماءِ فيما صحَّ مِن الآحاد أنَّها مفيدةٌ للعلمِ حيث تنضمُّ إليها القرائن، لا بدَّ من التَّنبيه على سلامة هذه الآحاد مِن موانع القطعيَّة، وإلَّا بقيَت في حيِّز الظَّن، بل قد تهوي بها تلك الموانع إلى القطعِ بكذبِها إذا قويت آفات التخطئةِ
(2)
.
كما قاله أبو العبَّاس المِبرد (ت 258 هـ)
(3)
(4)
.
فاعتبارًا لهذه الشَّروطِ السَّلبية مؤثِّرةً في الحكم على آحاد ما في «الصَّحيحين» ، نحى ابن حجرٍ إلى استثناءِ ما «يقع التَّجاذب بين مدلُوليه ممَّا وقع في الكِتابين، حيث لا ترجيحَ، لاستحالةِ أن يُفيد المتناقضان العلمَ بصدقهِما مَن
(1)
«تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص/7).
(2)
اختلف الأصوليُّون في اعتبار بعض الموانع دون أخرى في رد الحديث أو ترك العمل به على أقلِ تقدير -بغضِّ النَّظر عن صحَّة اعتبار بعضها في المنعِ من عدمه-، ككونِ الخبر مخالفًا للقياس أو القواعد العامَّة مع عدم فقه راويه عند الحنفية، أو يكون الحديث مخالفًا لعمل أهل المدينة عند المالكية، أو يكون مخالفًا لعمل راويه .. ، إلى غير ذلك من القرائن الَّتي قد تتأثَّر بها الأخبار سلبًا.
انظر تفصيل هذه القرائن المانعة للقطعية في «إشكالية القطع عند الأصوليين» لـ د. أيمن صالح، من «مجلة المسلم المعاصر» (ص/19)، العدد 117، 2005 م.
(3)
محمد بن يزيد المِبْرَد: إمام العربية ببغداد في زمنه، وأحد أئمة الأدب والأخبار، مولده بالبصرة ووفاته ببغداد، من كتبه «الكامل في اللغو والأدب» ، انظر «الأعلام» للزركلي (7/ 144).
(4)
«الأضداد» للأنباري (ص/16).
غير ترجيحٍ لأحدِهما على الآخر، وما عَدا ذلك فالإجماعُ حاصلٌ على تسليمِ صحَّتِه»
(1)
.
وأصل استثناءِ العسقلانيِّ للمُتعارضين من أصل إفادة العلم مَبنيٌّ على كونِ التَّعارض لا يقع بين القطعيَّين، إذ القطعُ باعتبارِ ذاتِه لا يَتفاوت، ونفي الاحتمال على الإطلاقِ شيءٌ واحد لا يَتَعدَّد
(2)
، إنَّما يقع التَّعارض والتَّفاوتُ في الظَّنِيَّات
(3)
.
وابن حجر مَسبوق في هذا الاحتراز من الآمديِّ (ت 631 هـ)، حيث قال:
«لو كان حديث الثِّقة مُفيدًا للعلم بمجرَّده، فلو أخبرَ ثقةٌ آخرَ بضدِّ خبرِه، فإن قلنا: خبرُ كلِّ واحدٍ يكون مُفيدًا للعلم، لزم اجتماعُ العلم بالشَّيء وبنقيضه، وهو مُحال، وإن قلنا: خبرُ أحدِهما يُفيد العلم دون الآخر، فإمَّا أن يكون مُعيَّنا، أو غير مُعيَّن.
فإن كان الأوَّل: فليس أحدُهما أولى مِن الآخر، ضرورةَ تَساويهما في العدالةِ والخبرِ.
وإن لم يَكن مُعيَّنا: فلم يحصُل العلم بخبرٍ واحدٍ منهما على التَّعيين، بل كلُّ واحدٍ منهما إذا جَرَّدنا النَّظرَ إليه، كان خبرُه غير مُفيدٍ للعلم، لجوازِ أن يكون المُفيد للعلمِ هو خبرُ الآخر»
(4)
.
وحيث أنَّ التَّعارضَ مِن جملة الموانِع من الحكم بقطعيَّة الحديثين، احتاجَ النَّاظر إلى ترجيحِ أحدِهما على الآخر بإحدى المرجِّحاتِ المتعلِّقة بالمتن أو السَّند، هذا إن عجزَ نظرُه عن الجمعِ بينهما
(5)
؛ فإمَّا أن يقضيَ بعدهَا بإبطالِ
(1)
«نزهة النظر» لابن حجر (ص/51 - 52).
(2)
نقل غير واحدٍ من أهل العلمِ اتِّفاقَ العقلاءِ على ذلك، انظر «درء التعارض» لابن تيمية (1/ 79)، و «شرح العضد على مختصر ابن الحاجب» (2/ 298).
(3)
انظر «المنخول» للغزالي (ص/534)، و «البحر المحيط» للزركشي (8/ 147).
(4)
«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/ 33).
(5)
انظر «البحر المحيط» للزركشي (8/ 125).
الحديثِ المرجوحِ، لقوَّة الموانِع من القولِ بصحَّتِه، فيحكم للرَّاجح بالقطعيَّة إذا ساعدته القرائن على ذلك؛ أو يعترفَ بأنَّ المرجوحَ لا يزال دليلًا قابلًا لِأن يكون صحيحًا، غايته أنَّه وُجد لمُقابله ما يقتضي الظَّن بأرجحيَّته، فيبقيان في حيِّز الظَّنيَّاتِ
(1)
.
أمَّا إنْ عجزَ عن القدحِ في أيٍّ منهما بعينه، فأوْلى أن يَبْقيَا على حالهما من الظَّنيَّة.
وحيث أنَّ التَّرجيح فرعٌ عن الإقرارِ بالتَّعارض، فإنَّ الحديثين القطعيَّين لا يُتأتَّى التَّرجيح بينهما إلَّا مِن جهة النَّسخ، خاصَّةً فيما كان مِن القطعيَّاتِ قريبًا سبَبُه، واضحًا مأخذُه، لا يحتاج إلى دقيقِ نَظرٍ واستقراءٍ؛ فهذا النَّوع لا يبقى معه مَسلكٌ للتَّرجيح مِن الأساسِ، ولا يَسوغ فيه التَّعارض، إلَّا كما يسوغ التَّعارض الظَّاهريُّ بين الآياتِ الكريمةِ أو الأخبار المتواترةِ، كونها ضروريَّةً يهجم تصديقُها على النَّفس
(2)
.
أمَّا ما كان منها مبنيًّا على نظرِ المُستدلِّ في القرائنِ واستقراءِ الشَّواهد - كما هو الحاصل في «الصَّحيحين» - فيقعُ أن ينظر المستدلُّ في حَديثين قد احتفَّ بِهما من الشَّواهدِ ما يوحي بقوَّة الخَبرين بادئَ الأمر، حتَّى يلوحَ له التَّعارض بين مَفهوميهِما، ويعجزَ عن التَّوفيق بينهما، فيكون واقع الأمرِ أنَّ أحدهما ليسَ قطعيًّا، أو لا تعارضَ بين مدلوليهما إلَّا في ذهنِ النَّاظر
(3)
، بحيث يمكن الجمعُ بين الحدِيثَين جمعًا مَقبولًا للنَّفس، فلا داعي للتَّرجيح حينئذٍ؛ بعكس ما لو كان الجمعُ مُتكَلَّفًا بعيدَ المأخذِ
(4)
، فالأشبهُ عندئذٍ تقديمُ رُتبةِ التَّرجيح على الجمع
(5)
.
(1)
انظر تأصيلًا قريبًا من هذا في حاشية د. الدراز على «الموافقات» للشاطبي (5/ 349 - 350).
(2)
انظر «القطعية في الأدلة الأربعة» (ص/252 - 253).
(3)
انظر «درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية (1/ 79)، والمعنى نفسه تجده في «البحر المحيط» للزركشي (8/ 167).
(4)
انظر تقرير هذا المعنى في «البحر المحيط» (8/ 152).
(5)
كالحاصل من جماعة من المحدِّثين حين ذهبوا إلى تصحيحِ الرِّواياتِ الَّتي فيها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى ستَّ وثمانِ ركعات في ركعتي الكسوف، فضلًا عن المعروف من صلاته لركوعين في ركعة، لورود ذلك عندهم في صحيح مسلم، حيث حملوا هذا الاختلاف في العدد على أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فعلَها مرَّاتٍ! مع أنَّ الثَّابتُ مِن فعلهِ صلى الله عليه وسلم صلاتُه الكسوفَ مرَّةً واحدةً في عمره يوم مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه، ولذلك ضعَّف البخاريُّ والشَّافعي وأحمدُ غير رواية الرُّكوعين في ركعة، لمخالفتِها لروايةِ الجماعةِ من الثِّقاتِ، انظر «الجواب الصحيح» لابن تيمية (2/ 446 - 447).
ولا أعلم في «الصَّحيحين» حديثًا توافقَ العلماءُ على ردِّه بتمامِه، لمعارضةِ حديث آخرَ له، مع استحالَةِ التَّوفيق بينهما، بأيٍّ وجهٍ من وجوه الجمعِ المُعتبرة: فلست أعلمُ له مثالًا صحيحًا، وأكثرُ ما يَستدعي التَّرجيح مِن أهل العلمِ في هذين الكِتابين، ما كان الاختلافُ فيهما بين بعضِ ألفاظِ الثِّقاتِ في خبرٍ صحيحٍ في أصلِه، وهذا واقعٌ في مسلمٍ أكثرَ منه عند البخاريِّ
(1)
.
الفرع الرابع: ما استدركه ابن حجر على ابن الصَّلاح مِن استثناءِ ما وقع التَّعارض فيه عن إفادة العلمِ، من لوازم عبارة ابن الصَّلاح.
هذا؛ وقد ظهر لي في أمرِ ما استدركه ابن حجرٍ على ابن الصَّلاح مِن استثناءِ ما وقع التَّعارض فيه عن إفادة العلمِ؛ أنَّه داخلٌ باللُّزوم في مفهومِ عبارة ابن الصَّلاح من حيث الأصلِ المنهجي؛ وبيان ذلك:
(1)
من أمثلة ذلك: ما أخرجه مسلم في (ك: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة، رقم: 1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في السَّبعة الَّذين يظلُّهم الله يوم القيامة، وفيه:«حتَّى لا تعلم يمينه ما تُنفق شماله» ، وهي قلبٌ لرواية الثقاتِ:«حتَّى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه» .
وقد تكلف بعض المتأخرين الجمع بين هذه الرواية المقلوبة ورواية الجماعة من الثقات، يقول ابن حجر في «الفتح» (2/ 146):«وليس بجيِّد، لأنَّ المخرج متَّحد» .
وكرواية سعيد بن منصور عند مسلم أيضًا (ك: الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم:220): «ولا يرقُون» بدَل: «ولا يكتوون» ، وقد أنكر بعض الحُفَّاظ هذه الرِّواية وغلَّطوا راويها، واعتلَّوا بأنَّها تعارض ما جاءت به الأحاديث الأخرى في «صحيح مسلم» نفسِه وغيره: من أنَّ الرَّاقي قد أُذن له في ذلك، وأنه يُحسن إلى الَّذي يرقيه، فكيف يكون هو مطلوبَ التَّرك؟! أمَّا المسترقي فإنَّه يسأل غيرَه ويرجو نفعَه، وتمامُ التَّوكل المرادُ وصف السَّبعين ألفًا به ينافي ذلك.
انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/ 182)، والمستدرك عليه (1/ 27).
في أنَّ الواحدَ مِن العلماءِ إذا تعارض عنده حديثان، قد تَعذَّر الجمعُ بينهما بوجهٍ مستساغٍ مقبولٍ، فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يرجِّح قبولَ أحد الحديثين على الآخر، فيكونَ ردُّه للمرجوحِ تعليلًا له في واقعِ الأمر
(1)
.
الحالة الثَّانية: أن يعجزَ عن التَّرجيحِ والقدحِ في واحدٍ منهما بعينِه، فلا يحصُل العلم بخبرٍ واحدٍ منهما على التَّعيين.
ومن ثمَّ فإنَّ المرجوح والمتوقَّف فيه -في كِلتا الحالتين السَّابقتين- يخرجان عمَّا تلقَّته الأمَّة بالقَبول أو اتَّفقوا على صحَّته، كونهما خارجين عن حيِّزِ الثُّبوت ومعنى الصِّحة مِن الأساس؛ إذ الفرضُ فيمن خلُص إلي هذا الموقف في هاتين الحالتين أن يكون جُملة مَن يُعتبر قولهم في الإجماع.
كلُّ ما في عبارةِ ابن الصَّلاح، أنَّه لم يُشر فيها إلى ما يُفهَم منه استيعابها لمضمونِ استدراكِ ابن حجرٍ، بل قصر الاستثناءَ ممَّا لا يفيد العلمَ على ما تنازع الحفَّاظ في حكمهم على أفرادِ الأحاديث، فأيَّما حديثٍ بعينِه لم نجد فيه كلامًا لأحدِ المُحدِّثين فالأصل أنَّه يفيد العلمَ بصحَّته عند ابن الصَّلاح، في حين أنَّ ابن حجر لاحظ في نفسِ ما لم يتكلَّم فيه الحُفَّاظ بعضَ ما يصدق عليه التَّعارض الَّذي ينفي عنها القطعيَّة، وقد أحسن في استثناءه ممَّا وقع الاتِّفاق على صحَّتِه فيفيد العلم، والله أعلم.
(1)
انظر «نزهة النظر» (ص/69).