الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّالث
حالُ السَّلف مع مُشكلاتِ النُّصوص الشَّرعيَّة
فعلى ذاك الحالِ من السُّؤال المَشروعِ كان أصحابُ النَّبي رضي الله عنهم، فإنَّهم مع ما أوتوه مِن عَقلِ رجيحٍ، ولسانٍ فصيح، كانوا يَستشكلون على النَّبي صلى الله عليه وسلم ما التَبَس عليهم فهمُه مِمَّا أوحِي إليه.
مِن مُثُل ذلك:
ما ذَكَره عنهم ابنُ مسعود رضي الله عنه مَرَّةً، لمَّا نَزَلَت آية:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، أنَّهم سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أيُّنا لم يلبِس إيمانَه بظلمٍ! فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّه ليس بذاك، ألَا تسمَع إلى قولِ لقمان لابنِه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(1)
وليس يخفى حرصُ أمِّ المؤمنين عائشةَ على سؤالِ زوجِها صلى الله عليه وسلم عمَّا أشكلَ عنها من نصوصِ الشَّرع، حتَّى أنَّها حين سمِعَته يقول:«مَن نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب» ، لم تَهَب سؤالَه والمَقامُ مَقامُ خشوعٍ وتذكيرٍ بالآخرة، فقالت: يا رسولَ الله، جَعَلَني الله فداءَك، أليس يقول الله عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 7 - 8]؟! فأجاب عن استشكالِها بقولِه: «ليس ذاك الحساب، إنَّما ذاك العَرض، مَن نوقِش الحساب يومَ القيامةِ عُذِّب»
(2)
.
(1)
أخرج البخاري في (ك: التفسير، باب {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، رقم: 4776).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الرقاق، باب: من نوقش الحساب عذب، رقم: 6536)، ومسلم في (ك: صفة يوم القيامة، باب: إثبات الحساب، رقم: 2876).
فلِعلمِ أصحابِه رضي الله عنهم بمَوفورِ أجرِ مَن طَلَب ما غابَ عن عِلْمِه مِن مَعانِي الوَحْيِ، أقدموا على السُّؤال عن المُشكِلاتِ سُؤالَ المُتعلِّم لا المُتعنِّت، فإنَّ أحدًا مِن أصحابِه رضي الله عنهم لم يَقُل «إنَّ عقلَه مُقَدَّم على قولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما كان يُشكِلُ على أحدِهم قولُه، فيسأل عمَّا يزيل شُبهَته، فيَتَبيَّن له أنَّ النَّصَّ لا شُبهة فيه»
(1)
، وإن كان مِثلُ هذا «لم يَقَع مِن الصَّحابةِ إلَاّ قليلًا، مع تَوجُّهِ السُّؤال وظهوره»
(2)
.
أمَّا إن كان النَّص مُتَوقَّفًا في ثُبوتِه، مُحتمِلًا للخطأ في نقلِه، فإنَّ السَّلَف «الَّذين يَروُون الخبرَ على اشتمالِ أمرٍ باطلٍ، تارةً يَردُّونَه، ولا يَقبلون أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَه، وتارةً يُفسِّرونَه، ويتأوَّلونه بأمورٍ أخرى، وإن خَالَف الظَّاهرَ؛ فهذا القَدْرُ قد وَقَع مِن بعضِ الصَّحابةِ في مَواضع، ومِن التَّابعين أكثر، وكُلَّما تأخَّرَ الزَّمان كان وُقوعه أكثر.
لكنْ إذا تَأمَّل العالمُ ما وَقَع مِن الصَّحابة والتَّابعين، وَجَد الصَّواب والحقَّ كان في الخَبرِ الصَّحيحِ، وأنَّ الَّذي غَلَّط راويَه برأيِه، كان هو الغالِطَ، وإنْ كانَ عظيمَ القدرِ، مَغفورًا غلطُه، مُثابًا على اجتهادِه»
(3)
.
والحقُّ؛ أنَّه لم يكُن في علماءِ الأمَّةِ المَرضيِّين، مَن يَردُّ حديثًا بَلَغه مِن وجهٍ صحيحٍ، إلَّا لعُذرٍ يحتمِلُه له أكثرُ أهلِ العلمِ على الأقلِّ
(4)
، وهذه الأعذار الأصوليَّة نفسُها، يكون العالِم في بعضِها مُصيبًا، وفي بعضِها الآخر مُخطِئًا
(5)
.
يقول ابن تيميَّة: «لم يكُن في أئمَّةِ المسلمين مَن يقول: هذا خبرٌ واحدٌ في المسائلِ العِلميَّة، فلا يُقبَل، أو هذا خبرٌ واحدٌ مُخالفٌ للعقلِ، فلا يُقبَل، ومَن
(1)
«درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية (5/ 229).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر العسقلاني (1/ 197).
(3)
«جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (ص/57).
(4)
انظر «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/11).
(5)
انظر «الرسالة» للشافعي (ص/458 - 460).
قال شيئًا مِن هذا، عَدُّوه مِن أهل البِدَع، لكونِه يُعارض السُّنةَ الصَّحيحةَ، بما لم يَجِئ عن الرَّسولِ، وكلامُ الرَّسول لا يُعارضِه إلَّا كلامُ الرَّسول»
(1)
.
لكنْ معارضة الخبرِ المنفرِدِ إمَّا بظاهرٍ مِن القرآن، وإمَّا بما يَعتقِدُه مِن الإجماعِ، ونحوِ ذلك مِن الأدلَّةِ الشَّرعيَّة، قد كان يَقَع هذا مِن بعضِ السَّلفِ، كقولِ عمر رضي الله عنه مثلًا:«لا ندعُ كتاب ربِّنا، وسنَّة نبيِّنا، لقول امرأةٍ، لا ندري هل حفِظت أو نَسيِت»
(2)
.
وكذا ما ذُكر عن عائشة رضي الله عنها في مَواضع، مِن رَدِّ بعضِ الحديثِ بظاهرٍ مِن القرآن
(3)
؛ وكذلك ما يوجَد في مَذهبِ أهلِ المدينة مِن تقديمِ العَملِ، الَّذي يجعلونه إجماعًا على الخَبرِ، ويَستدلُّون بذلك على نَسْخِه؛ فهذا ونحوُه قد كان يَقَع مِن بعضِهم.
(1)
«جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» (ص/86).
(2)
أخرجهما مسلم في (ك: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، رقم: 1480).
(3)
أمثلتها عديدة في كتاب «الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة» للزَّركشي.