الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
مَنشأ الاختلافاتِ في نُسَخ «الجامع الصَّحيح»
ولأحدِنا أن يسأل مُستشكلًا: مادام البخاريُّ قد بَيَّض «جامعَه الصَّحيح» ، ولم يتصرَّف رُواتُه في مادَّتِه الأصليَّة من أنفسِهم، فما سَببُ الاختلافاتِ الَّتي نراها بين نُسخِه ورواياتِه في بعض الألفاظ؟!
والجوابُ على ذلك، ما أتقنَه السُّيوطيُّ سَبْكًا في كلامٍ جامعٍ مُحرَّرٍ يقول فيه:
«وقع في «الصَّحيح» بالنِّسبة إلى هذه الرِّوايات اختلافٌ وتفاوتٌ يسير:
1 -
فما كان منه بزيادة حديثٍ كاملٍ أو نقصِه: فهو محمولٌ على أنَّه فَوْتٌ حَصل لِمن سَقط من روايتِه، مع ثبوتِه في أصل المؤلِّف.
2 -
وما كان بتقديم بعض الأحاديث على بعضٍ: فهو محمولٌ على أنَّه وَقع مِن صاحب الرِّواية عند نَسخِه بتقلُّب بعض الأوراقِ عليه.
3 -
وما كان اختلاف ضَبطِ لفظٍ واقعٍ في الحديث، كقولِه في حديث هِرقل:«هذا مُلك هذه الأُمَّة» بِلفظِ المصدر في رواية، وبلفظ الوصفِ في رواية، و (يَملِكُ) بلفظ المضارع في روايةٍ، وبلفظ الجار والمجرور في روايةٍ: فهو محمول على أحدِ أمرين:
أ- إمَّا أن يكون المُصنِّف نفسُه حَصل عنده شكٌّ في كيفيَّة اللَّفظ المرويِّ، فرواه تارةً كذا وتارةً كذا، فسمِعَته منه بعضُ رُواة «الصَّحيح» على وجهٍ، وبعضهم على وجهٍ آخر.
ب- وإمَّا أن يكون الشَّكُّ حَصل من الرُّواة، فرواه كلٌّ على ما ظنَّ أنَّه أخذه من البخاريِّ كذلك، لكونِه لم يضبطه حِفظًا ولا خطًّا.
4 -
وكذلك ما حَصل الاختلاف فيه بزيادة كلمةٍ، أو جملةٍ، أو تقديمِ هذا القَدر.
5 -
وقد يكون الاختلاف بالنَّقصِ، لِسقوطِ كلمةٍ من النَّاسخ وَهمًا، أو لِكونِها في الحاشية فاندرَست.
6 -
وقد يكون بتغيُّر الإعراب، وارتكابِ ما هو لَحنٌ أو ضعيفٌ في اللُّغة، لِقلَّة ضبطِ صاحب الرِّواية وإتقانِه، فتُتَحمَّل له الأوجُه المُتكلَّفة، والصَّواب في مثل هذا الاعتمادُ على صاحب الرِّواية المُوافقةِ للصَّواب» ا. هـ
قلت: ومَردُّ أوجُه هذا الاختلاف في رواياتِ «الجامع الصَّحيح» ، إلى أنَّ رُواتَه -كغيرهم مِن نَقَلة الكُتب الأخرى- بَشرٌ لا يَسلمون مِن بعضِ تصحيفٍ في خطٍّ وكتابة، أو تصحيفِ سماعٍ وأُذن، وذلك واقع في كلمات يَسيرة، تقعُ منهم في بعض ما في الكِتاب، ممَّا لا يقدح في سلامةِ أصله، «وقد يندُر للإمامين مَواضع يسيرةٌ مِن هذه الأوهام، أو لِمن فوقهما مِن الرُّواة»
(1)
.
وكذا كان مِن أهَمِّ أوجُه تلك الاختلافات بين نُسَخ «الجامع الصَّحيح» : تَفرُّد بعضِها برواياتٍ نادرةٍ عن البخاريِّ
(2)
، يَرجعُ كثيرٌ منها إلى عدم وقوفِ أصحابِها على التَّعديلات الَّتي أجراها المؤلِّف نفُسه على «صحيحه» ، وقد عُرِف عن البخاريِّ إدامة النَّظرِ في كتابِه استدراكًا وتهذيبًا.
ومِن أقربِ أمثلةِ هذا الوجهِ من الزِّيادة: نفسُ ما اشتبَه على بعضِ كُتَّابِ الإماميَّةِ مِن ذكرِ القرطبيِّ رؤيتَه لبعضِ النُّسخ القديمةِ مِن «الصَّحيح» مُتضمِّنةً رؤيةَ البخاريِّ قَدَح النَّبي صلى الله عليه وسلم الَّذي كان عند أنَسٍ رضي الله عنه
(3)
!
(1)
«تقييد المهمل وتمييز المشكل» للغساني (2/ 565).
(2)
ذكر هذه الوجوه لاختلافات الرِّوايات مع أمثلتها التَّطبيقيَّة: محمد بن عبد الكريم بن عبيد في رسالته: «روايات ونُسخ الجامع الصَّحيح للإمام محمد بن إسماعيل البخاري» (ص/50 - 83).
(3)
«فتح الباري» (10/ 100).
وكذا ما استشكَلوه مِن خُلوِّ بعضِ نُسَخِ «الصَّحيح» مِن زيادة: «تقتلُه الفئةُ الباغية» في حديثِ أبي سعيد
(1)
رضي الله عنهم.
(1)
قول الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» : «لعلَّها لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدًا» .
تعقبَّه فيه ابن حجر في «الفتح» (1/ 542) قائلًا: «ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدًا، وذلك لنكتة خفيَّة: وهي أنَّ أبا سعيد الخدري اعترف أنَّه لم يسمع هذه الزِّيادة من النَّبي صلى الله عليه وسلم، فدلَّ على أنَّها في هذه الرِّواية مُدرجة، والرِّواية الَّتي بيَّنت ذلك ليست على شرط البخاري
…
فاقتصر البخاري على القدْر الَّذي سمعه أبو سعيد من النَّبي صلى الله عليه وسلم دون غيرِه، وهذا دالٌّ على دِقَّة فهمِه، وتبحُّره في الاطِّلاع على عِلل الأحاديث».