الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الرَّابع
نيازي عزُّ الدِّين
(1)
وكتابه «دين السُّلطان، البرهان»
يُعدُّ (نيازي) مِن أبرز أعداء السُّنَن المعاصرين جلَدًا في مُعارضةِ متونِ «الصَّحيحين» ، فكتابُه هذا مِن مَصادر الطُّعونِ الَّتي اعتمدها عَددٌ مِن المعاصرين في هجمَتِهم على «الصَّحيحين»
(2)
، واقعٌ هو في مجلَّدٍ كبيرٍ قارب عدُّ صفحاتِه الألفَ، تقوم فكرتُه على شبهةٍ أساسةٍ تابعَ فيها (جُولدْسِيهر) ثمَّ (أبو ريَّة)
(3)
، منها تنبثق باقي الشُّبَه الَّتي أودَعَها في كتابِه، ومضمونها:
دعواه أنَّ السُّنة وضَعها علماء الحديثِ بأمرِ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأنَّ وضعَ الشَّيخين لكِتابيهما كان مُحاباةً للحُكَّام في وقتهما، وتحقيقًا لمطامعِهم السِّياسيَّة، فكان بهذا جملةُ الفقهاء والمحدِّثين جنودًا للسُّلطان لا لدين الله تعالى!
(1)
كاتب سوري من أصل شركسي، من حملة لواء الطعن في الأحاديث النبوية بدعوى أنها من وضع السلاطين لتثبيت حكمهم، وأن الإسلام لم يلزم الأمة إلا بالقرآن وحده، استغرق ألف صفحة في كتابه «دين السلطان» لإثبات هذه الفرية، انظر «السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام» (ص/21).
(2)
انظر «جناية البخاري» (ص/45)، وقد اتبع جمال البنَّا نفس منهجه في تكرار الأحاديث في كتابه «تجريد البخاري وسلم» .
(3)
انظر «السنة ومكانتها في التشريع» للسباعي (ص/230)، و «أضواء على السنة المحمدية» لمحمود أبو رية (ص/99).
وهذه فِرية لا تُسندها مِسكة دليلٍ ولا شاهد تاريخ، تسقطُ اعتبارَ الكتابِ من أساسِه
(1)
(2)
.
(3)
.
لكن المُؤلِّف مع ذلك مُصرٌّ على عِمايتِه في اتِّهامه لأبي هريرة رضي الله عنه بالكذبِ
(4)
، كما زعَمَ أنَّ كعبَ الأحبارِ قد دَسَّ في الإسلامِ نصوصًا كثيرة مِن كُتب أهلِ الكتابِ المُحرَّفة
(5)
، ثمَّ جاء الشَّيخان فأودَعاها في «صَحيحَيهما»
(6)
، هكذا مِن غير حَسيبٍ ولا رقيبٍ، ولا انتبَه لذلك أحَدٌ مِن الأمَّة قبله!
(1)
انظر الردَّ على هذه التُّهمة في «السنة ومكانتها في التشريع» للسباعي (ص/205) و «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/211)، و «كتابات أعداء الإسلام» لعماد الشربيني (ص/494).
(2)
«السُّنة ومكانتها في التَّشريع» (1/ 203).
(3)
«الأنوار الكاشفة» (ص/211).
(4)
«دين السلطان» (ص/168، 714).
(5)
«دين السلطان» (ص/150).
(6)
«دين السلطان» (ص/713)
وأمَّا عَملُ (نيازي) في الكتاب:
فقد بدأه ببضعِ مقدِّماتٍ فَصَّل فيها بعضَ الأصولِ الَّتي يقوم عليها تسويدُه، حيث قَسَّم أحاديث «الصَّحيحين» على أربعين فصلًا، كثيرًا ما يُكرِّر الحديثَ تحتَ أكثرِ مِن مَوضعٍ بلا فائدةٍ زائدةٍ، غير الحشو والاستكثار!
(1)
.
مِن هذه الفصول -مثلًا- «ما تعلَّق بالأحاديثِ الَّتي يُناقض متنُها مَعاني القرآن الكريم» ، و «أحاديث تُناقض بعضَها» ، و «أحاديث تناقض أخلاق الرَّسول صلى الله عليه وسلم» ، وفصل «في الشَّواهد على إشراكِنا الحاليِّ!» ، حيث يَرى أنَّ قولَ المُسلمينِ بأنَّ السُّنة وحيٌ، إشراكٌ بالله تعالى في تشريعِه وألوهيَّتِه!
(2)
وليس يَدري المسكين بأنَّ قول المُسلمين بأنَّ السُّنة وَحي ناجمٌ عن أنَّ السُّنة في أصلِها من عند الله تعالى، أوحى بها إلى نبيِّه إمَّا إلهامًا أو إقرارًا، فليس النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَّا مُبلِّغًا، لا مُشرِّعًا في حقيقتِه مع الله.
يقول (نيازي) في بيانِ خُطَّةِ كتابِه:
في كتابي هذا، سوف أدرس -فقط- «صحيح البخاريِّ» ، ثمَّ آتي على ذكر أحاديث «مسلم» بتركيز أقلٍّ .. لأنَّ غايتي مِن الدِّراسة، ليس حصر الحديث وتبيان الموضوع فحسب، وإنَّما مَقصدي من الدِّراسة: إظهار وتوضيح حقيقةٍ تَغاضى عنها أغلبُ المسلمين اليوم، وتلك الحقيقة هي: تناقضُ أغلبِ الأحاديثِ المَرويَّة في «الصَّحيحين» مع صريحِ القرآن الكريم»
(3)
.
فكان ممَّا خلُص إليه المؤلِّف فيه بعد دراستِه لأحاديثهما:
أنَّه لم يجد مِن ذلك في «الصَّحيحين» يوافق القرآن، سِوى (أربعمائةٍ وتسعةٍ وثمانين) حديثًا! ثمَّ هذا القليل لا يلزم عنده منه أن يكون مِن قول النَّبي صلى الله عليه وسلم
(1)
انظر -على سبيل المثال- (ص/290) من كتابه، وقارنها بما في (ص/463).
(2)
«دين السلطان» (ص/712)، وهذا حكم يشاركه فيه غيره من منكري السُّنة، كما تراه في قول ابن قرناس في «الحديث والقرآن» (ص/18):«اتِّباع ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير القرآن: يعني أنَّنا عبدناه من دون الله، أو أشركناه في العبادة مع الله» !
(3)
«دين السلطان» (ص/17).
حقيقةً
(1)
! بل هواه إلى ردِّ كثيرٍ منها، هذا مع اعترافِه بعدم مُناقضتِها للقرآن، بدعوى أنَّها متونَها مِن المواضيع الشَّكليَّة الَّتي لا تأثير لها في الإسلام، كما الحال مع حديث:«احفوا الشَّوارب، وأرخوا اللِّحى»
(2)
، فهو لا يرى في هذا الحديث فائدةً أصلًا!
وهكذا كثيرًا ما يُورِّطه ذوقُه الرَّديء في اتِّهامِ الحديثِ ورواتِه باختراعِ ألفاظٍ في المتونِ افتراءً على الدِّين، كحديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه الَّذي فيه:« .. قال: هذا آدم، وهذه الأسْوِدة عن يَمينه وشِماله نَسَم بَنِيه .. » .
هذا الحديث قد أقلق مضجعَ (نيازي) وأغاضَه، إذ لم يسبِق لحضْرته أن سَمِع بكلمةَ «الأسْوِدَة»
(3)
ولا عَلِم بمعناها! وطالما أنَّ عربِّيًا مثلَه لا يعرفها، فهي إذن مُختلَقةٌ لا معنى لها في لسان العرب! ثمَّ راح يُفسِّر للقارئ سببَ هذه البائقة، بـ «أنَّ راوي هذا الحديث لا يُتقِن العرَبيَّة، ولم يعرف عند نقلِ الحديث معنى (السَّواد)، فكتَب (أسوِدة)! وجَعلَ الَّذي على اليمين أيضًا مِن الأسودة الَّتي لا معنى لها»
(4)
!
المُضحك من هذا، أنَّه مع عجزِه عن تفهُّمِ مثل ذاك الكلامٍ العَربيِّ المُبين، وتَعسُّفه في (فبركةِ) أسبابٍ لوضعِ الحديث لم تخطر على قلب بشر: يعاتبُ العلماء على تقصيرِهم -بل جُبنِهم- عن مُصارحةِ مَتبوعيهِم بما في «الصَّحيحين» مِن مَكذوباتٍ! تهدم أُسَّ العقيدة والشَّريعة برُمَّتها، وبما فيها مِن مُناقِضاتٍ لكتاب الله تعالى في الأحكامٍ والأخبارٍ، كما فَعلوا ذلك -دون تَهيُّبٍ- بأحاديث مَوضوعةٍ أخرى في غيرهما مِن مُصنَّفات الحديث.
(1)
«دين السلطان» (ص/240).
(2)
«دين السلطان» (ص/240).
(3)
الأسودة: جمع سواد، وهو الشَّخص، وقيل: الجماعات من الناس، انظر شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 218).
(4)
«دين السلطان» (ص/371).
فلماذا هذا التَّحاشي من نقدِ «الصَّحيحين» -في نظره-؟ أفلا عاملوا الكلَّ مُعاملةً واحدةَ؟!
(1)
.
ولتَعجَبْ معي مَرَّةً أخرى -وما أكثرَ عجائب الرَّجل- مِن إقحامِ (نيازي) قُرَّائه في عالمٍ مِن الإثارة النَّفسيَّة الغَريبة، على نَمط كُتَّاب الرِّوايات البُوليسيَّة! فلقد هَمَس في آذانهم باكتشافِه سِرًّا محوريًّا خطيرًا عن سببِ إيرادِ البخاريِّ لتلك الأحاديث المَوضوعةِ كلِّها في كتابِه، مع ظهورِ بُطلانها للعالَم كلِّهِ! يقول:
«إنَّ للبخاريِّ رسالةً سِريَّةً، يحاول أن يُنبِّهنا إلى ما يحدُث في الدِّين .. »
(2)
، إنَّه «لم يكُن مُوافقًا على كلِّ ما يُقال عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم مِن أحاديث غير صحيحةٍ، ولكنَّه مِن خشيةِ السَّيافِ، كان لا يجرؤُ على الإجهارِ بها عَلَنًا! فوَضَعَها في كتابِه «الصَّحيح» ، حتَّى يلمَحَها كلُّ مُؤمنٍ غَيورٍ على دينه»
(3)
.
ولله في خلقِه شؤون!
ولأجل أن يكون كلام الرَّجل عَمليًّا، لا مُجرَّد عتابٍ عاطفيٍّ، اقتَرَح على العلماءِ مَشروعًا مِعياريًّا لإنقاذِ الأمَّة ممَّا أُلزق بدينِها مِن أكاذيبِ أسلافِهم، متسائلًا بصيغة الاستنكار:«لماذا لا يجتمع علماء المسلمين، ليدرسوا أحاديث البخاريِّ ومسلم مِن جديدٍ، ويَعرضوها على آياتِ الله في القرآن الكريم؟!»
(4)
.
(1)
«دين السلطان» (ص/715).
(2)
«دين السلطان» (ص/309).
(3)
«دين السلطان» (ص/446).
(4)
«دين السلطان» (ص/715).
لكنَّه سرعانَ ما تراجع عن هذا المُقترحَ مِن أساسِه، وقنَّط القارئ مِن جدوى جوابِه، ذلك أنَّ السُّنة النَّبويَّة -مهما حاولنا تنقيتها عنده- لا تعدو أن تكون «فهمَ الرَّسولِ الخاصِّ والمَحدود بإنسانيَّتِه بالزَّمانِ والمكانِ»؛ فكان الحلُّ المريحُ «أن نطيع أمرَ الرَّسولِ الدَّائم .. -وطاعة الرَّسول واجبةٌ على كلِّ المسلمين المؤمنين برسالتِه-:«مَن كَتَب عنِّي غير القرآن فليمحُه»
(1)
!
فأيُّ تناقضٍ هذا؟! بين إنكارِه قبلُ لمِا زادَ عن القرآن مِن الحديث، ثمَّ استدلالِه هو على كلامِه هذا بـ (حديثٍ) فيه الأمر بمحوِ (الحديثِ)! وليس هو في القرآن؟! مع عدم اعترافِه بالأحاديث مِن الأصل! وستأتي دراسة نماذج مِن مُعارضاتِه لأحاديث «الصَّحيحين» في مكانها المُناسب من الباب الثَّالث للبحث -إن شاء الله-.
(1)
«دين السلطان» (ص/716).