الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الخامس
مَوقف التَّيار العقلانيِّ الإسلاميِّ مِن «الصَّحيحين» عمومًا
سَبَق أنْ عَرضنا الأصلَ العقليَّ العامَّ الَّذي يعتمَدُ عليه مثل هذا التَّيار الفكريِّ في نظرِه إلى النُّصوص الشَّرعيَّة، ومنها الأحاديث النَّبويَّة، وإفراط كثير من أربابِه في استعمالِ النَّظرِ العقليِّ المحض في ردِّ صِحاحِ الأخبار، حتَّى عُدُّوا -بحقٍّ- أوَّلَ مَن تورَّطَ مِن المُعاصرين في مَهاوي هذه المهْلَكة.
يقول محمَّد حمزة: «يُمكن اعتبارُ الشَّيخ محمد عبدُه، أوَّلَ مسلمٍ مُعاصرٍ تجرَّأَ على رفضِ حديثٍ أورَدَه البخاريُّ، حين رَفَض حديثَ سحرِ بعضِهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم .. »
(1)
.
(2)
.
والتَّفاوتُ حاصلٌ بين أفراد هذا التَّيار في نظرتهم للمرويَّات:
ففيهم المُسرِف في ردِّ كلِّ ما لا يَروق له مِن آحادٍ، وهو يدعو إلى إعادةِ النَّظر فيما فَرَغَت الأمَّة مِن تمحيصِه واختبارِه مِن مَناهج التَّوثيقِ، والتَّعويل على العقلِ في غربلةِ التُّراث بأصولِه وفروعِه.
(1)
«الحديث النبوي» (ص/222 - 223).
(2)
«الحديث النبوي» (ص/211).
ترى مثالَ هذا الانقلاب الفكريِّ في قولِ (حسنِ التُّرابيِّ): «لا بُدَّ لنا أن نعيدَ النَّظرَ في الضَّوابطِ الَّتي وَضَعها البخاريُّ، فليسَ هناك داعٍ لهذه الثِّقة المُفرطة في البخاريِّ!»
(1)
.
ومن قبله (أحمد أمين)، كان يَميل إلى موقفِ المُعتزلةِ في حاكميَّة العقولِ في ميدان الأخبار، وضرورةِ إخضاعِ الأحاديث لمُقتضَياتِ التَّجربة العمليَّة، وأنْ ليس لأيِّ مُدوَّنةٍ حديثيَّةٍ حُرمة توجِب إسقاطَ مُخرجات تلك العلوم عليها، ولو كانت «الصَّحيحين» ، حيث توهَّم انصراف المُحدِّثينَ إلى نقد الأسانيد دون المتون.
فادَّعى (أحمد أمين) أنَّه لم يظفَر منهم في هذا الباب بعُشر مِعشارِ ما عُنوا به مِن جرح الرِّجال وتعديلِهم؛ فكان يقول: « .. نَرى البخاريَّ نفسَه -على جليلِ قدرِه، ودقيق بحثِه- يُثبت أحاديثَ دَلَّت الحوادث الزَّمنيَّة، والمُشاهدة التَّجريبيَّة، على أنَّها غير صحيحة، لاقتصارِه على نقدِ الرِّجال»
(2)
.
فلو أنَّ البخاريَّ وأهلِ الحديثِ انصَّبَت عِنايتُهم إلى انتقادِ المتون، لانكشَفت -كما يزعم- أحاديثُ كثيرة تُبيِّن وضعَها، كأحاديثِ الفضائلِ في مدحِ الأشخاصِ، والقبائلِ، والأمكنةِ
(3)
.
ومن أولئك بالمُقابل: مَن يُعظِّم جانبَ السُّنَن المَنقولة، ويُقدِّمها على كلِّ دليلٍ سِوى كتاب الله، بل كثيرًا ما تراه مُحتاطًا في تأويلِها، لكنَّه يَعثرُ في فخِّ التَّمعقل عليها في مَواطن مِن مُؤلَّفاته ومَقالاتِه، مِن غير مُستندٍ شَرعيٍّ واضح، ولا قدوةٍ مِن سَلفٍ صالح.
أقال الله عثرَتهم أبتعين، وغَفَر لنا ولهم أجمعين.
(1)
نقلًا عن «مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي» للأمين محمد أحمد (ص/79).
(2)
«فجر الإسلام» (ص/210).
(3)
«ضحى الإسلام» (2/ 132).
وسُنقِّدم في المباحث التَّالية المَواقفَ التَّفصيليَّة لأشهرِ رجالاتِ هذا التَّيار مِمَّن خَصَّصوا مُؤلَّفاتٍ مُستقلَّةً في نقدِ أحاديثِ «الصَّحيحين» ، أو تكلَّموا في جملةٍ من ذلك واشتهرَ كلامُهم فيها، من غيرِ أن يكون ذلك مَجموعًا في مُصنِّف خاصٍّ بهما.
فنبدأ بأعلمِهم في ذلك، وأبرزِهم شُهرةً في الأوساطِ العلميَّة، مِمَّن ساهَم في تشكُّلاتِ هذه المدرسةِ العقلانيَّة الإصلاحيَّة، فنقول: