الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث السَّادس
مركزيَّة مقالات (رشيد رضا)
في انتشارِ الشُبهة في الطَّبقات اللَّاحقة من المُثقَّفين
مع ما قُلناه عن تلك الحقبة من القرن الماضي، فلسنا مِمَّن يحُطُّ مِن قيمةِ بعضِ الرُّموزِ الجليلةِ القدرِ وقتَها، المُتفهِّمة لجملة من هذا الفنِّ العزيز مِن فنونِ الشَّريعةِ، أعني منهم بالدَّرجة الأولى (محمَّد رشيد رضا)، في محاولاتِه لإحياِء ما اندثرَ مِن هذا العلمِ، وبَثِّ شيءٍ مِن ثقافتِه في الأوساط العِلميَّة والأدبيَّة.
لكنَّ الشَّيخَ مع هذا - مثله مثل كثيرٍ مِن المُتشرِّعين الإصلاحيِّين وقته - لم ينجُ مِن سطوة التَّيار الكلاميِّ الجاري في أروقةِ أغلب المعاهد الشَّرعيَّة في ربوعِ البلادِ الإسلاميَّة، المُتلكِّئة في حُجِّية الآحادِ في العقائد؛ فرشيد أحدُ خرِّيجيها، وقد ورِثَ مِن تمعقُلات شيخِه (محمَّد عبدُه) في نقدِ النُّصوص الشَّرعيَّة ما ورِث، فضلًا عمَّا علِق في ذهنِه مِن مَقالات المُستشرقين.
فكان لكلِّ هذا الدَّافعُ له لأن يجترِئ على المُحدِّثين في مَواطن مِن كتاباتِه، لأنَّهم في اعتقادِه «قلَّما يُعنَون بغَلَطِ المتونِ فيما يخصُّ مَعانيها وأحكامَها، وإنَّما كانت عِنايتهم التَّامة بالأسانيدِ، وسِياق المتونِ وعباراتها»
(1)
.
(1)
«مجلة المنار» (29/ 37).
ويبلُغَ بـ (رشيد) الغَمز في بديهةِ البخاريِّ ومسلمٍ، إلى أن يَتعقَّبَ اتِّفاقَهما على تصحيحِ حديثٍ أودَعاه كِتابَيهما بقولِه:« .. أمَّا علماء الرَّوايات، فليسوا ممَّن يُطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد المتون»
(1)
!
حتَّى صارَ (رشيد رِضَا) في نَظرِ المناوئين للمُحدِّثين «بحقٍّ مِن أوائلِ المفكِّرين في بدايةِ هذا القرن الَّذين نَبَّهوا إلى ما اعْتَرَى منهجَ المحدِّثين القُدامَى مِن خَلَل، حين رَكَّزوا نقدَهم على السَّنَدِ دون المتنِ»
(2)
.
ولأجل ما كان لـ (رشيدٍ) مِن مكانةٍ في قلوبِ أهلِ الدَّعوة وأرباب القَلَم بمختلفِ مَشاربهم الفكريَّة، فضلًا عمَّا كان لمجلَّتِه «المنار» مِن صيتٍ ذائعٍ؛ فقد تمكَّنت مَقالاته النَّاقمة على منهجِ المُحدِّثين مِن تبوُّئِ مساحةٍ مهمَّةٍ مِن تفكير العقل المُسلم.
وهذه نتيجة طبيعيَّة؛ فإنَّ الرَّأيَ المَدخول -كما يقول الجُرجانيُّ- «إذا كان صُدورُه عن قومٍ لهم نباهةٌ، وصِيتٌ، وعلوُّ منزلةٍ في أنواعٍ مِن العلومِ غيرِ العلمِ الَّذي قالوا ذلك القول فيه، ثمَّ وَقَع في الألسُن، فتداوَلته، ونَشَرته، وفَشا وظَهر، وكثُر النَّاقلون له، والمُشِيدون بذِكرِه: صارَ تَرْكُ النَّظَر فيه سُنَّة، والتَّقليد دينًا؛ فكَم مِن خطأٍ ظاهرٍ، ورأيٍ فاسدٍ، حَظِي بهذا السَّبَب عند النَّاس، حتَّى بوَّأوه أخَصِّ مَوضعٍ مِن قلوبِهم، ومَنحوه المحبَّةَ الصَّادقة مِن نفوسِهم، وعَطفوا عليه عطفَ الأمِّ على واحدِها، وكم مِن داءٍ دَوِيٍّ قد استحكَم بهذه العِلَّة، حتَّى أعْيَا علاجه»
(3)
.
(1)
«مجلة المنار» (33/ 33).
(2)
«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» لمحمد حمزة (ص/211).
(3)
«دلائل الإعجاز» (ص/464) بتصرف يسير.