الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الرَّابع
دفع دعوى حذف البخاريِّ لمِا فيه مَثلبةٌ للفاروق رضي الله عنه بالاختصار
وأمَّا دعواهم على البخاريِّ تعمُّدَ الاختصارِ لمِا فيه مَثلبةٌ للفاروق رضي الله عنه:
فأمَّا مثالهم الأوَّل: فيظهر زيفُ دعوى ذاك المُعترضِ أنَّ البخاريَّ حذف ما يُنبي عن غفلةِ الفاروقِ رضي الله عنه وجهلِه بالحكم مِن جِهتين:
الأولى: مِن جِهة تلبيسِه، حيث إنَّ المُعترِض قد أسقطَ في كتابِه شيخَ مسلمٍ في سندِ هذه القصَّة، واقتصرَ على ذكرِ شعبةَ فمَن فوقَه، ليوهِم القارئ بأنَّ البخاريَّ ومسلمًا قد اتَّفَقا في السَّنَدِ المُتلقَّى منه هذه الحكاية، بل زعمَه تصريحًا! وأنَّهما إنَّما اختلفا في المتنِ لأجل هذا التَصرُّف من البخاريِّ.
بينما الحقيقة خلاف ما أراد أن يُوهِمه، وذل أنَّ مسلمًا إنَّما رواه عن (يحيى بن سعيد القطَّان) عن شعبة، بينما رواه البخاريُّ عن (آدم بن أبي إياس) عن شعبة، فالطَّريقان إذن مُختلفان! هذا أوَّلًا.
وأمَّا ثانيًا: فإنَّ آدمَ ابن أبي إياسٍ هذا هو المُختِصِر للحكايةِ حقيقةً لا البخاري، وشاهدُ ذلك: أنَّها مَرويَّة عند البيهقيِّ مِن طريقِ (إبراهيم بن الحُسين) عن آدم بنِ أبي إياسٍ بنفسِ الإسنادِ الَّذي في البخاريِّ، مِن دون قولِ عمر:«لا تُصَلِّ» ! فدَلَّ على أنَّ البخاريَّ لم يَتَصرَّف في القصَّةِ، بل نَقَلها كما سَمِعها مِن
شيخِه وسمِعَها منه غيرُه، كما قد نَبَّه على ذلك ابن حجرٍ عند شرحِه لهذه الحكايةِ
(1)
.
وأمَّا الجِهة الثَّانية من جِهتي تَزْيِيف دعوى المُعترضِ حذفَ البخاريِّ ما يُنبي عن غفلةِ الفاروقِ رضي الله عنه وجهلِه بالحكم في هذه القصَّة: فإنَّ عمر إنَّما تَأوَّل آيةَ التَّيمُّم لا أنَّه كان يجهلُها! بحيث فهم أنَّ الجُنُبَ لا يشملُه قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43]، ظنًّا منه أنَّ المُلامَسةَ في ظاهرِ الآيةِ ما دون الجِماع
(2)
؛ وحينَ لم تبلُغه الأحاديثُ الخاصَّةُ على خلاف هذا الأصل عنده، رأى البقاء على ظاهرِ قولِه تعالى:{وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
وأمَّا ما حَدَّثه به عمَّار رضي الله عنه: فإنَّما استذكره عمَّارٌ ما جَرى مِنهما في السَّفَر لا سؤالَه النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الظَّاهرَ غياب عمرَ رضي الله عنه عن ذلك، ولو كان شهِد هو هذا الاستفتاءَ مِن عمَّار للنَّبي صلى الله عليه وسلم، لمَا أبقى مَذْهبَه على أنَّ الجُنبَ لا يُجزيه إلَّا الغسلُ بالماء؛ لكنْ حين «أخبرَه عمَّارٌ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ التَّيمُّم يَكفيه: سَكَتَ عنه، ولن يَنْهَه»
(3)
(4)
.
فبَانَ أنْ ليس فيما اجتهَدَ فيه عمرُ رضي الله عنه حَطٌّ مِن قدرِه حتَّى يحتاج إلى ستر البخاريِّ عليه، بل هذا منه مثالٌ مِن أمثلةٍ كثيرةٍ، «تدلُّكَ على أنَّ أخبارَ الآحادِ العُدولِ مِن علمِ الخاصَّة، قد يخفى على الجليلِ مِن العلماءِ منها الشَّيء»
(5)
.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (1/ 443).
(2)
وهو قول ابن مسعود أيضًا، ورُوي عن ابن عمر، وعَبيدة السَّلماني، وأبي عثمان النهدي، والشَّعبي، وثابت بن الحجَّاج، وإبراهيم النَّخعي، وزيد بن أسلم، وغيرهم، انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 961).
(3)
«التمهيد» لابن عبد البر (19/ 273).
(4)
«شرح النووي على مسلم» (4/ 62).
(5)
«التمهيد» لابن عبد البر (19/ 271).
وأمَّا عن المثال الثَّاني الَّذي يُورده (النَّجمي) لتعمُّد البخاريِّ حذف ما يُشعر بذمِّ عمر رضي الله عنه:
فإنَّ الَّذي دَعَا البخاريَّ إلى اختصارِ حديثِ: «ضَرَب صلى الله عليه وسلم في الخمرِ بالجريدِ والنِّعالِ، وجَلَد أبو بكر أربعين»
(1)
، هو عَينُ ما قدَّمنا به جوابَ المثالِ الأوَّل: أي رغبته في الاقتصارِ على المَرفوع منه، فإنَّه مَوضوعُ كتابِه، دون الحاجةِ إلى ما هو مَوقوفٌ مِن اجتهادِ عمر.
وعمر رضي الله عنه لم يكُ جاهلًا بسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في حَدِّ الخمرِ، فإنَّه قد جلَدَ أيضًا صدرًا مِن خلافتِه أربعينَ جلدةً، كما رواه البخاريُّ نفسُه في صحيحه
(2)
!
غير أنَّ النَّاس لمَّا كثروا في دولتِه، وقرُبوا مِن القُرى، كَثُر فيهم شربُ الخمرِ، فلمَّا «جاءت الآثار مُتواترةً أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن يقصِدُ في حَدِّ الشَّاربِ إلى عددٍ مِن الضَّرب مَعلوم، حتَّى لقد بَيَّن في بعضِ ما رُوِي عنه نَفيُ ذلك، مثل ما رُوِيَ عن عليٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ماتَ، ولم يَسُنَّ فيه حدًّا»
(3)
: عُلِم أنَّها راجعةٌ إلى تقديرِ الإمامِ، فلذا ارتأى الفاروقُ مشورةَ أصحابِه رضي الله عنهم في الزِّيادةِ فيها عقوبةً وزجرًا لشارِبها.
وأمَّا مثال (النَّجمي) الثَّالث على تعمُّد البخاريِّ حذف ما يُشعر بذمِّ عمر رضي الله عنه:
فدحضُ حجَّةِ اتِّهامه للبخاريِّ بالاقتصارِ على لفظ: «نُهِينا عن التَّكلُّف»
(4)
دون تمامه الَّذي فيه جهل عمر رضي الله عنه بمعنى الأبِّ: يظهرُ في نفسِ ما قدَّمنا به
(1)
أخرجه البخاري (ك: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، برقم: 6773).
(2)
كما جاء في حديث السائب بن يزيد في البخاري (ك: الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال، برقم: 6397).
(3)
«شرح معاني الآثار» للطحاوي (3/ 155).
(4)
أخرجه البخاري (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلُّف ما لا يعنيه، برقم: 7293).
جوابَ سابِقَيه: أي أنَّ البخاريَّ قد اقتصَرَ كعادته على ما هو مَرفوعٌ مِن الحديث؛ وابن حَجرٍ سبق أن بَيَّن هذا في شرحه
(1)
، ولكنَّ المُعترِضَ يتَعامى.
ثمَّ إنَّ البخاريَّ قد حَذَف مِن هذا الحديثِ ما لا تَعلُّق له بترجمة بابِه، فإنَّ الباب لِما يُفيدُ النَّهيَ عن التَّكلُّفِ، وفي قولةِ عمر رضي الله عنه ما يُفيد النَّهي عن تكلُّف جوابِ ما لا يَعلَمُه الإنسانُ ولا يَلزَمُه، وهذا حقُّه بحسبِ منهجِه في تصنيفِ كتابِه.
أمَّا دعوى بعض الإماميَّةِ منعَ الفاروقِ للاستفسارِ عن غريبٍ القرآن:
فما أبعدَه أن يكون قَصَدَه هو تحديدًا رضي الله عنه، فهو الَّذي كان يُسأل عن الآيةِ فيُجيب
(2)
، بل يُبادر إلى سؤال جُلسائِه عن آياتٍ مِن كتاب الله تعالى مِن بابِ المدارسةِ والاختبار
(3)
.
وليس في مَقولِ عمر رضي الله عنه ما يُشبه النَّهيَ عن تَتبُّعِ معاني القرآن أو البحثِ عن مُشكلاتِه، ولكنَّ عمر وسائر الصَّحابة معه -كما قالَ الزَّمخشريُّ- «كانت أكبرُ هِمَّتهم عاكفةً على العمل، وكان التَّشاغل بشيءٍ مِن العلم لا يُعمَل به تَكلُّفًا عندهم؛ فأرادَ رضي الله عنه أنَّ الآيةَ مَسوقةٌ في الامتنانِ على الإنسانِ بمَطعمه واستدعاءِ شُكرِه، وقد عَلِم مِن فحوى الآيةِ أنَّ الأبَّ بعضُ ما أنبَتَه الله للإنسانِ، متَاعًا له أو لإنعامه.
فعليكَ بما هو أهمُّ مِن النُّهوضِ بالشُّكرِ لله -على ما تَبيَّن لك ولم يُشكل- مِمَّا عَدَّد مِن نِعَمِه، ولا تَتَشاغل عنه بطلبِ معنى الأبِّ، ومَعرفةِ النَّباتِ الخاصِّ الَّذي هو اسمٌ له، واكْتفِ بالمعرفةِ الجُمليَّة، إلى أن يَتبيَّن لك في غيِر هذا
(1)
«فتح الباري» (13/ 272).
(2)
من ذلك سؤاله عن قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، كما في البخاري (ك: النكاح، باب: موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، برقم: 5191)، ومسلم (ك: الطلاق، باب: باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى:{وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ، برقم: 1479).
(3)
كما في قصة سؤاله لهم عن قولهم في آيات سورة النصر، عند البخاري في (ك: تفسير القرآن، باب: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، برقم: 4970).
الوقت؛ ثمَّ وَصَّى النَّاسَ بأن يُجرُوا على هذا السَّنن، فيما أشبه ذلك مِن مشكلات القرآن»
(1)
.
والَّذي يظهر من سَببِ جهلِ الفاروق رضي الله عنه بحقيقةِ ما يَقع عليه اسمُ الأبِّ مِن أنواعِ العُشب، مع كونِه مِن خُلَّص العَرب، أحدُ سَبَبيْن كما يقول الطاهر بن عاشور:
«إمَّا لأنَّ هذا اللَّفظ كان قد تُنوسيَ مِن استعمالهم، فأحياه القرآن لرعايةِ الفاصلة، فإنَّ الكلمةَ قد تشتهر في بعضِ القبائلِ، أو في بعضِ الأزمان، وتُنسَى في بعضِها، مثل اسمِ السِّكين عند الأوْسِ والخزرج، فقد قال أنس بن مالك: «ما كُنَّا نقول إلَّا المُديَة، حتَّى سمعتُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يذكًر أنَّ سليمان عليه السلام قال:(اِيتوني بالسِّكِين، أقسِّم الطِّفل بينهما نصفين)!
وإمَّا لأنَّ كلمةَ (الأبِّ) تُطلَق على أشياء كثيرةٍ، منها النَّبت الَّذي ترعاه الأنعام، ومنها التِّبن، ومنها يابسُ الفاكهة، فكانَ إمساكُ عمرَ عن بيانِ معناه، لعدمِ الجزمِ بما أراد الله منه على التَّعيِين، وهل الأبُّ ممَّا يَرجع إلى قوله:{مَتَاعاً لَّكُمْ} ، أو إلى قوله:{وَلأَنْعَامِكُمْ} في جمعِ ما قُسِّم قبله .. »
(2)
.
وبهذه الأجوبة المُتظافرة على ما أورده (صادق النَّجميُّ) من أمثلة، ظهر لكلِّ مُنصفٍ أنَّ البخاريَّ بَريءٌ مِن تُهمةِ التَّحيُّزِ الطَّائفيِّ في تقطيعِه لمتون الأحاديثِ واختصارِها، بل هو في ذلك مُتجرِّد لموضوعِ كتابِه، والاستدلالِ لكلِّ بابٍ من أبوابِه بما يُناسبه من المتون.
الأمر الَّذي أقرَّ به أحدُ الباحثِينَ من الإماميَّة أنفسِهم، ناقمًا على (النَّجمي) وصمَه لصَنيعِ البخاريِّ في تلك الأمثلة بعدم المَوضوعيَّة، واستضعفَها مِنه في مَقامِ المُحاجَجةِ لأهل السُّنة، قائلًا بعد نقلِه إحدى ما سلف من أمثلةِ (النَّجميِّ):
«هذا الشَّاهد جَيِّد لو أنَّنا دَرَسنا تجربةَ البخاريِّ، ولم نجِد سِوى هذه الشَّواهد وأمثالها هنا، ففي هذه الحال نَعرف التَّحيُّزَ والعصبيَّة؛ لكنَّ ظاهرةَ
(1)
«الكشَّاف» للزمخشري (4/ 705).
(2)
«التَّحرير والتنوير» لابن عاشور (30/ 133).
التَّقطيعِ عند البخاريِّ ظاهرةٌ عامَّة في مُجمل رواياتِه، لا تختصُّ بهذه المَوضوعات والمِلفَّات، تمامًا مثل ظاهرة التَّقطيع الَّتي غَلَبت على كتابِ «تفصيلِ وسائلِ الشِّيعة» للحرِّ العاملي!
يُضاف إلى هذا كلِّه، أنَّ مُجرَّد العثورِ على بضعةِ مَوارد قليلةٍ .. لا يُثبت تُهمةً بهذا الحجم! لاسِيما وأنَّنا نعرفُ أنَّ هناكَ الكثيرَ مِن الرِّواياتِ -حتَّى في المَصادرِ الشِّيعيَّة! - يأتي مَقطعٌ منها في كتاب، وأكثر مِن ذلك في كتابٍ آخر، كلٌّ حسَبَ ما وَصَله، أو حسبَ طريقتِه»
(1)
.
(1)
«مَوقف الإماميَّة مِن الصَّحيحين» لحيدر حب الله (ص/54).