الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب السَّادس
الجواب عن مُطالبة المُعترضِ بالنُّسخة الأصليَّة لـ «صحيح البخاريِّ» شرطًا لتصحيح نسبتهِ إلى مُصنِّفه
وأمَّا مُطالبةِ المُعترضِ لنُسخةٍ من الكتابِ بخطِّ البخاريِّ لتصِحَّ نِسبتُه إليه، فالجواب عنه مِن وجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ الكتابَ مَعلومٌ بالضَّرورةِ أنَّه تأليفٌ للبخاريِّ، فإنَّ النَّاس تعلمُ بالضَّرورة أنَّ البخاريَّ صَنَّف كتابًا في صِحَاحِ الحديثِ، وأنَّه هذا المَقروءُ المَسموعُ المُتداوَل بينَ النَّاس؛ ولا فرقَ في ذلك بين كِتابي البخاريِّ ومسلمٍ وبين غيرِها مِن سائرِ مُصَنَّفاتِ علماءِ الإسلام، بل كتبُ الحديثِ بالخصوصِ مُختصَّةٌ عنها بصَرفِ العنايةِ مِن العلماءِ إلى سَماعِها وضَبطِها وتَصحِيحِها، وكِتابةُ خُطوطِهم عليها شاهِدٌ لمِن قَرأها بالسَّماع، ناطقةٌ لمِن سَمِعَها بالإذْنِ في رِوايتِها.
وكنَّا قدَّمنا أنَّ البخاريَّ كان يُحدِّث بكتابه، وتَلقَّاه عنه طُلَاّبه سماعًا ومُقابلةً لنُسَخِهم بنُسختِه، فلو افترضنا جدلًا ضياعَ نُسخة البخاريِّ الَّتي بيده، فهذه النُّسَخ تقوم مَقامَها لا شكَّ، فكيف وهي مئات النُّسَخ، وكلُّ نُسخة لها سندها إلى البخاريِّ، وكُلُّها مُتطابقةٌ في الجملة؟!
وهذه الصِّناعة التَّوثيقيَّة البديعة هي ما أيَّس أهلَ الكذبِ والتَّحريفِ مِن الكَذبِ في هذه المُصنَّفات المَسموعَةِ؛ فكما أنَّه لا يُمكِنُ أحدًا أن يُدْخِلَ في «المُدوَّنة» وكُتبِ السَّماعاتِ عن مالكٍ مسألةً في جوازِ المَسحِ على الجَورَبينِ
الخفيفين -مثلًا- ويقول: إنَّه مَذهب مالكٍ! ويَخفى ذلك على حُفَّاظِ مَذهبِه؛ فكذلك لا يُمْكِنُ أحدًا أن يزيدَ في «صحيح البخاريِّ» حديثًا مُختلقًا ويَخفى على أهلِ الحديثِ بعده!
الوجه الثَّاني: أنَّ النُّسَخ المختلفةَ لـ «صحيحِ البخاريِّ» كالرُّواةِ المُختلِفين، واتِّفاقُها يَدلُّ على صِحَّةِ ما فيها عن البخاريِّ قطعًا كما قدَّمنا.
فإنَّك إذا وَجَدتَ الحديثَ في نُسخةٍ منه نُسِخَتْ باليَمنِ، ووَجدتَه في نُسخةٍ نُسِخَت بالمغرب، وفي الشَّامِ وغيرِها مِن أقطارِ الإسلام؛ ثمَّ وَجَدْتَه أيضًا في شروحِ «الصَّحيح» الَّتي صُنِّفت قريبًا منه، كشرحِ أبي سليمان الخَطَّابي (ت 388 هـ)، فإنَّ هذا أدركَ الَّذين رَووا الكتابَ عن شيوخِهم عن البخاريِّ روايةَ نَسخٍ ومُطابقةٍ، وشرحُه أثبت فيه كِتابَ البخاريِّ بشكلِه المُتداوَل، فيكون نفسُ شرحِه نُسخةً مِن الكتاب، بل كلُّ شروح البخاريِّ المُتقدِّمة تُعتبر نُسَخًا صحيحة منه.
ثمَّ وَجدتَه أيضًا في المُستخرَجاتِ على «البخاريِّ» الجامعةِ لمِا فيه، كـ «المُستخرجِ» للإسماعِيليِّ (ت 371 هـ) عليه، وهي الَّتي تأتي إلى الأحاديثِ الَّتي رَوَاها البخاريُّ، وتَرويها بأسانيدَ تلتقي فيها مع البخاريِّ في شيخِه أو شيخِ شيخِه.
فلا شكَّ أن النَّاظرَ في هذا كلِّه لن يُعدَم العلمَ الضَّروريَّ باستحالةِ تَواطؤِ رُواة هذا الكتاب على مَحضِ الكذبِ والمُباهَتةِ، لأنَّه يَستحيلُ اجتماعُهم واتِّفاقُهم على ذلك، لِتباعُدِ أزمانِهم وبُلدانهم، واختلافِ أغراضِهم ومَذاهبِهم.
الوجه الثَّالث: أنَّ الأمَّة قد أجمَعَت على جوازِ إسنادِ ما في «الجامعِ الصَّحيحِ» إلى محمَّد بنِ إسماعيل البخاريِّ؛ وذلك أنَّ العلماءَ ما زالوا يَقولُون في كُتبِهم: هذا الحديثُ رواه البخاريُّ، أو رواه مسلم، أو اتَّفَقا عليه، مِن غير نكيرٍ في هذا على الرَّاوي، مع كثرةِ وقوعِ هذا منذ صُنِّفَت هذه الكتبُ، إلى هذا التَّاريخ، وذلك قريبٌ مِن ألفٍ ومائتي سنةٍ، والإجماعُ حُجَّة قاطِعةٌ للتَّشغيبِ الَّذي اشتهرَ به المُعترض، ومُزيلةٌ للتَّشويشِ الَّذي أورَدَه
(1)
.
(1)
انظر هذا الوجه في «العواصم والقواصم» لابن الوزير (1/ 304 - 305).
الوجه الرَّابع: أنَّ المُعترضِ إن غَبِيَ عن تفهُّمِ ما قدَّمناه مِن بيِّناتٍ، فلعلَّ الأنسبَ لمثلِه أن يُفهَّم بضربِ مثالٍ واقعيٍّ، يُعلِمه كيف أزرى بنفسِه حينَ اشترطَ توقيعَ المُؤلِّف على الكتاب بخطِّ بيده، وذلك بأن يتخيَّل نفسَه:
قد دَخَلَ مكتبةً عالميَّةً مَرموقةً، أو دارًا للنَّشرِ مَطروقةً، على رفوفِها أوقارُ أسفارٍ في شَتَّى أودِيةِ العلوم، فلَاحَ له منها كتابُ «الجمهوريَّة» لأفْلاطون (ت 347 ق. م)، وكتابُ «الأمير» لمِيكْيَاّيلي (ت 1527 م)، فلم يلبَث حتَّى تَوَجَّه بهما إلى قَيِّم الخزانةِ قائلًا: إنِّي لا أعترِفُ بصحَّةِ هذين الكِتابين، حتَّى تُخرِجوا لي نُسخةً أصليَّةً لكلِّ واحدٍ منهما كَتبها المؤلفُّ بخطِّ يَده! بل لا أعترفُ بأيِّ كتابٍ حَوَته خِزانتُكم إلَّا بهذا الشَّرط، حتَّى اطمئنَّ إلى العَزوِ إليه!
فحدِّثني -بالله عليك-: عن أيِّ لونٍ أو صورةٍ تخيَّلتَ بها وَجهَ قيِّم الخزانةِ وهو يُلطَم بهذا الكلام؟! وقد تجاوزَ هذا المُتحذلِقُ جميعَ الأعرافِ الإنسانيَّة، والمَسالكِ العلميَّة، الَّتي تضمَنُ سَلامةَ الكُتبِ، وعدمَ انتِحالهِا في عصرِنا الرَّاهن!
الوجه الخامس: أنَّا لو افترضَنا جَدلًا ظَنِّيَةَ نسبةِ ما في «صحيح البخاريِّ» إليه، فإنَّه مع ذلك يستحيلُ وَصمُ ما فيه مَعزُوًّا إلى النبَّي صلى الله عليه وسلم بالكذبِ، لأنَّ البخاريَّ لم يَتَفرَّد أصلًا بروايةِ حديثٍ نَبويٍّ دون سائرِ الأئمَّةِ، بل هي نفسُها مُفرَّقةٌ عند غيرِه في كُتبِ السُّنَن والمَعاجم والمَسانيد والأجزاءِ ونحوِها؛ فأكثرُ أحاديثِ البخاريِّ لها العشراتُ مِن الطُّرقِ في كُتبِ الحديثِ المُختلِفة، ولله الحمد.
فأيُّ طائل وراء هذا التَّشغيب والتَّشكيك في نُسخ البخاريِّ؟!