الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
نقضُ شبهةِ عدمِ تَبْيِيض البخاريِّ لكتابه
أمَّا أنَّ البخاريَّ ترك «صحيحَه» مُسَوَّدةً دون تَبييضٍ قبل وفاتِه: فهذا القول في أصلِه نتاجُ فهمِ عقيمٍ لكلامِ المُستملي (ت 376 هـ) أحدِ رُواة الكتابِ عن الفَرَبري، وانجلاء عُقم هذا الفهم عنه يكون بتصوُّرنا التَّصوُّر الصَّحيح لطريقةِ روايةِ «الصَّحيح» عن مؤلِّفه البخاريِّ.
ذلك أنَّ مِمَّا يجهلُه كثيرٌ مِمَّن يطعن في صحَّة رواية نُسخته: أنَّ أصلَ هذا الكتابِ قد بقيَ بعد وفاةِ مُصنِّفه عند تلميذِه الفَربري، وهو الَّذي اشتهَرَت روايةُ الكِتابِ مِن طريقِه، وعنه تلقَّاه الوفرةُ مِن الرُّواة قِراءةً وسماعًا، أشهرهم تسعةٌ
(1)
؛ منهم مَن انتَسَخ الكِتابَ مِن أصلِ البخاريِّ نفسِه
(2)
.
ثمَّ أخذ عن هؤلاءِ التِّسعة الجَمُّ الغفير قراءةً وسماعًا، اشتَهرَ منهم اثنا عَشَر راويًا، منهم أيضًا مَن تشرَّفَ بانتساخِ نُسختِه مِن أصلِ البخاريِّ، والَّذي بقِي عند أبي أحمد الجُرجانيِّ تلميذِ الفَربري
(3)
.
(1)
ذكر ابن حجر أسماء هؤلاء التِّسعة في «هدي الساري» (ص/5 - 6)، وأضاف النووي راويين اثنين لم يذكرهما ابن حجر، وذلك في أوَّل كتابه «التلخيص شرح الجامع الصَّحيح» (1/ 191).
(2)
أشهرهم أبو إسحاق المستملي، وأبو محمد السَّرخسي، وأبو الهيثم الكشميهني، وأبو زيد المروزي، كما في «التَّعديل والتَّجريح» لأبي الوليد الباجي (1/ 311)، وكذا محمد بن مكي الجرجاني، كما في «تاريخ أصبهان» لأبي نعيم الأصبهاني (2/ 259).
(3)
منهم: أبو نعيم الأصبهاني، وأبو محمد الأصيلي، كما في «المختصر النَّصيح» للمُهلَّب (1/ 69).
وهكذا تلاحَقَت طبقاتُ الرُّواة على روايةِ الكِتاب على نفسِ النَّمَطِ المُتواتر في التَّحمُّل
(1)
(2)
.
إذا تقرَّر هذا؛ فإنَّ المُستملي -الرَّاوي عن الفربري كتابَ البخاريِّ- يخلو كلامَه من مُستمسَكٍ لِمن توهَّم الكتابَ مُسودَّةً، وذلك أنَّه يقول بنصِّ عبارتِه:«انتسَختُ كِتابَ البخاريِّ مِن أصلِه، كان عند محمَّد بن يوسف الفَربري، فرأيته لم يَتمَّ بعدُ، وقد بَقِيت عليه مَواضعُ مُبيَّضة كثيرةٌ، منها تَراجم لم يُثبِت بعدها شيئًا، ومنها أحاديثُ لم يُترجِم عليها، فأضَفْنا بعضَ ذلك إلى بعض»
(3)
.
فإنِّي أستهجنُ أن يُحرَّف هذا النَّص خدمة لأغراض من يشتهي إسقاطَ الوثوقيَّة بـ «صحيح البخاريِّ» ، فنصُّ المُستمليِّ براءٌ ممَّا انقدح في أذهانهم، بل هو على نقيضِها شاهدٌ! وبيانُ ذلك:
أنَّ دلالة نصِّ المُستملي مُنحصِرة في مَوضوعِ التَّراجم الَّتي بَيَّضها البخاريُّ في «صحيحِه» دون أن يَذكُر تحتها حديثًا، أو في الأحاديثِ الَّتي ذكرَها ولم يُترجِم لها بابًا؛ وذلك: أنَّ الأصلَ الَّذي كان عند الفَرَبري مِن «الصَّحيح» كانت فيه إلحاقاتٌ في الهوامِش ونحوها، وكان مَن ينسخُ الكتابَ يَضعُ المُلحَقَ في المَوضعِ الَّذي يَظنُّه لائقًا به، فمِن ثمَّ وَقَع الاختلافُ في التَّقديم والتَّأخير
(4)
.
ولعلَّ وجهَ ذلك: أنَّ النَّاسَ لمَّا أخذوا عن المُصنِّفِ، أخذوا أصلَ الحديث، وجَعلوا بعض الخصوصيَّاتِ هدَرًا، وحسِبوها كالواجبِ المُخيَّر، فرَوَوه كيفَما ترجَّح، والله أعلم
(5)
.
(1)
والأمر نفسه حاصل في أخذ الرواة لـ «صحيح مسلم» ، ويُعدُّ كتاب «الإلماع» للقاضي عِياض من أفضل الكتب في وصف منهج علماء الحديث في الانتساخ وضوابطه.
(2)
«إفادة النصيح» لابن رشيد السبتي (ص/18 - 19).
(3)
«التعديل والتجريح» للباجي (1/ 310).
(4)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (4/ 300).
(5)
انظر قريبا من هذا التوجيه من كلام القسطلانيِّ في «فيض الباري» للكشميري (1/ 37 - 38).
فالمُتاح فهمُه مِن ظاهرِ كلام المُستمليِّ: أنَّ بعضَ رُواةِ الكتابِ اجتهدوا في ترتيبِ بعضِ مواضِع الأحاديثِ والأبوابِ -وهي قليلةٌ على كلِّ حال- تقديمًا وتأخيرًا، وليس فيه أنَّهم أضافوا شيئًا مِن عندهم فيه أو أنقصوا منه!
ولازمُ هذا كلِّه: أنَّ كتابَ البخاريِّ كان مُدوَّنًا في أصلٍ مُحرَّرٍ.
يقول المُعلِّمي: «البخاريّ حَدَّث بتلك النُّسخةِ، وسَمِع النَّاسُ منه منها، وأخَذوا لأنفسِهم نُسَخًا في حياتِه، فثَبت بذلك أنَّه مُطمَئِنٌّ إلى جميع ما أثبتَه فيها .. أمَّا التَّقديمُ والتَّأخير -يعني في بعضِ رواياتِ «الصَّحيح» - فالاستقراءُ يُبيِّن أنَّه لم يَقع إلَّا في الأبوابِ والتَّراجم، يَتَقدَّم أحدُ البابَين في نُسخةٍ، ويَتأخَّر في أخرى، وتَقعُ التَّرجمة قبل هذا الحديثِ في نُسخةٍ، وتَتأخَّر عنه في أخرى، فيلتحِقُ بالتَّرجمةِ السَّابقةِ، ولم يَقع مِن ذلك ما يَمَسُّ سياقَ الأحاديثِ بضَررٍ»
(1)
.
ومِمَّا يشهد لصحَّة هذا التَّقريرِ، ما عَلَّق به الباجيُّ نفسُه على نصِّ المُستملي بعد نقلِه إيَّاه
(2)
بقوله:
« .. رواية أبي إسحاق المُستملي، ورواية أبي محمَّد السَّرخسي (ت 381 هـ)، ورواية أبي الهيثم الكُشْمِيهَني (ت 389 هـ)، ورواية أبي زيد المَرْوَزي (ت 371 هـ) -وقد نَسَخوا مِن أصلٍ واحدٍ
(3)
- فيها التَّقديم والتَّأخير، وإنَّما ذلك بحسبِ ما قدَّر كلُّ واحدٍ منهم في ما كان في طُرَّةٍ أو رُقعةٍ مُضافةٍ، أنَّه مِن مَوضعٍ ما، فأضافه إليه»
(4)
.
ومِمَّن دَفَع مَقولَة تركِ البخاريِّ لـ «جامعِه الصَّحيح» مُسَوَّدةً مِن أئمَّةِ
(1)
«الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/258).
(2)
وهو المتفرِّد برواية هذا الكلامِ عن المستملي من طريق شيخِه أبي ذرٍّ الهَرويِّ (ت 434 هـ).
(3)
وهؤلاء الأئمة الأربعة تلاميذ الفَربري (ت 320 هـ) أشهرِ من سمِع من البخاري «جامعه الصحيح» ، وروايته له أتم الروايات.
(4)
«التعديل والتجريح» لأبي الوليد الباجي (1/ 310 - 311).
الأمصارِ، فجزموا بتبيِيضِه قبل وفاتِ مُصنِّفه بأعوامٍ كُثار: مَن هم أعلمُ النَّاس مُمارسةً لهذا الكتاب؛ كابن حَجرٍ العسقلانيّ
(1)
؛
وقبله بدرُ الدِّين ابن جماعة (ت 733 هـ)، والَّذي احتجَّ على مَن نفى تبيِيضَ الكتابَ، بأنَّ البخاريَّ «أسمَعَ الكتابَ مِرارًا على طريقةِ أهلِ هذا الشَّأن، وأخَذَه عنه الأئمَّة الأكابر مِن البُلدان»
(2)
.
هذا؛ والمُستَملي الَّذي يُنسب إليه غلطًا ترك البخاريِّ لصحيحه مُسودَّة، هو نفسُه مَن رَوى عن الفَربريِّ قولَه:«سَمِع كتابَ الصَّحيحِ لمحمَّد بن إسماعيل تسعون ألف رجلٍ!»
(3)
؛ فهل يُعقَل أن يُحدِّث البخاريُّ بكتابِه مَرَّاتٍ، وفي بُلدان مختلفةٍ، وهو لا يزالُ مُسوَّدةً لم يُصَحَّح؟!
(1)
وما نجده من قولِ ابن حجر في «الفتح» (7/ 93) في سياقِ توجيهه لعدم الترتيب في تراجم مناقب العَشرة، من قولِه:« .. أظنُّ ذلك من تصرُّف النَّاقلين لكتاب البخاري، كما تقدَّم مرارًا أنَّه ترك الكتاب مُسوَّدة» اهـ قد يبدو من ظاهرِه أنَّ البخاريَّ حقًّا ترك كتابه من غير تبيِيضٍ، وعلى هذا الظَّاهر مشى د. أكرم العُمري في «بحوث في تاريخ السنة المشرفة» (ص/320، ط 5، 1415 هـ)، ومن قبله زاهد الكوثري في تعليقه على «شروط الأئمة الخمسة» للحازمي، حيث ادَّعى (ص/172) أنَّ البخاريَّ «لم يفرُغ من تبييض كتابه تبييضًا نهائيًّا» .
وما ظُنَّ ظاهرًا من كلامِ ابن حجرٍ ليس هو مُراده، فإنَّه لا يتَّفق مع ما قرَّره هو نفسه وعمل به ابتداءً، من أنَّ البخاريَّ قد بيَّض كتابه، فيظهر لي أنَّ مقصوده بالمُسودَّة في النصِّ أعلاه: مجموعُ ما تَرَكه البخاريُّ من زياداتٍ أو إلحاقاتٍ بهوامش نُسختِه المُراجَعة المُبيَّضة، والَّتي احتاج مَن نَقَلَها عنه إلى تضمينِها في الكتابِ، وإلحاقِ كلٍّ منها في مكانه المناسب مِن جهة التَّرتيب، لا أنَّ مُراده أنَّ الكتاب بقي مُسَودَّة على المعنى الدَّارج بين المُصنِّفين، والَّذي يستتبع عدم المُراجعة والتَّنقيح والتَّرتيب للكتاب مِن مؤلِّفه، وإنَّما أطلق عليها الحافظ اسمَ (المُسوَّدة) مَجازًا في اللَّفظ ليس إلَّا.
هذا التَّوجيه مني لكلام ابن حجر حمل لعبارته المُحتَمِلة المُشتبِهة، على عبارته المُحكمِة المُفسَّرة الَّتي كرَّرها في عِدَّة مواطِن من كتابه «هدي السَّاري» ، كقوله عند كلامه عن بعض مَقاصد البخاريِّ في تراجِمه (ص/14):« .. وللغفلة عن هذه المقاصد الدَّقيقة، اعتقدَ من لم يُمعِن النَّظر أنَّه ترَكَ الكتاب بلا تبييض، ومن تأمَّل ظَفر، ومن جدَّ وَجد» ، وانظر أيضًا (ص/489) منه، والله أعلم.
(2)
«مناسبات تراجم البخاري» لبدر الدين ابن جماعة (ص/25 - 26).
(3)
«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (2/ 322)، وإن كان في إسنادها نظر، إلا أنه غير مستبعد، فقد بلغت شهرة البخاري وصحيحُه الآفاق، فكان البخاريُّ يُحدِّث به في كل مكان، إلى قُبيل وفاته بقليل.
وهل أَحَدُّ قطعًا لجِدالِ كلِّ مُتعنِّتٍ في هذه الحقيقة مِن قولِ البخاريِّ نفسِه: «صَنَّفتُ جميعَ كُتبي ثلاثَ مَرَّاتٍ»
(1)
؟!
(1)
«سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 403)، و «تغليق التعليق» لابن حجر (5/ 418).
وقد أعرضت عن الاستشهاد بِما رُوي من عرض البخاري لصحيحه على بعض مشايخه - على كثرة من استدلَّ به مِمَّن كَتَب في هذه المسألة - لِما سبق التنبيه على ضعف إسناد هذه الحكاية.