الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الخامس
أثَر الفكرِ الاعتزاليِّ في المَدارسِ العَقلانيَّةِ المُعاصرةِ
على وَفْقِ ذاك التَّقنينِ لأوَّليَّة العقل، دَرَج كُلُّ مَن جاء مِن المُتأخِّرين الطَّاعنين في صِحاح السُّنَن وفق نظرهم العقليِّ، على اختلافِ مَشارِبهم وتفاوتِ مَنازلهم في ذلك.
أمَّا نُشَّادُ الفكرِ العَقلانيِّ مِن الإسلاميِّين:
فلقد كان لهم نَصيبٌ وافرٌ مِن وَراثةِ أصولِ الاعتزالِ في نظرتهم إلى النُّصوص الشَّرعيَّة، وقد وُجِدَ مَن أطلَقَ على (جَمالٍ الأفغانيِّ) وتلميذِه (محمَّد عبده) في وقتِهما لقبَ «مُعتزلةِ العصرِ الحديث»
(1)
؛ وذلك أنَّ الثَّانيَ منهما يؤصِّلُ للإسلامِ أُصولًا، فيَعدُّ فيها الأصلَ الثَّاني مِن الأصولِ الَّتي قام عليها الإسلام، ما ذكره في قوله: « .. الأصلُ الثَّاني للإِسلام: تقديمُ العقلِ على ظاهرِ الشَّرعِ عند التَّعارض؛ .. فقد اتَّفق أهلُ المِلَّةِ الإِسلاميَّةِ
(2)
-إلَّا قليلًا ممَّن لا يُنظَر إليه- على أنَّه إذا تعارَض العقلُ والنَّقل، أُخِذَ بما دَلَّ عليه العقلُ، وبقي في النَّقل طَريقان:
(1)
ذكره الأستاذ أنور الجندي كما في «تجديد الفكر الإسلامي» لـ د. جمال سلطان (ص/35).
(2)
في حكايةِ هذا الاتِّفاقِ نَظَرٌ؛ وهو في الحقيقة إنَّما عَنَى حكايةَ اتِّفاقَ جملةِ طوائف المُتكلِّمين، وهؤلاء ليسوا جميع أهل المِلَّة، ثمَّ إنَّ اتِّفاق المتكلِّمين على خصوص هذه مَسألة، لا يعتدُّ به، مادام خارقًا لاتِّفاقِ أئمَّة السَّلَف.
طريقُ التِّسليمِ بصحَّةِ المنقولِ، مع الاعترافِ بالعجزِ عن فَهْمِهِ، وتفويضِ الأمرِ إلى الله في علمِه.
والطَّريق الثَّانيةُ: تأويلُ النَّقلِ، مع المُحافظةِ على قوانين اللُّغَةِ، حتَّى يتَّفِقُ مَعناهُ مع ما أثْبتَه العقلُ.
وبهذا الأصلِ الَّذي قام على الكتابِ وصحيحِ السُّنَّةِ، وعَمَلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، مُهِّدَت بين يَدَيْ العقلِ كلُّ سبيل، وأُزيلَت مِن سبيلِه جميعُ العَقبات»
(1)
.
وفي تقريرِ هذه النَّزعة العقلانيَّةِ لعمومِ رُوَّادِ هذه المَدرسة الإصلاحيَّة الحديثة، يقول محمَّد حمزة
(2)
: «إنَّ النَّزعةَ العَقليَّة الَّتي تحمَّس لها مُفكِّرون عديدون، كمحمَّد عبدُه، وعلي عبد الرزَّاق، وأحمد أمين، ومحمود أبو ريَّة، وَجَدَت في مَبادئِ المُعتزلة ونزعَتِها العقليَّة تعبيرًا صادقًا عن طموحاتِها، فكان الاحتفاءُ بمَبادئها -وخاصَّةً في فترةِ ما بين الحَرْبين- استعادةً جديدةً ومُحاولةَ إحياءِ العقلانيَّةِ العربيَّةِ القديمة ..
ومثلما وَجَدَ هؤلاء المُفكِّرون في مَبادئ المعتزلة ما يَتناغم مع دعوتِهم التَّحديثيَّة، فإنَّ موقفَ المُعتزلة مِن الأدلَّة النَّقليَّة عمومًا، والحديثِ النَّبويِّ بصفةٍ أخص، كان مِمَّا يُلائم أفكارَهم»
(3)
.
ثمَّ جاء من بعدِ هؤلاء مَن أشادَ بمناهجِ المُعتزلة صراحةً، وأثنى على جُملةٍ مِن هَرطقاتِهم، كما تراه عند (جمال البنَّا) من جعلِه العقلَ هو الأصلَ الأوَّل للشَّريعة
(4)
! وعلى هذا المَبدأ نفسِه سَمَّى (سامر إسلامبولي) نقدَه للصَّحيحين بـ «تحريرِ العقل مِن النَّقل» .
(1)
«الأعمال الكاملة للشَّيخ محمد عبده» لمحمَّد عمارة (3/ 301).
(2)
محمد حمزة: باحث تونسي حَداثيٌّ، أستاذ محاضر في الجامعة التونسيَّة، مختصٌّ في قضايا الفكر الإسلاميِّ، له عدة مؤلفات، من أشهرها:«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» .
(3)
«الحديث النَّبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» (ص/334).
(4)
«السنة ودورها في الفقه الجديد» لجمال البنا (ص/155، 174).
وكان (إسماعيل الكُرديُّ) شديدَ الحَفاوةِ بجُهدِ المُعتزلةِ في نقدِ متونِ الصِّحاحِ، وبهذا الأصلِ العقليِّ الَّذي أصَّلوه
(1)
.
بل إنَّ من شاكلةِ هؤلاء مَن تَحسَّر على اندثارِ مَذهبِهم، وتمنَّى لو بَسَط الاعتزالُ سُلطَته على النَّاس مرَّةً أخرى كما كان ردحًا من زمنِ العَبَّاسيِّين! كما تلمسُه مِن تحسُّر (محمَّد شحرور) في قولِه:«تيارُ العقلِ قد تَمثَّل في المُعتزلة، حيث أنَّ الإسلامَ عندهم تفاعَلَ مع مُعطياتِ العصرِ وتحدِّياته، وأنتج فكرًا نيِّرًا حُرًّا نقديًّا، وقد انتهَت المعركةُ مع الأسَفِ بانتصارِ التَّيار الأوَّل -يعني أهلَ السُّنة-، وما زِلنا نَعيشُ مَآسِيها حتَّى يومنا هذا»
(2)
.
فمثلُ هذه الأقلامِ المُتعاطفةِ مع المُعتزلةِ ما أكثرها في أهلِ زماننا، تجدها ظاهرةً في كتاباتِ (أحمد أمين)
(3)
، و (أمين الخولي)
(4)
، و (أحمد محمَّد صبحي)، و (زكي نجيب محمود)
(5)
(6)
، و (جعفر السُّبحاني)
(7)
، و (محمَّد شحرور)
(8)
، وغيرهم كثير.
(1)
«نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث» (ص/44، 171).
(2)
«الكتاب والقرآن» لشحرور (ص/569، 586).
(3)
أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ: عالم بالأدب، غزير الاطلاع على التَّاريخ، من كبار الكتاب المصريِّين، قرأ مدة قصيرة في الأزهر، وتخرج بمدرسة القضاء الشرعي، ودرَّس بها، ثمَّ تولى القضاء ببعض المحاكم الشرعيَّة، ثم عيِّن مُدرسًا بكلية الآداب بالجامعة المصريَّة، مِن مُؤلفاته: سلسلته في تاريخ الأفكار في الإسلام «فجر الإسلام» ، و «ضحى الإسلام» ، و «ظهر الإسلام» ، توفي (1373 هـ)، انظر «الأعلام» (1/ 101).
(4)
أمين الخولي: مِن أعضاء المجمع اللُّغوي بمصر، تعلم بالأزهر، وتخرج بمدرسة القضاء الشَّرعي، وعُيِّن أستاذا في الجامعة المصرية، ثم مديرا للثقافة العامة بوزارة التربية والتَّعليم، من مؤلفاته:«المجد دُوِّن في الإسلام» ، و «مشكلات حياتنا اللُّغوية» ، توفي (1385 هـ)، انظر «الأعلام» (2/ 15).
(5)
زكي نجيب محمود: مفكر وفيلسوف مصريٌّ، عمل أستاذًا للفلسفة أكثر من نصف قرن في الجامعات المصرية، وعمل أستاذًا بالجامعات الأمريكية، وتولى رئاسة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» ، ألَّف وترجم كتبًا عديدة في الفلسفة والثقافة والأدب، منها:«قصة الفلسفة الحديثة» ، انظر «تكملة معجم المؤلفين» (ص/195).
(6)
انظر مقولات من مضى ذكرهم في «الاتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر الشام» لـ د. محمد عبد الرزاق أسود (ص/469).
(7)
انظر «بحوث في الملل والنحل» لجعفر السُّبحاني (3/ 170). مؤسسة النشر الإسلامي.
(8)
انظر كتابه «الكتاب والقرآن» (ص/569، 586).
يقولُ عادلٍ العَوَّا
(1)
(2)
.
وأمَّا غُلاةُ العَقلانيِّين -مُمَثَّلين بالتَّيارِ العَلمانيِّ الحادِّ-:
فهؤلاء لا يعتَبِرون بمَعرفةٍ سِوى ما كان مُحصَّلًا مِن طريق العقل
(3)
، شعارهم «العقلُ أوَّلًا، والنَّصُّ ثانيًا»
(4)
، بعد أن اِلْتَحَف رُوَّاد هذا التَّيَّار العَرَبُ بدِثار الاعتزالِ، مُنبهِرين بما عند مَشايِخه القُدامى مِن دُربةٍ قديمةٍ على كبحِ جِماح المَدِّ السُّنِّي، وخَدشٍ للأصولِ السُّنيَّة بمَخالِبِ التَّمَعقُل؛ على ما في كِلا الطَّائفتين -الاعتزاليَّة والعَلمانيَّة- مِن رموزٍ تنصهِرُ في قدرٍ مُشتركٍ خَطيرٍ، مُتمثِّلٍ في إحلالِ الشَّرائعِ العَقليَّة، مكانَ التَّشريعاتِ النَّبويَّة
(5)
.
فلأجلِ ما عند المُعتزلةِ مِن تقديسٍ مُفرطٍ للعقلِ، قد أشادَ مثلُ (حمَّادي ذُوَيب)
(6)
بشَجاعة رؤوسِهم القُدامى في تَقديمِ العقليَّاتِ على النَّص عند التَّعارض رغمَ أنوفِ أهلِ الحديثِ! ودَعا إلى اقتفاءِ أثَرهِم في استخدامِ منهجِ المُلاحظة والشَّكِّ في كلِّ شيءٍ، حتَّى في الأمورِ الدِّينيَّة!
(1)
عادل العوَّا: فيلسوف سُوري، درس في جامعة السُّوربون بفرنسا، وترأس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة دمشق، له عدة مؤلفات، منها:«المذاهب الأخلاقية» ، و «الفكر الانتقادي لجماعة إخوان الصَّفا» ، توفي (1422 هـ).
(2)
«المعتزلة والفكر الحر» لعادل العوا (ص/378).
(3)
انظر «الأسس الفلسفيَّة للعلمانيَّة» لعادل ضاهر (ص/363)، وكتابَه الآخر «أوَّلية العقل» (ص/156).
(4)
«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» لمحمد حمزة (ص/335).
(5)
نَسَب الشِّهرستاني هذا في «الملل والنِّحل» (1/ 81) إلى رأسي الاعتزال: الجُبَّائي، وابنِه أبي هشام.
(6)
باحث تونسي حَداثيٌّ، يعمل أستاذًا محاضرًا بقسم العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس بتونس، حاصل على الدكتوراه عن رسالته «جدل أصول الفقه والواقع» ، من مؤلفاته:«مراجعة نقدية الإجماع بين النظرية والتطبيق» ، و «السنة بين الأصول والتاريخ» .
(1)
.
والَّذي يَغلِبُ على ظنِّي بعد مُطالعَتي لكثيرٍ مِن كتاباتِ العَلمانيِّين في هذا الباب، وتأمُّل خطاباتِهم في الإعلام:
أنَّ انخراطَهم في هذا المَسْلكِ العَقَديِّ المُحتَذي لمذهبِ الاعتزال، لم يكُن أبدًا عن قناعةٍ تامَّةٍ بأصولِ هذا المذهب الكَلاميِّ في الاستدلالِ؛ وإلَّا لَكانوا أخَذوا أيضًا بأصلِهم الخامس في «الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكر» ! ومَعلومٌ للكلِّ من حالِهم أنَّهم أكثرُ النَّاسِ اشمِئزازًا ونفورًا مِن هذه الشَّعيرة!
ولكنَّ انتهاجَ هؤلاء العَلمانيِّين المُعاصرين لمَقالاتِ المُعتزلةِ، إنَّما هو انتهاجٌ نَفعيٌّ مُؤَدْلجٌ، يُمارِسونَه -على وجِه الاضطرارِ المُؤقَّتِ- على التُّراثِ الإسلاميِّ بمُختلَفِ مُكوِّناتِه.
فالمُستغرِبون الَّذين يرفعون رايةَ الدَّعوة إلى التَّمرُّد على السُّنةِ وتَجاوز نصوصها، وإن أظهروا الإشادةَ بالتيَّار الاعتزاليِّ في عقلانيَّته، «إلَّا أنَّهم -في حقيقةِ الأمرِ- أَظهروا هذه الإشادةَ ليستَتِروا خلفَ هذا الأنموذجِ، ويُظهِروا لمِن لا يَعرِفُ حقيقةَ مَقاصدِهم، أنَّهم إِنَّما يستلَهِمون مِن ذاتِ التَّاريخ الإسلاميِّ وما نَشَأ فيه مِن حَرَكاتٍ وفِرَقٍ ما زَعَموا أنَّه نواةٌ للإبداعِ والتَّحديث، فيُخفوا بهذا الاحتفاءِ الأنموذَجَ الحَقيقيَّ الَّذي وَقعَوا في تَبَعيَّتِه واجترارِ رِجْسِه وآفاتِه»
(2)
، وهذا الكامنُ في أُنْموذج الفكرِ الغَربيِّ الوَثنيِّ بتمامِه.
هذه حقيقةٌ لم يستطِع حتَّى كبارُهم التَّستُّر عليها؛ فهذا (نَصر أبو زيد)
(3)
يُفشيها بقولِه: «لا يَعني إحياؤُنا للاعتزالِ أنَّنا نقبلُ مواقفَ المعتزلة كلِّها ..
(1)
«السنة بين الأصول والتاريخ» (ص/211).
(2)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/30).
(3)
نصر حامد أبو زيد: باحث أكاديمي مصري، متخصص في نقد التراث الإسلامي واللغة العربية، وعندما قدم أبحاثه للحصول على درجة أستاذ، اتهمَّته لجنة التَّحكيم بالكفر، فخرج بعدها من مصر، ثم رجع إليها بعد سنين، ومات سنة (2010 م)، انظر ترجمته في «أعلام الفكر العربي» للسيد ولد أباه (ص/200).
فتأيِيدُنا للمُعتزلةِ للتِّيارِ العَامِّ وللحركةِ التَّاريخيَّة، وليس للتَّفصيلاتِ الجُزئيَّة في هذه النَّظرة أو تلك»
(1)
.
وذاك (أَدُونيس)
(2)
، مع إعلائه هو أيضًا مِن شأنِ الانحرافِ الاعتزاليِّ -لمِا يراه مِن انعتاقِهم نِسْبيًّا مِن سُلطةِ الوحيِ- يُؤكِّدَ على أنَّ هؤلاء: لا يُمثِّلون الأنموذجَ المُرتضَى الَّذي يُنْسَجُ على مِنوالِه، إذْ يَبقى أنَّه عَقلٌ وليدُ التَّديُّنِ لا التَّساؤلِ، فهو -بحسبِ كلامِه- ابنُ الله والوَحي!
(3)
فلذلك أستطيع القولَ:
أنِّي مع كلِّ هذا الَّذي سَرَدتُ مِن تمثُّلاتِ هذا الاتِّجاهِ في المُعاصرين -ومَن تركتُ ذكرَهم أكثرُ- لا أعلَمُ جماعةً مُعاصِرةً التزَمَت مذهبَ المُعتزلةِ طولَ الخطِّ، كأنْ تُوافِقهم في أصولهِم الخمسةِ بتمَامِها، أو تَتَبنَّى أرائَهم التَّفصيليَّة في سائرِ القَضايا
(4)
.
إنَّما تَنصَبُّ المُوافقة للمُعتزلةِ -غالبًا- على بعضٍ مِن أصولِهم المَنهجيَّة لا كُلِّها، مثل: وظيفةِ العقل، وتقديمِه على النَّقلِ، وتأويلِ النُّصوصِ الشَّرعيَّة على خلافِ ما عليه السَّلَف، واعتقادِ ظنيَّة الآحادِ مُطلقًا، وعدمِ الاعتدادِ بها في العَقائد، وفكرةِ الحُريَّة الإنسانيَّة، وما أشبهَ ذلك مِن المَسائل الَّتي اشتُهِروا بها.
هذا؛ والمُعتزلة لأدْيَنُ عندي وأتقى وأعلمُ بكثيرٍ مِمَّن يَزعُم الانتسابَ إليهم مِن عَقْلانِّيِي هذا العصر!
(1)
«نقد الخطاب الدِّيني» لنصر أبو زيد (ص/181).
(2)
علي أحمد سعيد إسبِر، المعروف باسمِه المُستعار: أدونيس، شاعر وكاتب سوريٌّ، تخرج من جامعة دمشق في الفلسفة، ودرَّس في الجامعة اللبنانية، وأثارت أطروحته «الثابت والمتحول» سخطًا كبيرًا عليه، وتلقَّى على إثرها عديدًا من الجوائز العالميَّة، انظر ترجمته في «أدونيس كما يراه مفكرون وشعراء عالميون» دار الطليعة - بيروت، 2011 م.
(3)
«الثابت والمتحول» لأدونيس (1/ 126 - 127).
(4)
انظر «مناهج الاستدلال على مسائل العقيدة الإسلامية بمصر في العصر الحديث» لأحمد قوشتي (ص/79 - 81).
فإنَّ المُعتزلةَ يَحتجُّون بالسُّنةِ في الفقهيَّاتِ
(1)
، وكثيرٍ مِن فروعِ العَقائد مِمَّا لا يتطلَّب القطعَ
(2)
؛ وأمَّا غُلاة العَقلانيِّين اليوم، فلا يُبالون بها إلَّا قليلًا.
وعامَّة المُعتزلةِ لم يُنكِروا حَدَّ الرَّجمِ
(3)
، ولا النَّسخَ في القرآن
(4)
، ولا أنكروا فرضَ الحجابِ، ولا كثيرًا مِمَّا خَرَج به علينا المُتَمَعقِلَةُ مُؤخَّرًا، ولا ارتَموا في أحضانِ الإفرنجِ كما يفعلُ هؤلاء.
والمُعتزلةُ يقولون بحُجِيَّة الإجماعِ
(5)
، استنادًا إلى عصمةِ الأمَّة والسَّلف بخاصَّة، خلافَ كثيرٍ مِن أدعياءِ العقلانيَّة اليوم، فلا يكادون يَرفعُون بذلك رأسًا في شيءٍ!
(6)
فأيُ ظلمٍ للمُعتزلةِ أكبر من أن يُنسَبَ إليهم مثلُ هؤلاءِ المُحْدَثون المُحْدِثون مِن مُراهِقي الفِكرِ وشُذَّاذِ الرَّأي؟!
وبهذا وغيره، يتبيَّن الفارق بين الطَّوائف الكلاميَّة -مِمَّن تقدَّم ذكر بعض مواقِفهم من آحادِ السُّنة- وطوائف العَلمانيِّين:
أنَّ المعتزلة ومَن نَحا منهجهم: إرادةُ تنزيهِ الشَّريعةِ عن مُناقضةِ الضَّرورة العقليَّة واقعٌ لهم بالقصدِ الأوَّل، والإلحاد في النُّصوص والجِنايةُ عليها ليس مُرادًا لهم، بل وَقَع لهم نتيجةً لانحرافِهم في التَّنظير.
وأمَّا الحَداثيُّون من العَلمانيِّين وغيرهم: فالإلحادُ في النُّصوص والجنايةُ عليها، والكُفرُ بمَصدرها، واقعٌ لهم بالقصدِ الأوَّل.
(1)
انظر «قبول الأخبار» للبلخي (1/ 17)، و «المُعتمد» لأبي الحسين (2/ 98).
(2)
انظر «اليقيني والظني من الأخبار» لحاتم العوني (ص/31 حاشية).
(3)
كما ذهب إليه رشيد رضا في «مجلة المنار» (7/ 611)، ود. مصطفى محمود في كتابه «لا رجم للزانية» ، وأبو القاسم حاج حمد في «إبستمولوجيا المعرفة الكونية» (ص/94 - 95).
(4)
كما فعل أحمد حجازي السَّقا في كتابه «لا نسخ في القرآن» .
(5)
انظر «قبول الأخبار» للبلخي (1/ 17 - 18)، و «المُعتمد» لأبي الحسين (2/ 3).
(6)
كحمَّادي ذويب في كتابه «مراجعة نقدية للإجماع» .