الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
أوَّليَّة المستشرقين إلى مقالة الإقحام والتَّصرُّف في أصل البخاريِّ
أصل ما مرَّ عليك من شُبه بحقِّ سلامة نُسخ الصَّحيح، لم يكُن مِن كِيس مَن أسلَفنا ذكرَ أقوالِهم مِن الشِّيعة أوالحداثيين، بل ولا مِن مُبتكراتِ (أحمد أمين) و (أبو ريَّة)، إنَّها تَلبيساتٌ استشراقيَّة قديمة، مِمَّن تزعَّم التَّهويشَ بها المستشرِقُ المَعروف (جولدزيهر)
(1)
، والَّذي لم يقنَع بالتَّشكيكِ في نسبةِ الأحاديثِ إلى نبيِّ الإسلام صلى الله عليه وسلم، حتَّى انتقل إلى التَّشكيكِ في نسبةِ ذاتِ التَّصانيف الَّتي احتوتها إلى مُؤلِّفيها على الشَّكل الَّذي ارتضوه.
وقد عُرِف عن هذا المستشرق حنقه على «الجامعِ الصَّحيح» بخاصَّة، واسترابته من صحَّة نُسَخِه بدعوى وقوعِ التَّحريفِ بها، بلْهَ الإقحام! ممَّا يُفقدها وثاقَتها التَّاريخيَّة وقيمتَها العلميَّة، مستشهدًا على هذه التُّهمةِ بنصَّين مِن «الجامع الصَّحيح»:
أمَّا مثاله الأوَّل على دعوى إقحامِ الرِّواياتِ في البخاريِّ: فأثرُ عمرِو بن
(1)
أجناس جولدزيهر: مستشرق مجرى يهودي، تعلم فى بودابست وبرلين، ورحل إلى سوريا، كما انتقل إلى فلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر، عُين أستاذا في جامعة بودابست، وتوفي بها، وله تصانيف كثيرة في الفقه الإسلامى باللغات الأجنبية، منها «العقيدة والشريعة في الإسلام» ، انظر «الأعلام» (1/ 84).
ميمون يقول فيه: «رأيتُ في الجاهلية قِرْدة، اجتمع عليها قِرَدَة قد زنت، فرجموها»
(1)
:
حيث استدلَّ (جولدزيهر)
(2)
على دَسِّ هذه الرِّواية في «البخاريِّ» بكلامٍ للحُمَيديِّ (ت 488 هـ) يقول فيه بعد سرد الحكاية: «كذا حكاه أبو مَسعود -يعني أثرَ عمرو بن ميمون-، ولم يُذكَر في أيِّ موضعٍ أخرجه البخاريُّ مِن كتابه، فبَحَثنا عن ذلك، فوجدناه في بعضِ النُّسَخ لا في كلِّها، قد ذُكِر في (أيَّامِ الجاهلية)، وليس في روايةِ النَّعيمي عن الفربري أصلًا شيءٌ مِن هذا الخبر في القِرَدة، ولَعلَّها مِن المُقحَمات الَّتي أُقحِمَت في كتاب البخاريِّ»
(3)
.
وتبعَ الحميديَّ على هذا الادِّعاء ابنُ الجوزيِّ (ت 597 هـ) وأقرَّه
(4)
، وكذا فعَلَ ابن الأثير (ت 630 هـ)
(5)
.
ولتأيِيد هذا الإقحامِ المُدَّعى في «البخاريِّ» ، ساقَ (جولدزيهر) استنكارَ ابنِ عبد البرِّ (ت 463 هـ) لمتنِ هذا الأثر، وهو قوله:«هذا عند جماعةِ أهلِ العلم منكرٌ إضافةُ الزِّنَا إلى غيرِ مُكَلَّف، وإقامةُ الحدودِ في البَهائم»
(6)
.
وبهذا تصير روايةُ البخاريِّ لأثرِ عمرو بن ميمون هذا مَثارَ غلَط كبيرٍ عند ثلاث طوائف مِن المُعاصِرين:
طائفةٍ أولى: تَزيَّت بلباسِ التَّوثيق في الظَّاهر -كحالِ هذا المُستشرق المَجَريِّ- أنكرَت أن يكون أثرُ ابنِ ميمونٍ مِن جملةِ ما أودَعَه البخاريُّ في كتابِه مِن الأساسِ، وأيَّدت مَوقفها هذا بما تدَّعيه مِن نكارةٍ في متنه.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب: أيام الجاهلية، رقم: 3849).
(2)
في كتابه «دراسات محمديَّة» (ص/266)، وتابعه على تقرير الشُّبهة (حسين الهرساوي) في كتابه «البخاري وصحيحه» (ص/13 - 14).
(3)
«الجمع بين الصحيحين» (3/ 490) ونقل الدميري أيضًا قولَه هذا مُوافقًا له في «حياة الحيوان الكبرى» (2/ 333).
(4)
«كشف المشكل من حديث الصَّحيحين» (4/ 175).
(5)
«أسد الغابة» (3/ 772).
(6)
«الاستيعاب» لابن عبد البر (3/ 1205).
ولا يخفى أنَّ هذا الزَّعم ينتج عنه عدمُ الوُثوق بجميعِ ما في «الجامع الصَّحيح» ! فإنَّه إذا جازت دعواهم في واحدٍ لا بعينِه، جازَت في كلِّ فَردٍ فردٍ مِن أحاديثِه، فلا يبقى لأحدٍ وُثوق بما في الكتاب!
وأمَّا الطَّائفة الثَّانية: فلم تنشغل بدَعوى الإقحامِ هذه، واقتصرَت على إنكار متن هذه الرِّواية فقط، لا تلوي في ذلك على شيءٍ إلَّا تسفيه عقلِ البخاريِّ وفهمه! تُهمةً له باستساغةِ حمَاقاتِ الرُّواة مِن غيرِ فرقانٍ يُميِّز به مَعقولَ الأخبارِ مِن مَردودِها.
وفي تقريرِ دعوى النَّكارةِ هذه، يقول (محمَّد جواد خليل):
(1)
.
ثمَّ يقول: «ثمَّ ماذا نستفيد مِن ذكرِ هذه الرِّواية؟ أليسَ المسلمون في غِنًى عن ذكر مثل هذه الرِّوايات؟!»
(2)
.
(3)
كما يتهكَّم به (نيازي).
وأمَّا الطَّائفة الثَّالثة: فعلى خلاف السَّابقة حافِظةٌ للبخاريِّ قامتَه العلميَّة، مُعليةٌ مِن شأنِ «جامعِه» ، مِن غيرِ أن يمنعَها ذلك مِن الاعترافِ بنكارةِ مثل هذه القصَّة في «الصَّحيح»:
كما تراه -مثلًا- في تعليقِ الألبانيِّ عليه بقوله: «هذا أثرٌ مُنكر؛ إذ كيف يمكن لإنسانٍ أن يعلمَ أنَّ القِرَدَة تَتَزوَّج، وأنَّ مِن خُلُقِهم المحافظةَ على العِرْض،
(1)
«كشف المتواري» (2/ 329 - 334) بتصرف يسير.
(2)
«كشف المتواري» (2/ 332).
(3)
«دين السلطان» لنيازي (ص/455).
فمَن خان قَتَلوه؟ ثمَّ هَبْ أنَّ ذلك أمرٌ واقع بينها، فمِن أين عَلِم عمرو بن مَيمون أنَّ رجم القِردة إنمَّا كان لأنَّها زَنَت؟!»
(1)
.
وإن كانَ الألبانيُّ قد أحالَ إلى صيغةٍ مُفصِّلةٍ أخرى لهذه الرِّواية، تُبعد في رأيِه النَّكارةَ الظَّاهرةَ عنها، سيأتي ذكرُها في مَوضِعها قريبًا إن شاء الله.
فهذا عن المِثال الأوَّل الَّذي ساقه (جولدزيهر) للدَّلالة على الإقحامِ في «البخاريِّ» .
وأمَّا مثاله الثَّاني لذلك:
فحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه يَرفعه: «إنَّ آلَ أبي (
…
) ليسوا لي بأولياء»، الَّذي أخرجه البخاريُّ في «صحيحِه» بقوله:
حدَّثنا عمرو بن عبَّاس، حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سِرٍّ يقول: «إنَّ آل أبي -قال عمرو: في كتاب محمَّد بن جعفر: بَياضٌ- ليسوا بأوليائِي، إنَّما وَليِّي الله وصالحُ المؤمنين» .
ومحلُّ الشَّاهد عنده قولُ عمرو بن عبَّاس شيخِ البخاريِّ: «في كتابِ محمَّد بن جعفر: بياض» .
لقد حَمَّل (جُولدْزيهر) هذه الجملة المُعترضة طودًا مِن التَّفسيراتِ الهزيلةِ، من ذلك قوله:«يميلُ النُّسَّاخ المُتحيِّزون في عدم اهتمامهم بقضايا السُّلالة والنَّسبِ، إلى رغبتهم في تركِ الأسماء، وشيخُ البخاريِّ قال عندما وَصَل إلى الكلمةِ النَّاقصةِ في نَصِّ محمَّد بن جعفر ما نصُّه: (يوجد بَياض)، وقد زَوَّد البخاريُّ هذه الكلمات -كلماتِ شيخِه- في نصِّه، ولكنَّ المُفسِّر للحديث فَهِم هذا كما لو أنَّ كلمةَ (بَياض) تأتي بعد (أبي)! وبذلك يجعلُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَلعنُ عائلةَ أبي بَياضٍ»
(2)
!
وسيأتي الجواب عن هذه الدَّعاوي بأمثلتها في مطالب قريبة لاحقة.