الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الثَّاني عشر
عدم قَبول المحدِّثين لأخبارِ الثِّقات بإطلاق
يُزري بنفسِه مَن يَدَّعي على المُحدِّثين قَبولَهم لحديثِ الرَّاوي لمجرَّدِ أنَّه ثِقة، أو لأنَّ إسناده صَحيحٌ في ظاهرِه؛ فإنَّ الخطأ والوَهم في الرِّوايةِ سَجيَّةٌ في البَشريَّة، وهما أمْرانِ جائزانِ في أحاديثِ الثِّقاتِ بإجماعِ العقلاء، وإن كان الأصلُ في خبرِ الثِّقة مُطابقة الواقع، والخَطأ طارئٌ مُحتمل،
وفي تقرير هذه البديهةِ على الحُفَّاظ يقول مسلم بن الحجَّاج: «ليسَ مِن ناقلِ خَبرٍ، وحاملِ أثرٍ مِن السَّلف الماضين إلى زماننا، وإن كان مِن أحفظ النَّاس، وأشدِّهم توقِّيًا، وإتقانًا لما يحفظ وينقُل، إلَّا الغَلط والسَّهو ممكنٌ في حفظِه ونقلِه»
(1)
.
واعتبارًا لهذا الاحتمالِ في رواية الثِّقات، اشترطَ المحدِّثون في حَدِّ «الصَّحيحِ» أن لا يَكون الخبرُ شاذًّا ولا مُعَلَّلًا بعلَّةٍ خَفيَّةٍ، ومَنشأ هذين الخَطأ قطعًا، وبهما وَهَّم أئمَّة الحديثِ أكابرَ الرُّواة في غلَطاتٍ عُدَّت عليهم، مِن غيرِ اتِّكالٍ على سلامةِ الظَّاهر من الإسنادِ، بل يعتقدون أنَّ «الإسنادَ قد يكون كلُّه ثقاتٍ، ويكون الحديثُ مَوضوعًا أو مَقلوبًا، أو قد جَرَى فيه تَدليسٌ، وهذا أصعبُ الأحوال، ولا يَعرفُ ذلك إلَّا النُّقاد»
(2)
.
(1)
«التمييز» (ص/170)، وانظر أيضًا «العلل الصغير» للترمذي (ص/746 - بآخر الجزء الخامس من طبعة أحمد شاكر لجامع الترمذي).
(2)
«الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 100).
يقول ابن تيميَّة عن صرامة موقف المُحدثِّين من أخبار الثِّقات:
«إنَّهم يُضعِّفون من حديثِ الثِّقة الصَّدوق الضَّابط أشياءَ تبيَّن لهم أنَّه غلط فيها بأمورٍ يستدلُّون بها، ويسمُّون هذا علم عِلل الحديث، وهو من أشرف علومِهم، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطُه فيه عُرِف .. كما عَرفوا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونة وهو حلال، وأنه صلَّى في البيت ركعتين؛ وجعلوا رواية ابن عبَّاس لتزوجها حرامًا، ولكونه لم يصلِّ: ممَّا وقع فيه الغَلَط، وكذلك أنَّه اعتمر أربع عُمَر؛ وعَلِموا أنَّ قول ابن عمر إنَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب: ممَّا وقع فيه الغلط؛ وعَلِموا أنَّه تمتَّع وهو آمن في حجَّة الوداع، وأنَّ قول عثمان لعليٍّ: «كنَّا يومئذٍ خائفين» ممَّا وقع فيه الغَلط؛ وأنَّ ما وقع في بعضِ طُرق البخاريِّ «أنَّ النَّار لا تمتلئُ حتَّى يُنشئ الله لها خلقًا آخر» ممَّا وقع فيه الغَلَط، وهذا كثيرٌ»
(1)
.
هذا الَّذي قرَّرناه مِن عَملِ المُحدِّثين في نقد أخبارِ الثِّقات قد أكبَرَه فيهم رُوَّاد المنهجِ التَّاريخي الغَربيِّ أنفسُهم حين وَصلوا إلى شيءٍ من ممارسةِ حقائقِه، ليُخبرونا مُتأخِّرين بقرون كثيرة: أنَّه لا يَقوم بهذا النَّقدِ «على وجهِ الدِّقةِ، إلَّا الخُبراء الحُذَّاق، الَّذين طالت مُمارستهم للنَّقد، وعظُمت مَعارفهم بالمعلوماتِ المؤثِّرة فيه»
(2)
.
وصدقًا قالوا؛ فإنَّ معرفةَ هذه الأخطاءِ واستخراجِها مِن حديث الثِّقاتِ، لا يتمكَّن منه إلَّا الأئمَّة النُّقاد الجامعون، مَعرفةً لم يُؤتاها الواحد منهم بمجرَّد النَّظر في إسنادِ الحديث نَظرًا رياضيًّا بَحْتًا، ولكنها عمليَّة مُرَكبَّة دقيقة لا تُوهَب إلَّا لحادِّ الذِّهن، كثيرِ المِران بأحوالِ الرُّواة وصفاتِهم، واسعِ الاطِّلاعِ على الأسانيد ومَخارج أحاديثهم، حديدِ الفهم لمتونِها وما يكتنفُها مِن مُشكلات؛ وهو
(1)
«مجموع الفتاوى» (13/ 353).
(2)
«المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية» (ص/87 - 88).
ما عناه السَّمعاني (ت 403 هـ) بقوله: «الصَّحيح لا يُعرف بالرِّواية مِن الثِّقات فقط، وإنَّما بالفَهم، والحفظ، وكثرة السَّماع»
(1)
.
(1)
«قواطع الأدلة في الأصول» (1/ 399).