الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السَّابع
الحكمة مِن وجودِ المُشكلِ في النُّصوصِ الشَّرعيةِ
لم يخلُ كلام الله جل جلاله وهو أحكمُ الحاكمين، وكلامُه أحسن الكلامِ وأصدقُه، ولا كلام رسولِه صلى الله عليه وسلم، وهو أفصحُ النَّاس وأنصَحُهم، مِن بعضِ مُتشابهٍ يختلِفُ النَّاس في دركِه، فتنةً تَصْغى إليها أفئدة الَّذين في قلوبهم مَرض، وفُسحةً مِن الاجتهادِ والتَّحرِّي يَنعمُ بأجرها عبادُه المُخلَصون؛ لتتفاوَت درجاتُهم في شرفِ العِلم والمعرفة، ولْيَختلف النَّاس حِيالها بين مُصيبٍ ومخطئٍ، ومُجتهدٍ ومُقلِّدٍ، ومُتأنٍّ ومُتهوِّرٍ، ومَأجورٍ ومَوْزورٍ، فإنَّ هذه المساحةَ الواسعةَ مِن تحرِّي معاني الوحي لم تُوضَع لِمن سَفُلت هِمَّتُهم، من الَّذين يَبتغون كلَّ شيءٍ مُحكَمًا في مَنطوقِه.
وفي تقريرِ شيءٍ مِمَّا لأجلِه كانت البَلوى بالمُشكلاتِ المَعنويَّة في نصوص الكتاب والسُّنة، يقول ابن القصَّار المالكيُّ (ت 398 هـ)
(1)
:
«اِعلم أنَّ للعلومِ طُرقًا، منها جَليٌّ وخَفيٌّ، وذلك أن الله تبارك وتعالى لمَّا أرادَ أن يمتحِنَ عبادَه وأنْ يبتليَهم، فرَّق بين طُرقِ العِلم، وجعل منها ظاهِرًا
(1)
قاضي بغداد أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي: المعروف بابن القصار الأبهري الشيرازي، الإمام، الفقيه، الأصولي، الحافظ، النظار، تفقَّه بأبي بكر الأبهري وغيره، وبه تفقَّه أبو ذر الهروي، والقاضي عبد الوهاب، ومحمد بن عمروس وجماعة؛ له كتاب «عيون الأدلة» في مسائل الخلاف، لا يُعرف للمالكية كتاب في الخلاف أكبر منه، انظر «شجرة النور الزكية» (1/ 138).
جَليًّا، وباطنًا خفيًّا، ليرفع الَّذين أوتوا العلم، كما قال عز وجل:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]»
(1)
.
وحيث أنَّ النَّاسَ مُتفاوتون في علومِهم وإدراكاتهم وغاياتِهم، مُتباينون في امتِثالِهم لنصوصِ الوَحْيَين، فكان مِنهم الرَّاسخون في العِلم، الذَّابُّون عن حياض الشَّريعة، ومِنهم أهلُ زَيغٍ صبغوا دينَهم بلونِ أهوائِهم؛ فإنَّه مِن خلالِ التَّبصُّرِ بهذا الافتراقِ، نُدرِك الحكمةَ الكبرى مِن وجودِ هذه المُشكلاتِ في النُّصوصِ الشَّرعيةِ أنَّها: تَمحيصُ ما في القلوبِ مِن اليقينِ والتَّسليمِ لله ورسولِه، وابتلاءُ العقولِ لتستفرِغَ الوُسعَ في التَّوَصُّل إلى مُراداتِ الله تعالى.
وفي تقريرِ هذا المَقصد الجليل لهذا النَّوع من النُّصوص، يقول أبو إسحاق الشَّاطبي:«مَسألة المُتشابهاتِ لا يَصِحُّ أن يُدَّعى فيها أنَّها مَوضوعةٌ في الشَّريعة، قصدَ الاختلافِ شَرعًا .. بل وَضعها للابتلاءِ؛ فيعملُ الرَّاسخون على وفقِ ما أخبرَ الله تعالى عنهم، ويَقع الزَّائغون في اتِّباعِ أهوائِهم»
(2)
.
ويُعبِّر المُعلِّمي أيضًا عن حكمة ذلك، فيقول:«في بقاءِ المَنسوخ بعيدًا عن ناسخِه، والإتيان بالمُجمل بنَوْعيه: ابتلاءٌ مِن الله تعالى لعبادِه، فيكون عليهم مَشقَّةً وعناءً في استنباطِ الأحكام، لاحتياجِ ذلك إلى الإحاطةِ بنصوصِ الكتابِ والسُّنةِ واستحضارِها، وفي ذكرِ ما لا سبيلَ للعبادِ إلى معرفةِ كُنهِه وكيفيَّته، مع ما يَتَعلَّق بذلك مِن المعاني الظَّاهرة، ابتلاءً لهم، ليمتاز الزَّائغُ عن الرَّاسخ»
(3)
.
ولُبُّ الكَلِم في مثل هذا المَقام أن يُقال:
إنَّ عُبوديةَ الإنسان الحقَّةَ لربِّه تبارك وتعالى، إنَّما تَتَجلَّى في أنصعِ صُوَرِها: عند مُجاهدةِ الإنسانِ لهَواه وشيطانِه؛ هذا الصِّراعُ داخل النَّفسِ البَشريَّةِ، بما فيها
(1)
«مقدمة في أصول الفقه» لابن القصار (ص/5).
(2)
«الموافقات» للشَّاطبي (69 - 71).
(3)
«القائد إلى تصحيح العقائد» للمعلمي (ص/189).
مِن لحظاتِ نصرٍ وهزيمةٍ، وإقبالٍ وفرار: هو المُؤشِّر الصَّادق لمَدى خضوعِ الإنسان لربِّه، وتَذلُّله على عَتَباتِ عُبوديَّتِه؛ «فإنَّما حُفَّت الجنَّة بالمَكاره» !
فربُّنا هذا العليم سبحانه، لو أرادَ لجَعَلَ دينَه مُحكمًا كُلَّه، بما لا يُحوِجُنا معه إلى مشقَّة نَظَرٍ أو عناء تَبصُّر؛ لولا أنَّه قَضى بحكمته في الأزل: أنَّ مُعاناةَ عبادِه لوَحْيِه وأنوارِ رسالتِه، واشتِجارَ المَحابِرِ على الأوراقِ في بيانِ مُرادِه، ومُجاهدةَ أنفسِهم لتَقبُّلِ قَضائه في أحكامِه وإن خالَف مُشتَهياتِها، وحِرصَهم على استخراجِ النُّورِ الأوَّلِ مِن كلِماتِه لتَمثُّلِه؛ هذه المُكابَدات كلُّها: هي في ذاتها من أعظمِ ضروب العبوديَّة، وأجلى مَظاهرها على العَبد.
ومع استصحاب هذه المعاني الجليلة كلِّها للنَّاظر في أحرُف الوَحي، يحذرُ السَّالك في هذا الطَّريقِ من المُجاهَدات أنْ يغفلَ عن الاهتداءِ بتلك المَعالِم السَّالِف سَردُها، وما سَبَقها مِن قواعد منهجيَّة، كي لا يُسيء التَّعامل مع الإشكالات العارضة له، فتَتكاثر عليه، حتَّى تصير أشبهَ بمِطْرَقةٍ ما تلبثُ أن تُهشِّمَ المناعةَ في قَلبِه! يكون بها قابِلًا لأيِّ انحرافٍ وانتكاسٍ فكريٍّ؛ لا بسبب قوَّةٍ في ذات الشُّبهات الواردة عليه -ولو تَراءى للنَّاسِ أنَّها مَن أهلكته- بل لهشاشةِ حصانتِه القَبْليَّة، وضَعْفِ مَناعتِه الفكريَّة، جرَّاءَ تخبُّطِه المَنهجيِّ في التَّعامل معها أوَّلَ مرَّة.
ولو كان ثَمَّ تعَقُّلٌ في مُعاملةِ الأسئلةِ العَارضةِ له على نصوصِ الوَحي، فتَعاطى مع السُّؤالِ بطريقة وَاعية مَنطِقيَّة، لعادَت النَّفسُ لوَضْعِها الطَّبيعي مُطمئنَّةً ولو بعد حينٍ.
نعم، قد تَستمِرُّ الإشكاليَّةُ في ذهنه طويلًا مع تَأنِّيه وتَعَقُّله، لكنْ بعد أن يكون مُتأثِّرًا بالسُّؤالِ حقيقةً، لا بالحالةِ النَّفسيَّةِ الَّتي هَشَّمتها المِطرقة!
(1)
(1)
مقال بعنوان: «سيَّد الضمانات الفكرية» لـ د. فهد العجلان، «مجلة البيان» (العدد 313، رمضان 1434 هـ) بتصرف.
إنَّ كثرةَ تلك العَوارِضِ والإشكالات الفكريَّة الَّتي تأتي على قلبِ المُسلمِ، عادةً ما تُضعِف مِن وَهَجِ تسليمِه لنصوصِ الوَحْيَين مع الوقت، فتؤثِّر في إدراكِه لحقيقةِ معانيها، وإن كان صادقًا في اتِّباعِ الشَّرع! فليس الزَّلل في هذا المَقام الخطير مُقتصرًا على مَرضى القلوبِ، بل حَرُّها يَمسُّ أيضًا مَن تكاثَرت عليه الشُّبهاتُ مِن غيرِ مَنَعةٍ عِلميَّةٍ، حتَّى تصير تلك الشُّبهات نفسُها المِعيارَ الَّذي يُقيِّم النُّصوصَ من خِلالِها؛ فلقد أضَرَّت المسكين بتسليمِ قلبِه ولَوْ لِمامًا
(1)
.
وحاصلُ القولِ في هذا البابِ: ما أحكمَ ابن تيميَّة سبْكَه في كلماتٍ بليغات، جَمَعت بين متانةِ التَّقعيدِ العلميِّ، وروحِ التَّوجيه التَّربوي، يقول فيهنَّ:
«التَّكذيب بما لم يُعلَم أنَّه كذب، مثل التَّصديق بما لا يُعلَم أنَّه صدق! والنَّفي بلا علم بالنَّفي، مثل الإثبات بلا علمٍ بالإثبات! وكلٌّ من هذين قولٌ بلا علم.
ومَن نَفى مضمونَ خبرٍ لم يَعلم أنَّه كذب، فهو مثل مَن أثبتَ مضمونَ خبرٍ لم يَعلَم أنَّه صدق، والواجبُ على الإنسان فيما لم يقُم فيه دليل أحد الطَّرفين، أن يُسرِّحَه إلى بُقعةِ الإمكان الذِّهني، إلى أن يحصل فيه مُرجِّح أو موجب، وإلَّا يكون قد سَكت عمَّا لم يعلم، فهو نصف العلم.
فرحم الله امرأً تكلَّم فغنم، أو سكَت فسلِم، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقُل خيرًا أو ليصمُت، وإذا أخطأ العالمُ لا أدري، أُصيبت مَقاتله .. »
(2)
.
أعاذَ الله مَقاتِلنا أن تُصاب، وأفهامَنا أن تزيغَ عن الصَّواب؛ آمين.