الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: المُسوِّغات العلمية المُتوَهَّمة عند المُعاصِرين للطَّعنِ في أحاديث الصَّحيحَيْن
ويشتمل على أربعة فصول:
* الفصل الأوَّل: دعوى الخَلل التَّوثيقي في تَصنيفِ «الصَّحيحين» وتَناقُلِهما.
* الفصل الثَّاني: دعوى أنَّ أحاديث «الصَّحيحين» لا تُفيد إلَّا الظَّن.
* الفصل الثَّالث: دعوى إغفال الشَّيخين لنقدِ المتونِ.
* الفصل الرَّابع: الاحتجاج بسَبْقِ ردِّ العلماءِ لأحاديثَ في «الصَّحيحين» .
الحمد لله، وبعد:
لمَّا تبوَّأ الصَّحيحان تلكم المكانة السَّامية عند علماء الأمَّة سَلَفًا وخلفًا بِما حازاه مِن قصبِ السَّبقِ في مراتب الصِّحة، كان ولا بُدَّ لمن أراد الاعتراض على شيءٍ فيهما أن يُدلي للنَّاسِ بمُسوِّغاتِه العلميَّةِ الَّتي استجاز بها مخالفةَ جماهير العلماء في رفض ما تلقَّوه بالقَبول فيهما.
هذه المُسوِّغات هي عامَّة الأصول الَّتي أيَّد بها الكُتَّاب المعاصرون تعليلَهم لِما أعلُّوه من متونِ «الصَّحيحين» ، وعليها ابتنوا عمَلهم النَّقديَّ لما تضمَّناه من أخبار، فإنَّهم إذا ما طعنوا في شيءٍ منها تذرَّعوا بإحدى تلك الأصول المُسوِّغات أو بكلِّها، والَّتي حصرتُها في أربعٍ
(1)
:
المُسوِّغ الأوَّل: وقوع الخَلل التَّوثيقيِّ في تَصنيفِ «الصَّحيحين» وتَناقُلِهما، فكانا عُرضة للتَّصرف فيهما والانتحال عليهما.
المُسوِّغ الثَّاني: دعواهم أنَّ أخبار «الصَّحيحين» لا تُفيد إلَّا الظَّن، فاحتمال الخطأ من رُواتها قائم، ما يعني انتفاء الحرج على مَن غلَّب جانب الخطأ أو الكذب إذا ما استنكر المتن.
المُسوِّغ الثَّالث: دعوى إغفال البخاريِّ ومسلمٍ للمتونِ في منهجهم النَّقدي للأحاديث، لتنتقل مهمَّة نقدِ المتون وتمحيصِها إلى الأجيالِ اللَّاحقة.
المُسوِّغ الأخير: سَبْقِ العلماءِ إلى نقد «الصَّحيحين» قديمًا وحديثًا، فلا حَرَج على المُحْدَثين مِن استباحة ما استباحه أسلافهم مِن تعليل بعض أخبارهما.
فعلى هذا سينصبُّ تَوجُّهي في هذا البحث على نقدِ هذه الأصول المُسوِّغات أوَّلًا قبل مناقشةِ طعونِهم الجزئيَّة على آحاد الأحاديث، حتَّى لا أدع ثغرًا ينفذون منه إلى «الصَّحيحين» إلَّا سدَدته عليهم -بإذن الله-؛ إذ كان من
(1)
لم أجعل كلامَ مَن سَوَّغ الطَّعنَ في مُتونهما لأجلِ إكفارِه الصَّحابة رضي الله عنهم أو تفسيقهم -مثلًا- مُسوِّغًا يَستحقُّ الإطنابَ في دراستِه، كما تذهب إليه عموم الشِّيعة الإماميَّة؛ فإنَّ مَن تَنجَّس بهذه البائقةِ في حقِّهم رضي الله عنهم، المناقشةُ الحقيقيَّة معه هي في أصلِ الإسلامِ وصدقِ الرِّسالة أصالةً! لا في جزئيَّاتٍ تَتَعلق بآحادِ الأخبار ومفاد متونها.
مُرتكز العمليَّة النَّقديَّة في أيِّ علمٍ كان: التَّوجهُ أوَّلًا نحو جذور الأقوال فيه بالنَّقد والدِّراسة، دون الانشغال بنقدِ مُخرجاتها من آحاد الأقوال.
فإذا كان الطَّاعنون في السُّنة يُركِّزون على الجزئيَّات لتعود على أصولِنا بالإبطال، فإنَّا -بالعكس- سنُركِّز نقدَنا في هذا البابِ على أصولِهم النَّقديَّة، لتعود على الجزئيَّات بالإبطال؛ ذلك أنَّ كلَّ شيءٍ لا تُستأصل جذوره لا يُنتفع بزوالِ فروعِه! والباطلُ المُتمكِّن إذا لم يُرفع بحقٍّ مُماثلٍ له في القوَّة، لا بُدَّ أن يعود ولو بعد حين.
وإلى عظيم فائدة هذا المنهج القويمِ في نقدِ الكُليَّاتِ والأصولِ من أفكار المُخالفين، يشير ابن تيميَّة (ت 726 هـ) بقولِه:«إنَّ معرفةَ المرضِ وسبَبَه يُعين على مُداواته وعِلاجِه، ومَن لم يعرف أسبابَ المقالاتِ وإن كانت باطلةً، لم يتمكَّن مِن مُداواة أصحابها وإزالة شُبهاتهم»
(1)
.
وقبله قال أبو حامدٍ الغزالي (ت 505 هـ): «الوقوف على فسادِ المَذاهب قبل الإحاطةِ بمَداركِها مُحالٌ، بل رميٌ في العماية والضَّلال»
(2)
.
فكان خلاف هذا المنهج من أخطرِ المَعايب المَنهجيَّة الَّتي يكثُر أن نقع فيها -نحن معاشر الباحثين- في هذه الأعصُرة المتأخِّرة، أن ننشغل بآحاد الأفكار، ونغفل عن النَّظريَّات الَّتي أفرزتها؛ أن نتلهَّى بالمُخرجات، وننسى أصولها الَّتي أنتجتها؛ أن نفتتن بما قال فلانٌ، وما قالت الطَّائفة الفلانيَّة، ولا نهتمَّ عميقًا بالسُّؤال المَنهجيِّ الجَوهريِّ: لماذا قالوا ذلك أصلًا؟!
فلذلك كان منهجي في هذا البحث نقد الأصول الَّتي يلج من خلالها الطَّاعنون للطَّعن في أحاديث «الصّحيحين» ، حتَّى إذا ما ظهر زيف ما ابتنوا عليه نقداتهم، تساقطت مع هذا الزَّيف أكثر تشغيباتهم على أفرادِ الأحاديث.
فأقول مُستعينًا بالله تعالى: