الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
شيخ الشَّريعة الأصبهاني (ت 1339 هـ)
وكتابه «القول الصُّراح في البخاريِّ وصَحيحه الجامع»
(1)
يُعتبر كتاب (شيخ الشَّريعةِ)
(2)
هذا بمثابةِ القاعدةِ التَّأصيليَّة النَّموذجيَّة لمِن جاء بعده مِن الإماميَّة المُعاصرين في مُعارَضةِ السُّنة، ونقدِ مُصنَّفات أهل الحديث، وهو أعظمُ شبهةً مِن سَلَفِه «تحيَّة القارِي» لعليٍّ عزّ الدِّين -وقد تقدَّمَ ذكرُه
(3)
- وأوسعُ منه في إيراد الإشكالاتِ بدَرجاتٍ، غير أنه ماتَ قبل إتمامِه
(4)
.
وأغلبُ مَن أتى بعده مِن أهل مِلَّتِه إنَّما يُحيلون إلى كتابِه هذا دون كتاب عليِّ عزِّ الدين استغناءً عنه به
(5)
.
(1)
ذكر جعفر السُّبحاني مقدِّم الكتاب (ص/10) أنَّ المؤلِّف لم يضع لكتابه عنوانًا، فسمَّاه تلميذه: آقا برزك الطهرانيُّ (ت 1389 هـ): «القول الصُّراح في نقد الصِّحاح» ، لكنَّه طُبع بعد ذلك باسم «القول الصُّراح في البخاريِّ وصحيحه الجامع» .
(2)
فتح الله بن محمد جواد الأصفهاني: فقيه إمامي، من كبار المشاركين في ثورة العراق الأولى على الإنكليز، أصله من شيراز، ومنشأه بأصبهان، تفقه وقرأ فيها العربية، وانتقل إلى النجف فانتهت إليه رياسة علمائها، انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 135).
(3)
في (1/ 148).
(4)
انظر «الحديث النبوي بين الرواية والدراية» للسُّبحاني (ص/72).
(5)
انظر «موقف الإمامية من أحاديث العقيدة» لفيحان الحربي (ص/100).
وقد تَنَّوعت مَطاعنُ (شيخِ الشَّريعةِ) في البخاريِّ و «جامعِه الصَّحيح» وتَباينت شُبهاته حوله حسبَ ترتيب أبوابِ كتابِه، حيث قسَّمَ مَوضوعاتِه إلى ثلاثةِ فصولٍ:
خصَّص الفصل الأوَّل: لإلزامِ البخاريِّ بأحاديث أغفلَها في فضائل عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذه أغلبُها لا ترتقي أصلًا إلى شرطِ البخاريِّ في الصِّحة، مثل حديث:«إنِّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهما أعظمُ مِن الآخر .. »
(1)
.
أو يلزمه بما هو ساقط الإسناد مِن الأساسِ! كحديث: «عليٌّ بابُ حِطَّةٌ، مَن دَخل منه كان مؤمنًا، ومَن خَرَج منه كان كافرًا»
(2)
!
أو يُلزِمه برَاوٍ مِن أهلِ البيتِ أهملَ ذِكرَه، أشهرهم جعفر الصَّادق، وذلك ليُثبت ما يدَّعيه مِن إضمارِ البخاريِّ لعداوةٍ لآلٍ البيتِ، فيسهُل عليه إسقاط اعتبارِ «صحيحِه» من قلب المُتشيِّع.
ولقد حَشا المؤلِّف فصلَه الأوَّل هذا بتهويلاتٍ كثيرةٍ، ودعاوي هائلةٍ، يستدعي بها قلَقَ القارئ، مِنها -مثلًا-: دعواه أنَّ شرطَ حُبِّ آلِ البيتِ الامتناعُ عن نقدِ أفرادهم بالمرَّة!
(3)
وتحذيرُه مَن خَطَّأ فاطمةَ عليها السلام في طَلبِها الميراثَ بالكُفر
(4)
.
لكن ليتَه بقِي على هذا النَّفَسِ التَّكفيريِّ فلم يزِد عليه قُبحَ التَّدليسِ والفِرى! كنِسبتِه تصحيحَ بعض الأخبار الباطلة إلى أئمَّة السُّنة وهم من ذلك براء
(5)
،
(1)
أخرجه الترمذي (5/ 663، برقم:3788)، وقال: حسن غريب.
(2)
أورده الدَّيلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (3/ 64)، وقال الذَّهبي:«هذا باطل، حسين الأشقر -راوي الحديث- واهٍ، قال البخاري: فيه نَظر» ، انظر «لسان الميزان» (1/ 531).
(3)
انظر «القول الصُّراح» (ص/52).
(4)
انظر «القول الصُّراح» (ص/57).
(5)
كقوله (ص/26): « .. وما تواتر في كتب الفريقين، من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نَجا، ومن تخلَّف عنها هلَك» ؛ وهذا الحديث لا يُعرف له إسناد صحيح، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، كما بيَّنه الذهبي في «المنتقى» (ص/476).
وتعريجِه على سيرةِ البخاريِّ بما لا يخلو مِن لمزٍ في شخصِه، وطعنٍ في عَقيدتِه، والكذب عليه بنسبةِ القولِ بخلقِ القرآن إليه
(1)
.
وأمَّا الفصل الثَّاني: فانتقى فيه ثلاثَ عشرة روايةً مِن «الجامع الصَّحيح» ، ادَّعى أنَّها كذب، أكثرها مُتعلِّق بمقامِ النُّبوة، لم يُخلِها مِن ثلبِ بعضِ الصَّحابة، حتَّى فارَ فائِرُه فيها على ابن تيميَّة لنُصرته السُّنة ونقَلتها.
وقد أكثر المؤلِّف في هذا الفصلِ النَّقلَ عن كُتب أهلِ السُّنة وشروحِهم للأحاديث، إيغالًا منه في تثبيت شُبَهِه في قلب المُغفَّل، بعضها مَحضُ تلبيسٍ وقلبٌ للحَقائقِ، ما يلبثُ القارئ اللَّبيب أن تنكشِفَ له عند استبراءِ مَراجِعه الَّتي يُحيل إليها، لتُظهر كذبَه في الإحالات.
وبعضُها الآخر: الإشكالُ واقعٌ منه -بادئَ الأمر- حقيقةً، لكنْ لا يُحتاج في كشفهِ إلَّا إلى سِعة اطِّلاعٍ مِن القارئ على الرِّوايات، مع حُسنِ استعمالٍ لعلومِ الآلةِ حتَّى تتفكَّكَ الشُّبهة وتندحِضَ تِباعًا، وأهل الحديثِ قد أدَّوا ما عليهم في هذا الباب على أكملِ وجه.
مثال ذلك في هذا الفصل: ما أخرجه البخاريُّ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ الله»
(2)
.
فقال (شيخ الشَّريعة) مُتعقِّبًا إيَّاه: «هذا الخبر مَرويٌّ عن عائشة -أيضًا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عَدَّه ابنُ الجوزي في «الموضوعات» ، وأدرجها في الأحاديثِ الموضوعةِ والرِّواياتِ المَكذوبة!
قال: روى عمرو بن المخرم البصريُّ، عن ثابت الحفَّار، عن ابن مليكة
(3)
، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسبِ المُعلِّمين، فقال:«إنَّ أحقَّ ما أُخِذ عليه الأجرُ كتابُ الله» . قال ابن عَدي: لِعمرٍو أحاديث
(1)
انظر «القول الصُّراح» (ص/73).
(2)
أخرجه البخاري (ك: الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، رقم:5737).
(3)
كذا في كتاب الأصبهانيِّ، والصَّواب: ابن أبي مليكة.
مَناكير، وثابتٌ لا يُعرَف، والحديثُ منكرٌ، وفي الميزان: ثابت الحفَّار عن أبي مليكة بخبرٍ مُنكر»
(1)
.
كذا قال؛ وعند الرُّجوعِ بالحديث إلى مَظانِّه الأصليَّة، نجدُ أنَّ البخاريَّ أورَدَه ضمنَ «كتاب الطِّب» ، في باب «الشَّرط في الرُّقية بقطيع من الغنم» ، مِن حديث ابن عبَّاس في سياقٍ آخر! يقول فيه: أنَّ نفرًا مِن أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بماءٍ، فيهم لَديغ أو سَليم، فعَرَض لهم رجلٌ مِن أهلِ الماء، فقال: هل فيكم مِن راقٍ؟ إنَّ في الماء رجلًا لَديغًا أو سليمًا، فانطلقَ رجلٌ منهم، فقرأَ بفاتحةِ الكتابِ على شَاءٍ، فبَرَأ! فجاءَ بالشَّاءِ إلى أصحابِه، فكرِهوا ذلك، وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجرًا! حتَّى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذَ على كتابِ الله أجرًا، فقال رسول الله
…
» الحديث.
بينما الَّذي أورده ابن عديٍّ
(2)
-وعنه ابنُ الجوزي
(3)
- هو حديثٌ آخر لعائشة، لا علاقة له بحديث ابنِ عبَّاس في البخاريِّ! ففيه سؤالها إيَّاه صلى الله عليه وسلم عن كسبِ المُعلِّمين.
ورجالُ سَندِ البخاريِّ غير رجالِ ابن عَديٍّ
(4)
، وليس في رجالِ البخاريِّ مَن يُتَّهم، ولذلك عَمَّى (شيح الشَّريعة) على قُرَّائه إسنادَ البخاريِّ ومتنَ حديثِه كاملًا، كي لا يُلحظَ هذا التَّباين! وقد جنى بسوءِ قصدِه هذا على نفسِه، ولم يضُرَّ البخاريَّ بشيء.
وأمَّا الفصل الثَّالث: فليسَ فيه مِمَّا يَستدعي النَّظر، غير قدحِه في دينِ خمسةٍ مِن الصَّحب الكِرامِ والتَّنقيص من حِفظهِم، وهم: أبو هريرة، وأبو موسى
(1)
انظر «القول الصُّراح» (ص/154).
(2)
أخرجه ابن عدي في «الكامل في ضعفاء الرجال» (6/ 262).
(3)
«الموضوعات» لابن الجوزي (1/ 229).
(4)
لا يشترك السَّندان إلا في ابن أبي مليكة.
الأشعري، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزُّبير، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، مُجاهرًا بسَبِّهم وإعلانِ رِدَّتهم، والتَّشنيعِ على البخاريِّ حيث أخرجَ عنهم
(1)
، بما لا جديدَ فيه غير ترديدِ شُبهاتِ أسلافِه المُنحرفةِ عن السَّلف الصَّالحين.
(1)
انظر «القول الصُّراح» (ص/35 - 46).