الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الرَّابع
المُراد بـ «نقد المتن» عند عامَّة المعاصرين النَّاقدين «للصَّحيحين»
أُولى المَعاركِ في ساحة التَّدافع الفكريِّ بين أهلِ الحديثِ وخصومِهم ينبغي أن تبدأ بـ: تحديد المُراد بالمُصطلحات، فإنَّ حُسن التَّصوُّرِ لمُراد الخصمِ من «النَّقد للمتن» -مثلًا- كَفيلٌ بإفحامِ جوابِه، واختصارِ وقتِ نِزالِه، بدل التِّيه الحاصل في كثيرٍ من الجدالات العقيمةِ النَّاجمة عن اختلافِ مُراد كلِّ طرف من هذا المُصطلح.
فقد كنت ألاحظ في تَتبُّعي لجملةٍ مِن كتاباتِ المُعترِضينَ على منهج المحدِّثين، أنَّها تحصر معنى النَّقدِ للمتنِ في معنى «تمحيصِ الأحاديثِ مِن جهة مَعقوليَّةِ مَعانيها، بعرضِها على الأصولِ القطعيَّة» .
ترى مثال ذلك في قول (محمَّد حمزة): «نقد الحديث يَتفرَّع إلى قِسمين:
قسم: يستند فيه على الرِّواية وصحَّتها والرَّجال، ومقدار الثِّقة بهم.
أمَّا القسم الثَّاني: فيعتمد فيه على الحديث نفسِه ووضعوا له علومًا، منها: علم غريب الحديث ومُختلِفه، وناسخِه ومنسوخِه.
بيدَ أنَّ النَّظر في صحَّة المتن، وما إذا كان مُساوقًا للظَّرف الَّذي قيل فيه، واتِّفاق ذلك الحديث مع سُنن الحياة، والقوانين الطَّبيعيَّة، وحكم العقل: لم يحظَ
بما حظيَ به القسم الأوَّل من عناية المُحدِّثين، وهو ما حدا بالباحثين المُحْدثين إلى توجيه نقدِهم إلى هذا الخلل في منهج المحدِّثين»
(1)
.
غير أنَّ فئةً مِن أذنابِ المُستشرقين تُصرُّ على أن تفهم مِن عبارات المُستشرقين نفيَ نظرِ المُحدِّثين في المتونِ بالمرَّة، حتَّى ما تَعلَّق بالشُّذوذِ واختلافِ الألفاظ! وأنَّهم يتَعبَّدون بالحديثِ لمُجرَّد وثاقةِ رواتِه واتِّصالِ سنده! فيَتَعلَّقون في هذا الفهم بمثل فقرةٍ للمستشرق (كايتاني) قال فيها:«إنَّ المحدِّثين لا يجسُرون على الاندفاعِ في التَّحليلِ النَّقدي للسُّنة إلى ما وراء الإسناد، بل يَمتنعون عن كلِّ نقدٍ للنَّص»
(2)
.
ولا أخالُ أحدًا أشهرَ مِن (أبو ريَّة) في إشاعةِ هذا التَّعميم الظَّالم في حقِّ المُحدِّثين، فقوَّلهم ما لم يقولوا حين زعم تنكُّبهم عن «غَلَطِ المتون، فهم يقولون: مَتَى صَحَّ السَّند صَحَّ المتن»
(3)
.
وعلى هذا المنوالِ في الفِرَى جرى (إبراهيم فوزي) في قوله عن المُحدِّثين: «يعتبرونَ نقدَ المتن لا يجوز البحثُ فيه متَى صحَّ الإسناد، فابتعدوا عنه»
(4)
.
فهذا التَّصوُّر السَّيء لمنهج المُحدِّثين انسحب على عَمل البخاريِّ ومسلمٍ في صحيحيهما، فلم يُتوَرَّع عن إلزاقِ هذه التُّهمة بهما بالتَّبع، إذ كانا في نَظرِ المُعترضين لا يَعدُوان العناية «بالتَّحقيقِ في السَّند، وبَنيَا صَحيحَيهما على شروطِهما فيه، أو على ما صَحَّ عندهما مِن الإسناد، فإذا صَحَّ الإسناد وكان رجالُه ثِقاتًا في حكمِهما عليهم، كان مَتنُ الحديث صَحيحًا، بمعنى أنَّه ممَّا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهِ التَّحقيقِ»
(5)
.
(1)
«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» (ص/209).
(2)
من حاشية الخولي على «أصول الفقه المحمدي» لشاخت (ص/65 - 66).
(3)
«أضواء على السنة المحمدية» (ص/258).
(4)
«تدوين السنة» لإبراهيم فوزي (ص/166 - 167) بتصرف يسير.
(5)
«قراءة في منهج البخاري ومسلم في الصحيحين» للأدهمي (ص/27).
فتلك المَقولة من (محمود أبو ريَّة) -هو ومَن تأبَّطَها معه- لا يستحيي من الإعلان بها، وهو يَعلمُ يقينًا بأنَّ علم «مصطلح الحديث» زاخرٌ بمباحثِ الشُّذوذِ والاضطرابِ، والقَلْبِ، والإدراج، والعِلَل، ومختلف الحديث، وهذه كلُّها من مَباحث المتون؛ ويعلم أنَّ علماءَ الحديثِ قد أوْلَوا هذه المَباحث المَتنيَّة حَيِّزًا في مُصنَّفات العِلَل والتَّخاريج.
هذا الإقرار تجده في مثل قولِ (كايْتَاني) نفسِه: «إنَّ المحدِّثين صرَّحوا أنَّه لا يلزم من صحَّة السَّند صحَّةُ المتن، فكانوا صريحين في عدم ربط السند بالمتن بالقبول والرفض، وإن كل واحد منهما وحدة مستقلة لإجراء النقد والتحليل عليه، وإن هناك أشياء تؤثر على المتن مع صحة السند كالشُّذوذ ووجود علَّةٍ في المتن»
(1)
.
فالَّذي أفهمه من هذا الكلام، أنَّ المُستشرقين المُعتنين بموضوع الحديث، يريدون مِن إطلاقِ هذا النَّفيِ للنَّظر المَتنيِّ عن المُحدِّثين: نفي النَّظر إلى مَعقوليَّة معاني المتون في نفسها، ومدى انتفاء المُعارضات الحِسيَّة والتَّاريخية ونحوها عنها؛ ولكن كثيرٌ من المُثقَّفين العرب انساقوا وراء تلك الإطلاقاتِ مِن غير وَعيٍ تامٍّ بحقيقتها وسِياقاتها، فوقعوا في كذبٍ مفضوح على المُحدِّثين؛ ولعلَّهم تقصَّدوه من باب التَّهويلِ في التَّوصيفِ! تشنيعًا وتصغيرًا لأقدار المُحدِّثين في نظرِ النُّخَب المُثقَّفة المُسلِمَة.
فلهذا أجِدُني مُستثقِلًا بعضَ كتاباتِ الإسلاميِّين مِمَّن تَعنَّى الردَّ على المستشرقين وأفراخِهم في هذا الباب، وهم يَستجلبونَ رُكامًا مِن أمثلةِ نقدِ المُحدِّثين لألفاظِ المتونِ، زيادةً، ونقصًا، وتفرُّدًا، واضطرابًا .. إلخ، ممَّا يذكره العلماء في كُتبِ «المصطلح» ، مِمَّا يعلمه المُستشرقون قبلهم
(2)
؛ فهذا عندي
(1)
انظر قوله في «دائرة المعارف الإسلامية (2/الهامش 229 - الخولي).
(2)
كما ترى هذا الصنيع -مثلا- عند عبد الله الخطيب في كتابه «الرد على مزاعم المستشرقين: جولدزيهر وشاخث» (ص/36)، وصالح رضا في «النظر في متن الحديث في عصر النُّبوة» (ص/378) وغيرهما كثير.
-والله- مَضيعة لوقت القارئ، واستكثار للأوراقِ بلا فائدةِ، وخروج عن مَحلِّ النَّزاع، بما يَعود على أفهامِ أهلِ الحقِّ بالمَثلبةِ.