الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأوَّل
بدايات الزَّحف المُتمعقِل على ساحة المَعارف الشَّرعيَّة
النَّاسُ في رَدِّ الأخبارِ الشَّرعيَّةِ درجاتٌ، تَتفاوت رُتَبُهم في مُفارَقتها، كلُّ درجةٍ يُضيِّق أهلُها من دائرةِ الاحتجاجِ بالوَحي بقدرِ ما نَقُص فيها مِن التَّسليمِ لنصوصها، وبقدرِ ما داخلَ نفوسَها مِن العوارضِ والعوائقِ الفكريَّة الفاسدةِ.
وكثيرًا ما تكون الدَّعاوي العقليَّة هي المُنطلَقَ لأيِّ انحرافٍ عن السُّنة، ذلك أنَّ «كلَّ مَن أصَّل أصلًا لم يُؤصِّله الله ورسولُه، قادَه قسرًا إلى ردِّ السُّنة وتحريفِها عن مَواضِعها»
(1)
؛ ونتيجةً لذلك، يجدُ أحدُنا بتأمُّله في مَقالاتِ الخَلَفِ المُناوئين لموقفِ الأسلافِ مِن النُّصوصِ الشَّرعيَّة، بدءًا بالمدارسِ الكلاميَّة والفلسفيَّة القديمةِ، وانتهاءً بتفرُّعاتِهم الفكريَّة المُعاصرة بشَتَّى أطيافِها: يجدُ ارتكازَهم في تأسيسِ مَذاهبِهم هذه قائمًا على أصل جامعٍ يَنتظم نظرَتَهم إلى السُّنَن المَنقولةِ، مَصوغًا في تقعيدِهم لـ:«أوَّليةِ العقلِ على النَّقلِ» .
فهذه أمُّ شُبهاتِهم في هذا البابِ من تَعارضِ الأدلَّة، تَجري على لسانِ كلِّ مَن نافرَ نصًّا شرعيًّا يُخالف مُقرَّراتِه الفكريَّة أو العَقديَّة، وكلَّما عَظُمَت هذه القاعدة في نفسِه، ضَعُف التَّسليمُ لنصوصِ الشَّريعة في قلبِه.
(1)
«شفاء العليل» لابن القيم (ص/14).
يقول أبو المظفَّر السَّمعاني (ت 489 هـ): «فصلُ ما بيننا وبين المُبتدعةِ هو مسألةُ العقل، فإنَّهم أسَّسوا دينَهم على المَعقولِ، وجَعلوا الاتِّباعَ والمأثورَ تَبعًا للمَعقول»
(1)
.
والمُتقَرَّر لمَن قَلَّب صَفحاتِ التَّاريخِ وعايَنَ مناهجَ الفِرَق الإسلاميَّة في الاستدلال الشَّرعي: أنَّ عصرَ الصَّحابةِ وكبارِ التَّابعين لم يَكُن فيه مَن يُعارض النُّصوصَ بمناهج عَقليَّةٍ محضةٍ كالمُستحدَثَة بعدهم؛ بل لم يكُن لهم اشتغالٌ بغيرِ الكتابِ والسُّنة لتحصيلِ المَطالب الدِّينيَّة، «فالخوارجُ والشِّيعة إنَّما حَدَثوا في آخرِ خلافةِ علي رضي الله عنه، والمُرجئة والقَدريَّة حَدَثوا في أواخرِ عصرِ الصَّحابة رضي الله عنهم، وهؤلاء كانوا ينتحِلون النُّصوصَ، ويَستدلُّون بها على قولهم، لا يَدَّعون أنَّ عندهم عقليَّاتٍ تُعارض النُّصوصَ»
(2)
.
وفي تقريرِ هذه الحقيقةِ التَّاريخيَّة المنهجيَّة عند الصَّحابةِ رضي الله عنهم، يقول المَقريزيُّ (ت 845 هـ):
(3)
.
حتَّى إذا تطاوَل بالنَّاس الأمَد، وابتعدوا عن أنوارِ النُّبوَّةِ الأولى، ودَخَل في الدِّينِ مَن لم ينفَكَّ عن رَواسبِ الجاهليَّة، دبَّ الافتراقُ الشَّديد في مناهج اعتقاد الأمَّة، وانشطَرت إلى فِرَقٍ جانَبَت هَديَ السَّلف الصَّالحين، وفَشَت فيهم مناهج مُستحدَثةٌ في التَّلقي والاستدلال.
وفي تقرير هذا الانحراف المَعرفيِّ، يقول السُّيوطي (ت 911 هـ): «إنَّ علومَ الأوائل دَخَلت إلى المسلمين في القرنِ الأوَّل لمَّا فتحوا بِلاد الأعاجم، لكنَّها لم
(1)
«الحجة في بيان المحجة» للسَّمعاني (1/ 347).
(2)
«درء التعارض» لابن تيمية (5/ 244).
(3)
«المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» للمقريزي (4/ 188).
تكثُر فيهم، ولم تشتهر بينهم، لما كان السَّلف يمنعون مِن الخوضِ فيها، ثمَّ اشتهرت في زَمَن البرمَكِيِّ
(1)
، ثمَّ قَوِي انتشارُها زمنَ المأمون
(2)
لمِا أثارَه مِن البِدَع، وحَثَّ عليه مِن الاشتغالِ بعلومِ الأوائل، وإخماد السُّنة»
(3)
.
ولماَّ كانت أغلبُ قلوبِ المُستقبِلين لهذه المَعارفِ الفلسفيَّةِ الدَّخيلةِ خاليةً مِن نورِ القرآنِ والسُّنةِ، تمكَّنت فيها تلك الأفكار الوافِدة، وافتُتِنوا ببهرُجِها، فسَلَّموا لكثيرٍ مِن أصولِها في التَّفكير وقواعِدها في الاستدلال وأساليبِها في الحِجاجِ، ثمَّ استَوْلَدوا منها أصولًا مُفارقةً لِما دلَّت عليه القواطع الشَّرعيَّة.
وفي وصفِ حالِ هؤلاءِ مع الدَّلائل النَّقليَّة، يقول ابن تيميَّة:
(4)
.
فكان أخطرَ ما بَدَأ به هذا السَّيلُ المُتمَعقِل في انجِرافِه: أنْ كَدَّر على النَّاس صفاءَ المنبعِ الإسلاميِّ، ولطَّخَ سَواقيَه بدَخَنِ الأديانِ الأخرى، صارَ معه المتكلِّمون -بتعبيرِ أحمد أمين- «صِلَةً لأشياء مُختلفةٍ: كانوا صِلةً بين الأديانِ
(1)
هو أبو الفضل جعفر بن يحيى البرمكي، وزير الرشيد العباسي، قتله في مقدمة من نقل من البرامكة لما نقم منهم من الإفساد والظلم، توفي سنة 187 هـ، انظر «تاريخ بغداد» (7/ 152).
(2)
عبد الله بن هارون الرشيد: هو الخليفة العبَّاسي، قرأ العلم والأدب والعقليات، ودعا إلى القول بخلق القرآن وبالغ، ولم ينل مقصوده، توفي سنة 218 هـ، انظر سير أعلام النبلاء (10/ 272).
(3)
«صون المنطق والكلام» للسيوطي (ص/12).
(4)
«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (4/ 95).
بعضِها وبعض، وصِلةً بين الفلسفة والدِّين، وصِلةً بين الفلسفةِ والأدبِ، فلو قُلنا: إنَّ المتكلِّمين كانوا مِن أظهرِ القائِمين بعمَليَّة المزج، لم نَبعُد عن الصَّواب»
(1)
.
هذه العمليَّة في المَزجِ بَلغت مَداها حينَ أصبحَ غالبُ مادةِ الكلامِ مِن الفلسفةِ، مِمَّا أضْعف الانتهاضَ بنصوصِ الوَحي عند أربابِه، واشتدَّ الغلوُّ في العقلِ بسَقَطاتِه، و «لولا استشهادُ المُتكلِّمين أحيانًا بالأدلَّةِ السَّمعية، لما تَميَّزت مادةُ الكلامِ عن الفلسفةِ!»
(2)
.
فكان لهذا التَّحوُّل المَنهجيِّ في تلقِّي المَعارف عند فئامٍ من المُسلمين، الأثرُ البليغُ في تشكيلِ تَصوُّراتٍ خاطئةٍ عن دلالاتِ النُّصوص الشَّرعيَّة، وعن أخبار الآحادِ النَّبويَّة، إذ لم تصِر مُعوَّلهم في تأسيسِ العقائد وأصول الأحكام، وقد عادَ عليهم كلُّ هذا بالنَّقصِ في عباداتِهم، بل وحِدَّة أخلاقِهم.
وفي وصفِ هذه الحالةِ الانتقاليَّة من الارتياضِ في علوم الوَحيِ، إلى ارتشافِ المُتشرِّعين للعقلانيَّاتِ، ونأيِهم بالتَّدريج عن النَّقليَّاتِ، يقول ابن الجوزيُّ (ت 597 هـ):
« .. ثمَّ نظَر إبليس، فرَأى في المسلمين قومًا فيهم فطنة، فأراهم أنَّ الوقوف على ظواهر الشَّريعة حالةٌ يُشاركهم فيها العوامُّ، فحسَّن لهم علومَ الكلام، وصاروا يحتجُّون بقول بُقراط وجَالينوس وفيثاغورس! وهؤلاء ليسوا بمُتشرِّعين، ولا تبعوا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم؛ وإنَّما قالوا بمُقتضى ما سوَّلت لهم أنفسُهم.
وقد كان السَّلف إذا نَشأ لأحدِهم وَلدٌ؛ شغلوه بحفظِ القرآن وسماع الحديث، فيثبُت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى النَّاس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أخبارُ آحاد! وأصحاب الحديث عندهم يُسمَّون: حشويَّةً! ويعتقد هؤلاء أنَّ العلم الدَّقيق علم
الطَّفرة والهَيُولى، والجزءُ الَّذي لا يتجزَّأ، ثمَّ يتصاعدون إلى الكلام في صفاتِ الخالق، فيدفعون ما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواقعاتهم ..
وقد عُزل هؤلاء الأغبياء عن التَّشاغل بالقرآن، وقالوا: مخلوق! فزالت حُرمَته من القلوب؛ وعن السُّنة، وقالوا: أخبارُه آحاد! وإنَّما مذاهبُهم السِّرقة مِن بُقراط وجالينوس! وقد استفاد مَن تَبِع الفلاسفةَ أنَّه يُرفِّه نفسَه عن تعبِ الصَّلاة والصَّوم!»
(1)
.
(1)
«صيد الخاطر» لابن الجوزي (ص/490).