الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الأوَّل
مأزِق بعض المُتكلِّمين في تصنيف الآحاد من حيث مرتبةُ التَّصديق
ما مرَّ عليك آنفًا من دعاوى حكميَّة على أحاديث «الصَّحيحين» ، ليست في حقيقتها إلَّا نتاج سوءِ استعمال لتأصيلاتِ المتكلِّمين في باب الأخبارِ الشَّرعيَّة وحُجَّيتها، وإقحامُ مثل مصطلح «الظنِّ» ومَراتبه في علمِ الحديثِ أو الأصولِ، والحكمُ به على أحاديث الآحادِ، كثُر استعماله عند المُتكلِّمين، ثمَّ شاعَ بين أهل الفقهِ والأصول.
وقد تمكَّن مَن استهوته نَزغات التَّمعقُلِ من بعض دُعاة تجديدِ التُّراثِ، أن يوجِدَ مداخِل بتقريرات المتكلِّمين في هذا الباب من ترتيب الآحاد من حيث التَّصديق، فتسلَّلوا من خِلالِ ثغراتها لِواذًا، ليقتلعوا ما استطاعوا مِن غِراسِ السُّنة؛ حتَّى بلغتِ القِحة ببعضِهم أن يُعلنَ إنكارَ الآحادِ جملةً، مُعتَلًّا بنفسِ ما أصَلَّه هؤلاء المتكلِّمين من ظنِّيتِها، ما دُمنا قد أُمرنا في القرآن بالعلمِ والعمل به، لا بالظَّن والعملِ بما احتملَ الكذب في نفسِه، فيشملُ الفروع أيضًا
(1)
.
(1)
اتِّباع الظَّن المرجوحِ الخالي عن العلم، هو الذي ورد في القرآن الكريم ذمه، في قوله تعالى مثلًا:{قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، أمَّا اتَّباع الظَّن الرَّاجح المستند إلى علم: فإنه لا يدخل في الظن المذموم، لأنَّه اتِّباع للعلم في حقيقه؛ فإن ترجيح ظن على ظن لا بدُ له من دليل، فيكون ترجيحه مستندًا إلى علم ودليل، فاتباعه لهذا الظن الراجح اتباعٌ لما عُلم رجحانه، فهو اتباع لأحسن الدليلين، فيدخل في قوله تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .
لقد استشعرَ المُتكلِّمة حجمَ المأزقِ الَّذي حوصروا فيه في هذا الباب مِن مَراتب الأدلَّة، فانبعثَ أفذاذُ أصوليِّيهم إلى مُحاولةِ سَدِّ هذه الثُّغور، فلم يجدوا أمتنَ مِن استعمالِ دليل «قطعيَّة العَمل» للردِّ على مُنكري حجيَّة الآحاد بإطلاق، بالتَّسليم بأنَّها ظنيَّة المَفادِ، لكنْ مع القولِ بقطعيَّةِ وجوبِ الأخذِ بها، استنادًا إلى دليلين اثنين، يفصِّل فيهما الجُويني القول فيقول:
«أحدهما: يستند إلى أمرٍ مُتواترٍ لا يَتمارى فيه إلَّا جاحدٌ، ولا يَدرؤه إلَّا معاند، وذلك أنَّا نعلم باضطرارٍ مِن عقولنا أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يُرسل الرُّسل، ويُحمِّلهم تبليغ الأحكام، وتفاصيل الحلالِ والحرامِ، وربَّما كان يُصحبهم الكُتُب.
وكان نقلُهم أوامرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد، ولم تكُن العصمة لازمةً لهم، فكان خبرُهم في مَظِنَّة الظُّنون، وجرى هذا مَقطوعًا به مُتواترًا لا اندفاع له، إلَّا بدفع التَّواتر، ولا يدفع المُتواتر إلَّا مباهتٌ، فهذا أحدُ المَسْلَكين.
والمسلك الثَّاني: مُستَنِدٌ إلى إجماع الصَّحابة رضي الله عنهم، وإجماعهم على العمل بأخبار الآحاد منقول مُتواترًا .. فهذا هو المُعتمد في إثبات العلم بخبر الواحد»
(1)
.
بهذا تمكَّن جمهور المتكلِّمينَ مِن الانفصالِ عن الحجَّة الَّتي أوردها مُنكرو الآحاد لظنِّيَتِه
(2)
.
غير أنَّ الاقتصارَ على استعمالِ هذا الدَّليلِ «قطعيَّة العملِ» مع واقعيَّته، يحصُر الاحتجاجَ به على خبر الواحدِ في الفروع العَمليَّة، دون الأصولِ العقديَّة والعلميَّة! وهو ما سَلَّم به كثيرٌ من متأخِّري المتكلِّمين
(3)
، وليس يَسعُ من فرَّقَ بين
(1)
«البرهان في أصول الفقه» (1/ 228).
(2)
انظر «المعتمد» لأبي الحسين البصري (2/ 98)، و «المستصفى» للغزالي (ص/116)، و «الإحكام» للآمدي (2/ 52).
(3)
انظر «إشكالية القطع عند الأصوليين» لأيمن صالح، بحث منشور بمجلة «المسلم المعاصر» (العدد:117، ص/36).
الأحكامِ والعقائد في حجيَّة الآحادِ أن يُماريَ هؤلاءِ، لخفاء دليل التَّفريق؛ وبهذا الاعتبار تظلُّ الأحاديث الخبريَّة العَقديَّة مُستباحةَ الحِمى مِن قِبل كلِّ مَن لم تُوافق هوى طائفتِه.
فلهذا كان أعدلَ المذاهب في حكم هذه الآحاد الصِّحاح، وأقطعَها لدابرِ كلِّ مُعتَدٍ على ثوابتِ الأخبار، وأمنعَها لتَسلُّل المُتطفِّلين إلى رياضِ السُّنَن: ما قرَّره جمعٌ من العلماء مِن تقعيدٍ عدلٍ في هذا الباب يُقضى فيه بالتَّفصيل، ويُنهى فيه عن التَّعميمِ، وذلك بالتَّأكيدِ على أنَّ هذه الآحاد قد يُفيد العلمَ في حالاتٍ، مُستندين إلى دليل «القرائنِ» الملتفَّةِ بالأخبارِ، وإلى «دليل الحفظِ الإلهيِّ»
(1)
، وبهما حَكَموا على جملةِ ما في «الصَّحيحين» من أخبار بالعلمِ.
وتفصيل القول في هذا المذهب الرَّجيح يأتي تباعًا في المباحث التَّالية.
(1)
سيأتي تفصيل الكلامِ في هذا الدَّليل الأخيرِ من هذا البحثِ بإذن الله تعالى.