الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
إعلالُ الشَّيخين للحديثِ إذا خالفَ متنُه
الصَّحيح المشهورَ مِن سُنَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم
وهذا النَّوع مِن التَّعليل من أكثرِ ما يستعمله الشَّيخان في نقدِ المتون، وقد رَدَّ النُّقادُ كثيرًا مِن الأحاديث بهذه العِلَّة
(1)
.
فمِن أوضحِ أمثلتِه عند البخاريِّ:
ما أخرجه
(2)
عن عبد الله بن مالك اليحصُبي، عن عقبة بن عامر:
أنَّ أختَه نَذَرت أن تحُجَّ ماشيةً، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم:(لِتحُجَّ)، وقال بعضهم:(ولتُهدي»)، قال البخاريُّ:«ولا يصحُّ فيه الهَديُ، لقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَن نَذَر أنْ يَعصي الله فلا يَعصِه» اهـ.
يشير البخاريُّ في هذا النَّص إلى حديثِ عقبة بن عامر في شأنِ أختِه الَّتي نَذَرت أن تذهبَ إلى الكعبة راجِلةً، وقد اختلَفَت الرَّوايات في جوابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم له، وأغلبُها مَدارها على عِكرمة، ورُواتها ثقات، فمنها: ما فيه أمرها بالرُّكوب والصَّوم ثلاثة أيَّام، ومنها: ما فيه الرُّكوب والهدي، والرِّواية الَّتي اختارها الشَّيخان في «صحيحيهما» تقتصرُ على الأمرِ بالرُّكوب فقط، دون إلزامٍ بكفَّارة
(3)
.
(1)
كالإمام أحمد وأبي حاتم الرازي، انظر «منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث» (2/ 934).
(2)
في «التَّاريخ الكبير» (5/ 204).
(3)
انظر تخريج هذه الرِّوايات في «فتح الغفَّار» للرُّباعي (4/ 2040)، و «إرواء الغليل» للألباني (8/ 218).
ولِذا اختارَ البخاريُّ لهذا الحديثِ في «صحيحه»
(1)
إسنادًا آخر إلى عقبة رضي الله عنه ليس فيه عكرمة، ولفظ متنِه فيه:«لتَمشِ ولتركبْ» ، لأجل أن يُوافق المشهورَ من سُنَتِّه صلى الله عليه وسلم في أحاديث خرَّجها هو نفسه في «صحيحه»
(2)
، والَّتي تخلو من ذكر كفَّارةٍ على النَّاذِر، لا بصيامٍ ولا هدي.
وهنا نلحظ أنَّ البخاريَّ لم يسلُك في هذا المثالِ ما سَلكه بعض العلماء من طريقة التَّوفيق بين هذه الرِّوايات
(3)
؛ فليس هو مِمَّن يقنع بهذا المنهج المُتكلَّف، وإنَّما يأخذ بالرِّواياتِ المَشهورة الثَّابتة، ويردُّ ما عَداها ولو كانت بأسانيدِ جيِّدةً في ظاهرِها، إذ الأخذُ بالأصحِّ في مثل هذه الحالات أوْلى عنده مِن تعسُّفِ التَّأويلات
(4)
.
فكان من حصيفِ تَعاملِ الشَّيخينِ مع الأخبارِ، أنَّ الحديثَ الضَّعيفَ لا يَلتفِتانِ إليه ولا يُعارِضان به الصَّحيحَ، ولا يشتغلانِ بتأويلِه، ما داما يَريانِ في إسنادِه خَلَلًا
(5)
.
(1)
في (ك: الحج، باب: من نذر المشي إلى الكعبة، رقم: 1866).
(2)
أوردها في (ك: الأيمان والنذور، باب: النذر في ما لا يملك وفي معصية).
(3)
كما تراه عند الطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (5/ 399) قال: «إنَّه لا تضادَّ في شيء من ذلك ولا اختلاف فيه؛ لأنَّ أخت عقبة بن عامر كان في نذرها المشي إلى بيت الله لحجِّها، وكان ذلك من الطَّاعات لا من المعاصي، فوجب عليها، فلما قصُرت عنه أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما يُؤمر به من قصر في حجِّه عن شيءٍ منه، من طوافٍ محمولًا مع قدرته على المشي وهو الهدي، وكانت في نذرها بمعنى الحالفة لكشفها شعرها في مشيِها، فلم يكن منها ما حلفت عليه، لمنع الشَّريعة إيَّاها عنه، فأُمرت بالكفَّارة عنه، كما يُؤمر الحالف بالكفَّارة عن يمينه إذا حنث فيها» .
(4)
انظر أمثلة لأحاديث ظاهرها الصحة ردها الشافعي لمخالفة متونها للمشهور من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه «اختلاف الحديث - ملحق بكتابه الأم» (ص/623، 633، 634)؛ وذكر بعض الباحثين عدَّة أمثلةٍ على ذلك من ردِّ البخاريِّ لبعض ما صحَّحه غيره بهذه العلَّة، كما في رسالة دكتواره «منهج الإمام البخاري في التعليل» لـ د. أحمد عبد الله أحمد (ص/250، 255، 264، 265، 276، 283).
(5)
«منهج الإمام البخاري في التعليل» لأحمد عبد الله (ص/291).
خلافًا لمِا قد نجده في بعضِ كُتب «مختلفِ الحديث» ممَّن ينزل أصحابها عن درجةِ البخاريِّ في معرفة الحديث، حيث تكلَّفوا التَّوفيق بين بعضِ الصِّحاح والضِّعاف، كما تراه -مثلًا- في «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة، عند كلامِه على حديث «نية المرء خير من عمله» (ص/224)، و «صيام رمضان في السفر كالمفطر في الحضر» (ص/352)، وكلاهما ضعيفان.
ومثاله الآخر عند البخاريِّ:
ما رواه
(1)
مِن حديثِ حُصين بن عبد الرَّحمن، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة الأنصاري في أكلِ بعضِ الصَّحابةِ الضَّب، وفيه:«فلم يأكل صلى الله عليه وسلم ولم يَنْهَ»
(2)
.
وقد تابع حصين بن عبد الرَّحمن كلٌّ مِن: عديِّ بن ثابت، ويزيد بن أبي زِياد، عن زيد بن وهب به.
أمَّا الأعمش فخَالفهم، فرواه هو عن زيد بن وهب، عن عبد الَّرحمن بن حسنة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:«فأكفِئوها»
(3)
.
فلم يتردَّد البخاريُّ في الحكم بخطأِ الأعمش في روايتِه هذه، مع أنَّ مخرجَها غير مخرج الأولى؛ فهما بهذا حديثان مستقلَّان! فلم تمنعه إمامةُ الأعمش البخاريَّ مِن توهيمِه، مُحتجًّا فيما احتجَّ به بغلط متنِه، فقال:«وحديث ثابتٍ أصحُّ، وفي نفس الحديثِ نَظر! قال ابن عمر رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا آكله ولا أحرِّمه» ، وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه:«لو كان حرامًا لم يُؤكل في مائدة النَّبي صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
ومثاله أيضًا عند البخاريِّ:
ما ذكره البخاريُّ في ترجمة (حَشْرج بن نَباتة)
(5)
: أنَّه سمِع سَعيد بن
(1)
في «التَّاريخ الكبير» (2/ 170).
(2)
أخرجه أبو داود في «السنن» (ك: الأطعمة، باب: في أكل الضب، رقم: 3795)، والنسائي في «الصغرى» (ك: الصيد والذبائح، باب: الضب، رقم: 4320)، وابن ماجه في «السنن» (ك: الصيد، باب: الضب، رقم: 3238)
(3)
قال البخاريُّ كما في «علل الترمذي» (ص/296): «ولم يُعرف أنَّ أحدًا روى هذا غير الأعمش» .
(4)
«التاريخ الكبير» (2/ 170).
(5)
في كتابه «الضُّعفاء الصَّغير» (ص/54).
جُمهان، عن سفينة رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:«هؤلاء الخلفاء بعدي»
(1)
.
فبيَّن البخاريُّ تفرُّدَ (حشرج بن نَباتة) بهذا الحديث، وأنَّه مِن أوهامِه باستنكاره لمتنِه، ولأجله أدخلَ حشرجًا في «الضُّعفاء
(2)
(3)
.
فهذا الحديث لفظه صريحٌ في النَّص النَّبويِّ على خلافةِ أبي بكر رضي الله عنه ثمَّ صاحبيه مِن بعده، والثَّابت المعروفُ أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحًا
(4)
.
والبخاريُّ إذا أطلق «نفيَ المتابعة» على متنٍ من المتونِ، فالعادة أنَّه يريد به ردَّ الحديث
(5)
.
وأمَّا مثال هذا البابِ عند مسلم:
فما رواه
(6)
من طريق أبي معاوية محمَّد بن خازم، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أمِّ سلمة:
«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرها أن توافي معه صلاة الصُّبح يومَ النَّحر بمكَّة»
(7)
.
(1)
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 103، رقم: 4533)، وابن أبي عاصم في «السنة» (1/ 198)، والحارث في «المسند» (2/ 621 - بغية الحارث).
(2)
انظر العلل المتناهية لا بن الجوزي (1/ 210)، و «ميزان الاعتدال» للذهبي (2/ 310)، وأراد ابن حجر أن يتوسط بين تضعيف البخاري لحشرج وتوثيق أحمد وابن معين له فقال في «التقريب» (ص/169):«صدوق يهِم» .
(3)
وذكر البخاري هذا أيضا في «تاريخه الكبير» (3/ 117)، وفي «تاريخه الأوسط» (1/ 336).
(4)
كما في «صحيح البخاري» (ك: الأحكام، باب: الاستخلاف، رقم: 7218)، و «صحيح مسلم» (ك: الإمارة، باب: الاستخلاف وتركه، رقم: 1823)، وانظر في هذه المسألة تفصيلا متينا لابن تيمية في «منهاج السنة» (6/ 443 - 456).
(5)
انظر «الأحاديث التي قال فيها الإمام البخاري (لا يتابع عليه) في التاريخ الكبير» (ص/367).
(6)
في «التَّمييز» (ص/121).
(7)
أخرجه أحمد في «المسند» (44/ 96، رقم: 26492)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (9/ 139، رقم/3518)، والطبراني في «المعجم الكبير» (23/ 343، رقم: 799).
عقبَّ عليه مسلم ببيان علَّتِه فقال: «وهذا الخبر وَهم من أبي معاوية
(1)
لا من غيره، وذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى الصُّبح في حجَّته يوم النَّحر بالمزدلفة، وتلك سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أمَّ سَلَمة أن تُوافي معه صلاة الصُّبح يومَ النَّحر بمكَّة وهو حينئذٍ يصلِّي بالمزدلفة؟!».
فقد أعلَّ مسلم الحديث لما رأى في مَتْنِه مِن فسادِ معارضته للمعروف مِن صلاتِه صلى الله عليه وسلم الصُّبحَ بمزدلفة، مُبيِّنًا مَوضعَ اللَّفظ الَّذي أفسد معناه بقوله:«إنَّما أفسد أبو معاوية معنى الحديث حين قال: تُوافي (معه» ).
ومثاله أيضًا عند مسلمٍ:
ما رواه تحت باب «ذكرُ خبرٍ واهٍ تدفعه الأخبارُ الصِّحاح»
(2)
، مِن طريق سَلمة بن وردان، عن أنس رضي الله عنه:
«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا من أصحابه، فقال: «يا فلان هل تزوَّجت؟» ، قال: لا، وليس عندي ما أتزوَّج به! قال:«أليس معك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟» ، قال: بلى، قال:«رُبع القرآن» ! قال: «أليس معك: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؟» قال: بلى، قال:«رُبع القرآن» ! قال: «أليس معك: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}؟» قال: بلى، قال:«رُبع القرآن» ! قال: «أليس معك: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}؟» قال: بلى، قال:«رُبع القرآن!» قال: «أليس معك آية الكرسيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ}؟» قال: بلى، قال:«رُبع القرآن!» ، قال:«تزوَّج، تزوَّج، تزوَّج!»
(3)
.
(1)
يقول ابن حجر في «التقريب» (ص/475): «ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يهم فى حديث غيره، وقد رمى بالإرجاء» .
(2)
في «التَّمييز» (ص/141 - 143).
(3)
أخرجه الترمذي في «جامعه» (ك: فضائل القرآن، باب: ما جاء في (إذا زلزلت)، رقم: 2895) غير أنه قال في (قل هو الله أحد: ثلث القرآن)، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وأحمد في «المسند» (21/ 32، رقم:13309).
فقال مسلم: «هذا الخبر الَّذي ذكرناه عن سَلمة عن أنسٍ: خبرٌ يخالف الخبرَ الثَّابت المشهور، فنَقلَ عوامُّ أهل العدالة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الشَّائع من قولِه: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثُلث القرآن» ، فقال ابن وردان في روايتِه:«إنَّها رُبع القرآن» ، ثمَّ ذَكر في خبره مِن القرآن خمسَ سُور، يقول في كلِّ واحدٍ منها:«رُبع القرآن» ، وهو مُستنكر غير مفهومٍ صحَّةُ معناه!».
هكذا أعلَّ مسلم الحديث بنظره المُستنكر لمتنِه، وهو يتعجَّبُ مِن سلمة بن وردان كيف جَعَل القرآن خمسةَ أرباع، كيف تكون خَمْسُ سُوَرٍ كلٌّ منها رُبُعًا للقرآن؟! والرُّبع رابعُ أربعة؛ على ما في متنِه مِن مخالفة الرِّوايات الصَّحيحة، في عدلِ سورةِ الصَّمدِ الثُّلثَ من القرآن لا الرُّبع؛ فهذا أحدُ الأحاديث الَّتي استُنكرت على ابنِ وردان، ولأجلِها ضُعِّف
(1)
.
(1)
قال ابن حبان: «كان يروى عن أنس أشياء لا تشبه حديثه، وعن غيره من الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، كأنه كان قد حطَمه السِّن، فكان يأتى بالشئ على التوهم حتى خرج عن حد الاحتجاج» ، وقال ا بن عدى:«وفى متون بعض ما يرويه أشياء منكرة يخالف سائر الناس» ، انظر «تهذيب الكمال» (11/ 326).