الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
تعليلُ المحدِّثين للخَبرِ إذا عارَضه ما هو أقوى
قد علِمنا قبلُ أنَّ مَدار عَملِ النُّقادِ قائم على بَيانِ الاختلافِ بين رواياتِ الحديثِ الواحدِ، فيُقارِنون مُتونَ الطُّرقِ بعضها ببعضٍ؛ فبدهيٌّ أنَّهم بهذا المنطقِ لنْ يحكموا بصحَّة الحديثِ إذا خالَفَ حديثًا آخرَ مخالفةً حقيقيَّةً رواتُه أرجح، ولا أن يقولوا: كلُّ ذلك صَحيح!
بهذا الاعتبار نرى المُحدِّثين كثيرًا ما أعلُّوا حديثَ الثِّقةِ إذا رَوَى ما يُخالف رأيَه
(1)
،
أو خِلافَ الثَّابتِ المَعروفَ مِن السُّنَنِ المَستفيضة؛ كما تراه - مثلًا- في قولِ أحمد (ت 241 هـ) في حديثِ أسماءَ بنتِ عُمَيس: «تَسَلَّبي ثلاثًا، ثمَّ افعلِي ما
(1)
ضعَّف أحمد بن حنبل وأكثر الحُفَّاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا الاعتبار، وإن كان لا يخلو هذا المسلك من نظر في بعض الأحيان، إذ قد يكون الراوي حين جاء عنه ما يخالف روايته فعَل ذلك لمعارض راجح بلغه، فترك موجِبَ روايته وعمل أو أفتى بالراجح، أو يكون لناسخٍ بلغه؛ وقد يكون نسي ما روى كما قال قتادة في فُتيا الحسن بخلاف روايته في قتل الحرِّ بالعبد.
على أنَّ الصَّحيح أن هذه الاعتبارات لا تُضعِّف اعتماد هذا المسلك، لأنَّ النُّقاد لمَّا اعتمدوه في نقد المتونِ لم يكن اعتمادهم عليه اعتمادًا كليًّا، بل نقدهم لا يخلو معه من نظر في الأسانيد، ولا يخلو إسناد لمتن منتقد بهذه العلَّة -في الغالبِ- من وجود علَّة إسناديَّة توجب ضعفه، من إرسال، أو سماع من مختلط بعد الاختلاط، أو تفرُّد ممن لا يحتمل تفرُّده، لكن الشَّاهد عندنا من إيراد هذا المثال اعتناء المحدِّثين بالنَّظر في المتون وما يعارضها أثناء العمليَّة النقديَّة.
وانظر «الفقيه والمتفقه» (1/ 370)، و «شرح علل الترمذي» (1/ 158)، و «منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث» لبشير عمر (2/ 932).
بَدَا لكِ»: إنَّه «مِن الشَّاذِ المُطَّرح» ؛ هذا مع أنَّه يُصحِّح ظاهر إسنادِه! وذلك لمخالفةِ مَتنِه عنده للأحاديثِ الصَّحيحةِ الكثيرةِ في الإحْدادِ
(1)
.
فإذا تَقرَّر هذا؛ فإنَّ مُعارضةَ الحديثِ بما هو أوسعُ دائرةً مِن جنسِه في الباب الواحد هو مِن أُسسِ عَملِ النُّقاد في حكمِهم على الحديث، فإنَّهم إذا قَدِروا على تَعليلِ خَبرٍ لمجرَّدِ مُعارضتِه لِما هو أرجحُ منه وأشهر، مع كونِ هذا كلِّه في نِطاقِ إخباريٍّ واحد؛ فما الَّذي يَمنعُهم مِن أن يُعِلُّوا خَبَرًا يرونه مُعارضًا لقَطْعيٍّ خارجَ هذا النِّطاق، أكانَ قاطعًا قُرآنيًّا، أو تاريخيًّا، أو إجْماعيًّا .. إلخ؟!
والأصلُ في هذا ما قعَّده الشَّافعي (ت 204 هـ)، في اشتراطِ خُلُوَّ المتنِ مِن قادحٍ أو مخالفةِ الأقوى ليصحَّ الحديث، في قولِه: «لا يُستدلُّ على أكثرِ صدقِ الحديثِ وكذبِه إلَّا بصدقِ المُخبِر وكذبِه، إلَّا في الخاصِّ القليل مِن الحديث، وذلك أن يُستَدَلَّ على الصِّدقِ والكذبِ فيه:
بأن يُحدِّثَ المُحدِّث ما لا يجوز أن يكون مثلُه.
أو ما يخالفه ما هو أثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصِّدقِ منه»
(2)
.
وعلى مِنوالِ هذا التَّقعيدِ جَرت صياغةُ ابن أبي حاتم الرَّازي (ت 327 هـ) لقاعدتِه الَّتي أسَّسَ عليها المعيار العلميِّ لتعليل الأخبار، حيث قال:«يُقاس صحَّة الحديث بعدالةِ ناقِليه، وأن يكون كلامًا يصلُح أن يكون مِن كلام النُّبوة»
(3)
.
فقولُه: «يصلُح أن يكون مِن كلام النُّبوة» جمع به الأصلين الَّذَين أشارَ إليهما الشَّافعي في كلامِه، فإنَّ أيَّ حديثٍ يَستحيلُ أن يكون مثلُه، أو يخالفُه ما هو أثبتُ وأكثر دلالاتٍ بالصِّدق منه: لا يصلُح أن يكون مِن كلامِ النُّبوة.
(1)
انظر أمثلةً لهذا النَّوع مِن الإعلال في شرح ابن رجب لـ «علل الترمذي» (2/ 624 - 625).
(2)
«الرسالة» (ص/399).
(3)
«الجرح والتعديل» (1/ 351).