الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرَّابع
تأثير الفكرِ الاعتزاليِّ في الفِرق الكلاميَّة
قريبًا مِن هذا المَسلكِ الغالي في العَقليَّات، مَشَى كثيرٌ من الأشاعرةِ المُتأخِّرين، وإن كانوا هم ألصَقَ بالنُّصوصِ الشَّرعيَّة مِن أولئك، وأشَدَّ تَعظيمًا لها، وأتبَعَ لمنهجِ السَّلف الصَّالحين؛ أذكرُ منهم أبا حامِدٍ الغزاليِّ (ت 505 هـ)
(1)
، هذا العَلَمُ الكبير -وإن كان مُناوِئًا لأهلِ الاعتزالِ في جُملةِ تَقريراتِهم- إلَّا أنَّ له مِن التَّأصيلاتِ في باب العقائد ما يُوافق نظرَتهم إلى الدَّلائل النَّقليَّة، فيردُّ أكثر أحاديث الصِّفات لإيهامها التَّشبيه في حقِّ الله تعالى.
(2)
.
(1)
محمد بن محمد بن محمد الغَزَالي الطُّوسي: المُلقَّب بحُجَّة الإسلام، فيلسوف متصوف، ومن كبار فقهاء الشَّافعيَّة، وأذكياء العالم، له نحو مئتى مُصنَّف، مِن أشهرها «إحياء علوم الدين» ، انظر «أعلام النبلاء» (19/ 332).
(2)
«الاقتصاد في الاعتقاد» لأبي حامد الغزالي (ص/116).
وقبله شيخُه أبو المَعالي الجُوَينيُّ (ت 478 هـ)
(1)
وهو عَمودُ الأشعريَّةِ الكُلَّابيَّة، كان «مع فرطِ ذكائِه، وإمامتِه في الفروعِ وأصولِ المذهب، وقوِّةِ مُناظرتِه، لا يدري الحديثَ كما يَليقُ به، لا مَتنًا ولا إسنادًا»
(2)
، وقد ورث مقالةَ عبد الجبَّار في كلامِه على بعضِ الصِّفات الإلهيَّة، فيدفعُ بها في نحرِ الصِّحاحِ من الأخبار، ويتكَلَّف في إيجادِ مَنفذٍ في طرائِق نَقْلِها ليَصِل مِن خلالِها إلى تضعيفِها، فإذا أصابه الذُّهول مِن متانةِ دعائم تلك النُّقول، تكلَّف بكلامٍ في علم الحديث لو أحجَم عنه بادئ الأمر كانَ خيرًا له.
من ذلك -مثلًا- قولُه في حديث النُّزول المَشهور
(3)
(4)
.
وهكذا ترى الجُوينيَّ يَستميتُ في منعِ كونِ الرُّسولِ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بمثلِ هذا الحديث وهو مَقطوعِ بصحَّتِه عند أهل النَّقد، ولو بأضعفِ الأدلَّة، بل أجاز الإضرابَ عن الصِّحاحِ مِن الأحاديثِ في باب العقائد، لكونِها مِن قَبيل الآحاد، كما تفعلُ المُعتزلة تمامًا، ترى شيئًا من ذلك في مَعرض ردِّه على مَن سَمَّاهم
(1)
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجُوَيْني، أبو المعالي: الملقَّب بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعيِّ، بنى له الوزير (نظام الملك) المدرسة النِّظامية، فدرَّس فيها، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء، له مصنفات كثيرة، منها «غياث الأمم والتياث الظلم» و «العقيدة النظامية» و «نهاية المطلب في دراية المذهب» في فقه الشَّافعية، انظر «أعلام النبلاء» (18/ 468).
(2)
«سير أعلام النبلاء» (18/ 471).
(3)
وهو ما اتَّفق عليه البخاري (رقم: 1145) ومسلم (رقم: 758) واللفظ له، من حديث أبي هريرة مرفوعا:«ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟» .
(4)
«الشَّامل» للجويني (ص/557 - 558).
بـ «الحَشويَّة» ، حيث قال:«أمَّا الصِّفات الَّتي يتمسَّكون بها، فآحادٌ لا تُفضي إلى العِلم، ولو أضربنا عن جميعِها لكانَ سائِغًا»
(1)
!
أمَّا الفخر الرَّازي (ت 606 هـ)، فغايةٌ لا تُسامى في ردِّ الصِّحاحِ بقانونِه العقليِّ الكُليِّ، وسيأتي الكلام عليه قريبًا في موضعه من هذا المَبحث.
ثمَّ الآمديُّ (ت 631 هـ)
(2)
قريبًا منه، نراه يسوق في إحدى كُتبِه أدلَّته على رؤيةِ الله في الجنَّة، ثمَّ يختمها بقوله:« .. وعلى الجُملة، فلَسْنا نعتمِدُ في هذه المسألةِ على غير المَسلك الَعقليِّ الَّذي أوضحناه، إذْ ما سِواه لا يخرُج عن الظَّواهر السَّمعية، والاستبصاراتِ العقليَّة، وهي ممَّا يَتقاصر عن إفادةِ القطعِ واليقينِ، فلا يُذكر إلَّا على سبيلِ التَّقريبِ واستدراجِ قانعٍ بها إلى الاعتقاد الحقيقيِّ»
(3)
.
وبهذا تعلمُ أنَّ انكماشَ المذهبِ الاعتزاليِّ، وتَقلُّصَ دعوتِه، لم يَقتضِ انحسارَ كثيرٍ مِن عَقائِده ومَبادِئه، حيث تَبنَّى بعضَها الأشاعِرةُ المُتأخِّرون كما علِمتَ، وأظهر منهم في هذا التَّبنِّي الاثنا عَشريَّة والزَّيديَّة
(4)
، حتَّى قال (جولدْزِيهر):«قد استقَرَّ الاعتزالُ في مُؤلَّفات الشِّيعةِ حتَّى يومِنا هذا، فلِذا كان مِن الخطأ الجَسيمِ -سواءٌ مِن ناحيةِ التَّاريخِ الدِّيني أو الأدَبيِّ- أن يُزعَم بأنَّه لم يبْقَ للاعتزالِ أثرٌ قائمٌ مَحسوسٌ»
(5)
.
(1)
«الإرشاد» للجويني (ص/139).
(2)
علي بن محمد بن سالم التغلبي، أبو الحسن، سيف الدين الآمدي: أصولي مُتكلِّم، أصله من آمد من (ديار بكر)، وتعلم في بغداد والشام، وانتقل إلى القاهرة، فدرَّس فيها واشتهر، له نحو عشرين مصنفا، منها «الإحكام في أصول الأحكام» ، ومُختصره «منتهى السول» ، و «أبكار الأفكار» ، انظر «الأعلام» (4/ 328).
(3)
«غاية المرام في علم الكلام» للآمدي (ص/174).
(4)
انظر «تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة» لـ د. عبد اللطيف الحفظي (ص/417)، و «أصول مذهب الشيعة» لـ د. القفاري (2/ 649).
(5)
«العقيدة والشريعة» (ص/223).
فمِثلُ هذا التَّقديمِ للعقليَّات عند تَوهُّمِ التَّعارض، تجده عند الطَّوائفِ الكلاميَّة الَّتي جاءت بعد المعتزلة، إلى يوم النَّاس هذا، يَرُومون تنزيهَ الشَّارع عن مُناقضةِ الضَّروراتِ العقليَّة فيما يَرَون، أو مُحاولةً للاتقاء بركبِ الحضارةِ الغربيَّةِ عبر قنطرَتِها، كما سيأتي عليه البيان في الآتي: