الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الأوَّل
مفهوم مُفرَدات العنوان المُحدِّدَة لنطاقاتِ البحث
أمَّا المعارضُ الفكريُّ: فمُركَّبٌ تقيِيديٌّ، يَتَحصَّل إدراكُه بإدراكِ مُفْرَدَيْه:
فالمُعارِض: مُفَاعِل، أصْلُ مادَّتِه مِن (عَرَضَ)، وهذه المادَّة تدور في اللِّسان على عِدَّةِ مَعانٍ؛ ترجع -مع كثرتها- إلى أصلٍ واحدٍ؛ وهو:«العَرْض الَّذي يُخالف الطُّول»
(1)
؛ ومِن مَعانيها الَّتي لها عُلْقة بهذه المُقدِّمة: مَعْنيانِ، هما: المَنْعُ، والمُقَابَلةُ.
فالأوَّل، كقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا} [البقرة: 224]، أي: لا تجعلوا الحَلِفَ بالله مُعترضًا مانِعًا لكم أن تَبرُّوا، فالعُرْضَة هنا بمعنى: المُعترِض
(2)
.
والمعنى الآخر، فمن قولهم: عارَضَ الشَّيءَ بالشِّيءِ مُعارَضةً، أي: قَابَلَه، وعارَضتُ كتابي بكتابِه؛ أي: قابلتُه
(3)
.
ومِن هذين المَعْنَيين يَستمِدُ «المُعارِض» معناه الاصطلاحيَّ، والَّذي يُقصَدُ به: تَقابُل الدَّليلين على سَبيلِ المُمانعة والمُدَافَعَةِ
(4)
.
(1)
انظر «مقاييس اللُّغة» لابن فارس (4/ 369).
(2)
انظر «تهذيب اللغة» للأزهري (1/ 454).
(3)
انظر «لسان العرب» (4/ 302) مادة: (عرض).
(4)
انظر «أصول الفقه» لابن مفلح (4/ 1581)، و «البحر المحيط» للزركشي (8/ 120).
وأمَّا الفِكر: فأصل مادَّته يُفيد تَردُّدَ القلبِ في الشَّيء، فيُقال: تَفكَّرَ، إذا رَدَّدَ قلبَه مُعتَبِرًا
(1)
، أو: هو إعمالُ الخاطِر في الشَّيء
(2)
.
وأمَّا في الاصطلاح: فعَرَّفه الجُرجانيُّ بأنَّه: «ترتيب أمورٍ مَعلومةٍ لتُؤدِّي إلى مَجهولٍ»
(3)
.
وقال الأصفهانيُّ: «قوَّةٌ مُطرِقةٌ للعلمِ إلى المَعلومِ، والتَّفَكُّر: جَوَلَان تلك القُوَّة بحسبِ نَظَرِ العقلِ»
(4)
.
وإن حاوَل بعض المُعاصرين تجديدَ التَّعريفِ له بما يُوائم حادثاتِ العصر، فلم يَعدُ جُهدُه أنْ مَطَّطَ تعريفَ المُتقدِّمين
(5)
؛ ولا شكَّ أنَّ في ذاك التَّعريف القديم نوعَ تَعميمٍ لموضوعِ الفِكرِ وكيفيَّتِه، لا يُناسبُ استعمالاتِنا المُعاصرة لهذا المُصطلحِ، وفي بحثنا هذا بخاصَّة.
فكان الأقرب عندي في تعريف الفِكر هنا أن يُقال: هو إعمالُ الذِّهن في مَعلوماتٍ مَخصوصةٍ، للوصولِ بها إلى نَظريَّاتٍ أو أحكامٍ كُليَّةٍ تَتَعلَّق بمُختلفِ مَناحي الحياة الإنسانيَّة.
فظاهرٌ مِن هذا التَّعريف للفِكرِ: أنَّه مُستلزمٌ للتَّرابُطيَّةِ في مَنهجيَّتِه لا عَبثيًّا، وشُموليًّا في رُؤيتِه، لا مَحصورًا في جُزئياتٍ دقيقة؛ ويتركَّز استعمالي للتَّعريف في شَطْرِه الثَّاني على وجهِ الخصوص، أعني نفسَ النَّظريَّاتِ، والأفكار الكُليَّةِ، والتَّصوُّرات القِيمِيَّة التَّي تَصدُر مِن فِئةٍ ما، نحو أيِّ مَلْمَحٍ رَئيسٍ مِن مَلامِح الحياةِ الإنسانيَّةِ.
(1)
«مقاييس اللغة» (4/ 446).
(2)
«لسان العرب» (5/ 65) مادة: (فكر).
(3)
«التعريفات» للجرجاني (ص/168).
(4)
«المفردات» للأصفهاني (ص/643).
(5)
كما تراه عند طه جابر العلواني في كتابه «الأزمة الفكرية المعاصرة» (ص/27) حيث قال: «الفكر اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان، سواء أكان قلبا أو روحا أو ذهنا بالنظر والتدبر، لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة، أو الوصول إلى الأحكام أو النِّسَب بين الأشياء» .
وبهذا يُمكِّنُني هذا المُصطلح بهذا الاعتبارِ أن أُدخِل في أصحابِ الفكرِ من كان مُنتسِبًّا منهم لطائفةٍ عَقديَّةٍ، أو مذهبٍ فقهيٍّ، أو تيَّارٍ فَلسفيٍّ ونحوه.
فعلى هذا يتبيَّن مُرادي بـ «المُعارضات الفكريَّة» : أنَّها المُقابلة بين دَليلين على وجهِ المُمانعةِ، حاصلٌ بإعمالِ الذِّهنِ فيهما، واردٌ مِن فئةٍ تجمعها مَنظومةُ أفكارٍ مُشتَرَكة، سواء ابتَنت أفكارَها هذه على أصولِ دينٍ أوْ لا؛ وذلك لتشملَ المُعارضاتِ الصَّادرةَ عن التَّيارات الَّتي تنتسِبُ في أصلِ وجودِها إلى الإسلام: كالعقلانيَّة الإصلاحيَّة، والشَّيعة الإماميَّة، والقرآنيَّة مُنكري السُّنة، والإباضيَّة، ونحوها؛ أو عمَّن كان أصلُ نشأتِها مِن خارجِه: كالعَلمانيَّة، والحَداثة التَّنويريَّة، ونحوها.
وأمَّا تَقْيِيدي لهذه «المُعارضاتِ الفكريَّةِ» بوصفِ «المُعاصرِة» : فأصلُ هذه الكلمة مُشتقٌ مِن (العَصْرِ)، ولها عِدَّة مَعانٍ، ومُرادنا من ذلك ما كان بمعنى: الدَّهْر
(1)
، ومجيئها هنا على وزنِ مُفاعِلة، أخذًا مِن (التَّعاصُر): وهو التَّشارُك بالعَيْشِ في عصرٍ واحدٍ
(2)
.
والَّذي أعنيه بالعَصْرِ في بحثي هذا: الحِقبة الزَّمنية الحديثَة الَّتي تمتَدُّ لقُرابةِ قرنٍ أو يَزيد بقليل، تبدأُ عندي مِن عَهْدِ انبعاثِ محمَّد عبدُه (ت 1323 هـ) -إذ كان أوَّلَ مُفكِّرٍ شرعيٍّ وازِنٍ بَدَأت مَوجةُ الاستنكارِ لصِحاحِ السُّنة تَتَعالى بعده تِباعًا- إلى زمَن رَقَمي لهذا البحث.
فعِنايَتي إذن ستنصبُّ على نَقْدِ المُعارضاتِ الفِكريَّةِ الصَّادِرةِ مِن كُتَّابِ هذه الحِقبةِ الزَّمنيَّةِ أصالةً؛ فإن رأيتني نقدتُ ما صَدَر عَمَّن قبلَهم، فإنَّما ذلك تَبَعًا وتكميلًا لِما هو أصيلُ البحث.
أمَّا علَّة اختيارِي لمُعارضاتِ المُعاصرين دون مَن سبق: فلِأنَّ مُعارَضاتِ المُعاصِرين قد احتَوَت ضِمنًا شُبهات الأوَّلين، ثمَّ زادوا عليها مِن شُبهاتِهم
(1)
«تهذيب اللُّغة» للأزهري (2/ 10)، و «مقاييس اللغة» (4/ 340).
(2)
«معجم اللُّغة العربية المعاصرة» (2/ 1507).
المُستَحْدَثَةِ ما لم يخطُر على بالِ الأقدمين، وعَرَضوها على النَّاسِ بأسْلوبٍ عَصْريٍّ حَديثٍ، بلغةٍ قَريبةٍ مِن أفهامِهم، «فربَّما كان المُتأخِّرُ بهذا أضْرَى بالشَّرِ مِن المُتقَدِّم! لتَمَكُّن داعيةِ الشَّر مِن نفسِه بالوَراثة والقُدوةِ جميعًا»
(1)
.
ولأجل أنَّ كلَّ عصرٍ له طائفةٌ مِن أهلِه يُنافحون فيه عن الحقِّ، ويَذودون عنه ما استحدثَه أقوامُهم مِن أباطيل، مِصداق قولِ مَولايَ صلى الله عليه وسلم:«يحمِلُ هذا العِلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، يَنفونَ عنه تحريفَ الغالِين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهِلين»
(2)
أحببتُ أنْ أُحشَر في زُمرة عدولِ هذا الخَلَف الَّذي أنا فيه.
هذا؛ ولم يكُن لي أن أسوق تلك المُعارضاتِ للمُعاصِرين على «الصَّحيحين» على وجهِ الاستيعابِ، فهذا أمرٌ شاقٌ جدًّا بعيد المَنال لكثرتها، وكثيرٌ من هذه الكثرةِ يَستكثِرُ العاقلُ مُجرَّدَ النَّظَرِ إلى آحادِها، لسَخافةِ من انطوت عليه من جهالاتٍ.
وفي الإشارةِ إلى هذه المَنهجيَّة النَّافعةِ في الجَدليَّات، يقول ابن تيميَّة: « .. لو قال قائلٌ: هذه الأمورُ المَعلومة لا تَثبُت إلَّا بالجوابِ عمَّا يُعارِضها مِن الحُجَج السُّوفسطائيَّة
(3)
، لم يَثبُت لأحدٍ علمٌ بشيءٍ مِن الأشياء! إذْ لا نهايةَ لمِا يقوم بنفوسِ بعضِ النَّاس مِن الحُجَج السُّوفسطائيَّة»
(4)
.
فليس -إذن- مِن وُكدِي تَتبُّع جميعِ ما فَرَّخَتْهُ عقولُ هؤلاءِ المُعترِضين على السُّنَنِ، بل يكفينا بيانُ تساقُطِ أصولِهم الكُليَّة الَّتي تَفرَّعت عنها تلك المُعارَضات، ثمَّ التَّوجُّه إلى دفعِ أصولِ الاعتراضاتِ الجزئيَّة وأشهرِها وأكثرِها حُضورًا في
(1)
رشيد رضا في «تفسير المنار» (4/ 216) بتصرف يسير.
(2)
أخرجه ابن وضَّاح في «البدع» (ص/26)، والبزَّار في «المسند» (16/ 274، رقم: 9423)، والطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (10/ 17) وغيرهم، وصحَّحه أحمد بن حنبل فيما نقله عنه الخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص/29)، وقَوَّاه ابن القيِّم في «مفتاح دار السعادة» (1/ 163)، وحَسَّنه العَلائي في «إثارة الفوائد» (1/ 72).
(3)
السُّوفسطائيَّة: يُطلق على فرقة ينكرون الحسِّيَّات والبديهيَّات ونحوها مِن حقائق الأشياء، وذلك بالقياس المركَّب من الوهميَّات، انظر «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (1/ 957).
(4)
«درء تعارض العقل والنقل» (5/ 254).
السَّاحةِ الفكريَّةِ، فإنَّها إن أسقطت في أيديهم، عَلِموا أنَّ ما دونَها في الشُّهرةِ والتَّأثيرِ أوْلى بالسُّقوطِ.
فعلى هذا الأساس تَمَّ اختيار الأحاديث المُعارضَة من قِبَل المُعاصرين في هذا البحث، ومُهِّدَ لها بنقدِ أصولِ المُعترِضين عليها.
وأمَّا قولي: «لأحاديثِ الصَّحيحين» :
فالأحاديث: جَمعُ حَديثٍ، وهو اسمٌ مِن التَّحديث، بمعنى: الإخبار، وجَمْعُه ذاكَ على خِلاف القِياس
(1)
.
وأمَّا في الاصطلاح: «فهو عندَ الإطلاق يَنصرِفُ إلى ما حُدِّثَ به عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد النُّبوة، مِن قولِه وفعلِه وإقرارِه؛ فإنَّ سُنَّتَه ثَبَتَت مِن هذه الوجوهِ الثَّلاثة»
(2)
.
وبذا يظهرُ مَقصودي بالأحاديثِ: أنَّها المتونُ نفسُها الَّتي وَرَدَت عبر سَلاسِل الإسناد، فإنَّه غالبًا إذا قيل: المُعارَضات أو الإشكالات على الحديث، فالمَقصود بهذا التَّركيبِ: متنُه؛ فضلًا عن كون أسانيد «الصَّحيحين» ورجالهما، قد كَفانا أسلافُنا الكلامَ في ذلك تمحيصًا وتنقيدًا، كما ترى تجلِّياتِ ذلك في ما كَتَبه ابنُ الصَّلاحِ في كتابِه «صيانة صحيح مسلم» ، وابنُ حَجرٍ في مُقَدِّمة شَرْحِه للبُخاريِّ «هُدَى السَّاري» ، وكتابِه «تغليق التَّعليق»
(3)
.
والَّذي أعنيه من هذه الأحاديث في الصَّحيحين تحديدًا: ما كان منها مرفوعًا مُسندًا على شرط الشَّيخين؛ فأمَّا المعلَّقات أو المُرسلات أو البلاغات أو المَوقوفات ونحوها مِمَّا هو خارج عن موضوع الكتابين وليس على شرط الشَّيخين في الصِّحة، فلستُ أعنى بدراستها.
(1)
«الكُليَّات» للكفوي (ص/370).
(2)
«مجموع الفتاوى» لابن تيميَّة (18/ 6 - 7).
(3)
ومِن المُعاصِرين مَن أَدْلى بدَلْوٍ مشكورٍ في ذلك، كما تَراه في الجُهدِ الطِّيب الَّذي بذَلَه مُصطفى بَاحُو في كتابِه «الأحاديث المُنتقَدة في الصَّحيحين» .
فإذا رأيتَني أتَكَلَّمُ في عِلمِ الإسنادِ أحيانًا، واقتَحمتُ مَهامِه هذه الصَّنعةِ في بحثي هذا: فلِأجلِ ما يُحقِّقه مِن غَرَضِنا في تثبيتِ المتونِ، وبيانِ زَيفِ تعذُّرِ المُعترضِ عليها بوَهاءِ إسنادِها، فإنَّهم ينصبون هذه الدَّعوى لِئلَّا يستوحش النَّاظر مِن طعنهم في الحديث، وتكذيبهم له.
وأمَّا «الصَّحيحان» : فقد أشرتُ في المُقدِّمة إلى أنَّ المَعْنِيَّ بهما كتاب محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ (ت 256 هـ): «الجامعِ المُسندِ الصَّحيحِ المُختصر من أمورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُنَنِه وأيَّامه» ، المُسمَّى اختصارًا بـ «صحيح البخاريِّ» ، وكذا كتاب مُسلمِ بن الحجَّاج (ت 261 هـ)«المُسند الصَّحيح» المَشهور بـ «صحيح مسلم» .
وكنتُ بيَّنتُ هناك سبَبَ اقتصاري عليهما دون غيرِهما مِن دواوين الحديث، بما أغنى عن إعادتِه.
وأمَّا توصيفي لهذا البحث بأنَّه «دراسة نقديَّة» :
فأمَّا النَّقد في اللُّغة: فيُقال: نَقَدْتُ الدَّراهم وانْتَقَدْتُها، إذا مَيَّزتُ جَيِّدَها مِن رَدِيئِها
(1)
؛ وعلى هذا المَعنى جَرَى عَمَلي في هذا البحث، بحيث أنِّي أدرسُ الأصولَ والأقوالَ المُعاصرةَ القاضِيةَ على متونِ أحاديث «الصَّحيحين» بالإبطال، فأُبينُ عن الجَيِّدِ المَقبولِ منها على أصولِ أهل العلمِ ومَناهجِهم القويمةِ، وأُفرِزُ الزَّائفَ الواهِيَ منها بدَليلِه.
فليس البحثُ قائمًا على مُجرَّدِ دفعِ المُعارضات عن المَرويَّاتِ مطلقًا، بل إنِّي أُقِرُّ بعضها إذا بانَت لي وجاهتها، وإن كان ذا قليلًا في هذا البحث.
وبالله التَّوفيق.
(1)
انظر «مقاييس اللغة» لابن فارس (5/ 467)، و «تاج العروس» للزبيدي (9/ 230).