الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
محمَّد رشيد رضا (ت 1354 هـ)
(1)
، وموقفه مِن «الصَّحيحين»
الفرع الأوَّل: لمحة عن تأثُّر رشيد رضا بشيخه عبدُه.
محمَّد رشيد رضا من أكثر رجالات الفكر الإسلاميِّ تأثيرًا في عصره، قد تخرَّج في مدرسته عدَّة حركاتٍ وأقلامٍ كان لها وقعها الإصلاحيُّ الظَّاهر في ساحات التَّدافع الحضاريِّ، كجمعية العلماء المسلمين بالجزائر، حيث تأثَّر به كبار رُوَّادها كابن باديس والبشير الإبراهيمي، وجماعة الإخوان المسلمين بمصر الَّتي أسَّسها حسن البنَّا تلميذه.
بل هذا ناصر الدِّين الألبانيُّ نفسه -وهو الأب الرُّوحيُّ للسَّلفيَّة المعاصرة- من خرِّيجي مدرسته النَّقديَّة، فقد تأثَّر مطلعَ شبابه بالأعداد الَّتي كانت تصلهم في دمشق من مجلَّته «المنار» ، فحبَّبت إليه دراسة علم الحديث، ورسمت المعالم
(1)
محمَّد رشيد بن علي رضا القَلَموني: البغدادي الأصل، الحُسيني النَّسب، أحدُ رجالات الإصلاح الإسلاميِّ، مِن الكُتَّاب، والعلماء بالحديث، والأدب، والتَّاريخ، والتَّفسير. وُلد ونَشَأ في القَلَمون من أعمال طرابلس الشَّام، وتعلَّم فيها وفي طرابلس، ثمَّ رَحَل إلى مصر (سنة 1315 هـ) فلازَم محمد عبُده، وكان قد اتصَّل به قبل ذلك في بيروت، ثمَّ أصدرَ مجلَّة (المنار) لبثِّ آرائِه في الإصلاح الدِّيني والاجتماعيِّ، حتَّى أصبح مَرجع الفُتيا، في التَّأليف بين الشَّريعة والأوضاع العصريَّة الجديدة.
ثمَّ رحل إلى الهند والحجاز وأوربا، وعاد مُستقرًا بمصر إلى أن تُوفِّي فجأةً في سيَّارة، كان راجعًا بها من السُّويس إلى القاهرة، ودُفن بالقاهرة؛ من أشهر آثاره غير مجلة «المنار»:«تفسير المنار» في اثني عشر مجلدا منه، ولم يُكمله، انظر «الأعلام» (6/ 125).
الأولى لتوجُّهه الفقهيِّ غير المذهبيِّ؛ فكان يُثني على علم رشيد رضا، مع تحفُّظه على عقلانيَّته الَّتي اكتسبها من شيخِه عبدُه.
ولا شكَّ في كونِ هذا العَلَمِ الشَّاميِّ الشَّريفِ، وَريثَ المُؤَسِّسَين الأوَّلَيْين للنَّهضة الإصلاحِيَّة العِلميَّة -الأفغانيِّ وعبدُه-، إذْ كان بحَقٍّ ناشرَ أفكارِهما، ومُروِّجَ آرائِهما، حتَّى جعله أستاذُه عبدُه «تُرجمان أفكاره»
(1)
.
ومع كون رشيدٍ مُعجبًا بفكرهما، تلميذًا في مدرستهما، إلَّا أنَّه فاقَهما في الأخذِ بزِمامِ بعضِ العلومِ الشَّرعيَّة الَّتي ضَعُفا فيها، كعلمِ الحديث ومعرفةِ مُصنَّفاتِه، مع اطِّلاعٍ منه واسعٍ على المُستجدَّات السِّياسيَّة، والمُحدَثات التَّقنيَّة في عصرِه؛ فكان أن بلَغَ صيتُه الآفاق، وسُوِّدَت في مَديحِه الأوراق، حتَّى «فاقَت البحوثُ الَّتي كُتِبَت عنه ما كُتِب عن أُستاذِه عبُده عَدَدًا ومَوضوعًا»
(2)
.
و (رشيد رضا) لم يكُن ليَسلك هذا المسلكَ الجديدَ في الانفتاحِ على الثَّقافة الغَربيَّة إلَاّ بعد ارتوائه ممَّا كان ينشُره (الأفغانيُّ) و (عَبدُه) من مَقالاتٍ في مجلَّتهما «العُروة الوُثقى» ، الصَّادرةِ وقتَها مِن عاصمةِ فَرنسا.
فكأنَّه حين تتابَعت قراءَته لها فَعَلت في نفسِه فِعلَ السِّحر! أدركَ بها أنَّه مع ما كان بَدَأ به دعوَته الإصلاحيَّةِ مِن حَثِّ النَّاسِ على التزامِ الشَّرعِ واجتنابِ المُنكرات، أن يرشدهم إلى الاستفادةِ مِن المَدنيَّة الحَديثةِ ومُنجَزاتها، بل مُباراتِهم في جميع مُقوِّمات الحياةِ المُعاصرة، والتَّرغيبِ في نَقلِ ما عند الإفرنجِ مِن علومٍ وقوانينَ لا تَتعارض مع الإسلام
(3)
.
ولأجلِ تحقيق هذا المَشروعِ الإصلاحيِّ الجديد، ترْجَم (رشيد) كلَّ تصوُّراتِه المُعدَّلة لبعثِ النَّهضةِ في الأمَّة في مَجلَّتِه «المَنار» ، فصارت بمجرَّد صدورِ أعدادِها الأولى لسانَ كثير من المُفكِّرين السَّاعينَ إلى تَجديدِ الحياةِ العِلميَّةِ
(1)
«مجلة المنار» (35/ 480).
(2)
«منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة» لتامر متولي (ص/98).
(3)
«تاريخ الأستاذ الإمام» لرشيد رضا (1/ 84 - 85).
والسِّياسيَّةِ في تلك الحِقبة؛ وممَّا أولاه فيها عنايةً كبيرةً: قضايا التَّشريعِ الإسلاميِّ، ومَناهج الاستدلال، وسُبل التَّجديدِ فيها، والتَّنقيح في مَصادر التَّلقِّي.
ومِن أبرز ما تميَّز به (رشيد رضا) عن أكثرِ مُعاصريه: التَّطرُّق إلى قَضايا السُّنة النَّبوية، وإشكالاتِها المُعاصرة، أصدرَ في مجلَّتِه آراءً واختيارات مُتباينةً، فجاءت مَباحثُه فيها في قوالب شَتَّى وسِياقاتٍ مُختلفة، أصَلَّ في مَسائِلها وقَعَّد، ونَظَّر في دلائلِها وعَضَّد، بحسبِ الخلفيَّة الفكريَّة الَّتي اكتسبَها قبلُ مِن شيخِه (عبدُه).
فما لبثت أنْ صارَت آراءُه تلك مَثارَ جَدلٍ عَريضٍ في الأوساطِ المُثقَّفة والمُتشرِّعةِ، وفَتَحت مَجالًا واسعًا مِن المُوافقات والمُناقشاتِ والرُّدود، وذلك على امتدادِ خمسٍ وثلاثين سنةً، اتَّسَعَ صدرُ الشَّيخ لنشرِ بعضِها في مجلَّتِه نفسِها.
الفرع الثَّاني: موقف (رشيد رضا) مِن أحاديثِ السُّنةِ عمومًا.
قد سارَ (رشيدٌ) في الطَّورِ الأطولِ مِن حياتِه على وفقِ ما سارَ عليه كثيرٍ من المُتأخِّرين الأصوليِّين مِن القولِ بظنيَّةِ الآحادِ مُطلقًا، فأوجبوا العملِ بها في الفروع، ومَنعوا حُجِّيتها في مَسائل الاعتقاد القطعيَّة
(1)
؛ فكان أن أوغلَ لأجل ذلك في تَنصيبِ العقلِ حَكَمًا على الأحاديث في مَواضع مِن مجلَّتِه، مُتَعلِّلًا عند كلِّ قدحٍ في أحدها بجُملةٍ مِن الحُجَج الكَلاميَّة هي عينُها حُجَج شيخِه (عبدُه)
(2)
.
و (رشيدٌ) وإن كان دَندَن على ظنِّيَة الآحادِ مِرارًا في عددٍ مِن مَقالاتِه، إلَّا أنَّ اضطرابَه في ضبطِ المُرادِ بالظَّن المُستفاد منها كان واضِحًا لمن قابلَ بين كلامِه في هذه المسألة، اضطِرابًا يَصِل حَدَّ التَّناقض أحيانًا! ففي الوقتِ الَّذي نراه مُقِرًّا لترادُفِ الظَّن مع العلمِ في لغة العربِ، وأنَّه حُجَّة بذلك في الإيمان الشَّرعي، نَراه
(1)
انظر «مجلة المنار» (7/ 361).
(2)
انظر - مثلًا - مقال محمَّد عبده «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» ، الَّذي نَشَره له رشيد رضا في «مجلَّة المنار» (13/ 613).
في مواضعَ أُخَرَ يَمنعُ الأخذَ به في بابِ الاعتقاد، مُستشهدًا في ذلك بالآيات الذَّامةِ للظَّن
(1)
.
فلذا سَوَّغ لنفسِه رَدَّ بعضَ الصِّحاحِ عند أهلِ الحديث إذا استشكلَها أو لم يجِد لها فائدة، كأحاديث أشراطِ السَّاعة مثلًا، فإنَّ هذه وإن كانت في مَجموعِها تَلقَّتها الأمَّة بالقَبول، فإنَّ ذلك لم يمنعه مِن استنكارِها، وما الضَّيرُ في ذلك عنده مادامت غير قطعيَّة الثُّبوت!
(2)
.
لقد كانَ بالإمكانِ حملُ هذا الاختلافِ مِن (رشيدٍ) على النَّسخِ وتَغيُّرِ القَناعات، كما كان حالُه مع الاحتجاجِ بالسُّنة القوليَّة آخر عمره، حيث كان يحصُر الاحتجاجِ فيها بالعَمليَّة فحسب، ثمَّ تركَ ذلك آخرَ عُمره
(3)
؛
(1)
انظر «آراء رشيد رضا في قضايا السنة النبوية» لمحمد رمضاني (ص/166).
(2)
«تفسير المنار» (9/ 407).
(3)
كما نقله مصطفى السِّباعي عنه شفاهًا في كتابه «السنة ومكانتها في التشريع» (ص/30).
والسِّباعيُّ رجلٌ قد خَبَر رشيدًا وخالَطه، وعلِم من حاله ما جَعَله يؤكِّد أنَّه كان يقول بحجيَّة السُّنة القوليَّة في آخر عمرِه، وهذه شهادةُ من السِّباعي تُعزِّزها مقالات (رشيد رضا) في مجلته «المنار»؛ ولذا كان مِن خطايا الطَّاعنين في السُّنَن: استشهادهم على قُبحِ فِعالِهم ببعضِ مَقولاتٍ لرشيدٍ قديمة، مِن قبيلِ قوله مثلًا:«إنَّ ما وَرَد في عدم رغبة كبار الصَّحابة في التَّحديث، بل فى رغبتهم عنه، بل فى نهيهم عنه، قوَّى ترجيحَ كونِهم لم يُريدوا أنْ يجعلوا الأحاديثَ دينًا عامًا دائمًا كالقرآن» ، كما في «مجلة المنار» (10/ 768).
فترى (أبو ريَّة) في كتابه «الأضواء» (ص/48 - 50) ينقُل هذا الكلامَ، ويعتمده مذهبًا لرشيدٍ، ويُقرُّه على ذلك (جمال البنَّا) فى كتابِه «السُّنة ودورها فى الفقه الجديد» (ص/225)؛ ولو بُعث رشيد رضا، لكان أوَّل مَن يَردُّ عليهما في أكثر مِن موضع مِن كتابيهما!
كان بالإمكانِ حَملُ الأمرِ على مثلِ هذا؛ لكنَّ قول رشيدٍ كان مُضطربًا في العَددِ الواحدِ مِن مجلَّتِه! فالله أعلم بمُرادِه.
والَّذي أحسبُ أنَّ شيخَه (عبدُه) أكثر توازنًا في موقِفه مِن مَفادِ الأخبارِ النَّبويَّة -مع خطأِه في ذلك- مِنه، حين اشترطَ اليقينَ المنطقيَّ للإيمان، فهو يَتَوافق مع مَوقفِه مِن خبرِ الآحاد
(1)
.
الفرع الثَّالث: موقف (رشيد رضا) مِن أحاديث «الصَّحيحين» .
النَّاظر في أعطافِ مجلَّتِه «المَنار» ومَطاوي تفسيرِه الجليل «تفسير المَنار» ، يلحظُ تأثُّرَ رشيدٍ بالمُحيطِ الفكريِّ السَّائدِ حيث نَشَأ، وبما تَلقَّاه مِن مَفاهيم نقديَّةٍ مِن أستاذِه عبدُه خاصَّةً؛ يُرى هذا التَّأثُّر باديًا في نَظرتِه الإجماليَّةِ إلى أحاديثِ «الصَّحيحين» ، فتَراه يتَّسِم بالإيجابيَّةِ في تَعاطيه معها تارةً، وبالسِّلبيَّةِ وضيقِ العَطنِ تارةً أخرى، مُقرًّا هو في كلِّ ذلك أنَّهما أصَحُّ دواوين السُّنةِ على الإطلاق، كما تراه في قولِه:
(2)
.
و (رشيدٌ) يُعلي مِن مَقامِ الشَّيخينِ في علمِ الرِّواية، ويجعَل قولَهما الأصلَ المُقَدَّم في تعليلِ الأحاديث وتوثيقِها عند الاختلافِ، بيَّن هذا في قوله: «مَن دَقَّق النَّظرَ في تاريخ رجالِ الصَّحيحين، ورواية الشَّيخين عن المَجروحين منهم، يَرى
أكثرَها في المُتابعاتِ الَّتي يُراد بها التَّقوية، دون الأصول الَّتي هي العُمدة في الاحتجاج، ثمَّ إذا دَقَّق النَّظرَ فيما أنكروه عليهما مِمَّا صَحَّحاه مِن الأحاديث، يجدُ أنَّ أقوالهما في الغالبِ أرجحُ مِن أقوالِ المُنازعين لهما، لا سيما البخاري، فإنَّه أدَقُّ المُحدِّثين في التَّصحيح، ولكنَّه ليس مَعصومًا مِن الغلطِ، والخطأِ في الجرح والتَّعديل .. »
(1)
.
ثمَّ أيَّدَ هذا التَّقريرَ منه بنقلِ اتِّفاقِ أئمَّة العلمِ على صِحَّة الكتابين، وسلامةِ أغلبِ رجالِهما مِن الجرح
(2)
(3)
.
ونتيجةً لهذا التَّوصيف، كان جَزمُه بقطعيَّةِ أغلبِ أحاديثِ الكِتابين مِمَّا لا يعلم اختلافًا فيه، كما قد أقرَّ به في قولِه:« .. فمَن فقه ما شرحناه: عَلِمَ أنَّ أكثرَ الأحاديث الأُحاديَّة المتَّفق على صِحِّتها لذاتِها، كأكثرِ الأحاديثِ المُسندَة في صَحيحي البخاريِّ ومسلم، جديرةٌ بأن يُجزَم بها جزمًا لا تَردُّدَ فيه ولا اضطراب»
(4)
.
وبالتَّالي كانت دعوى نَفاذِ شيءٍ مِن المَوضوعات فيهما عند (رشيدٍ)«بالمعنى الَّذي عَرَّفوا به المَوضوع في علمِ الرِّواية ممنوعةٌ، لا يَسهُل على أحدٍ إثباتُها»
(5)
.
و (رشيد رضا) مع ما له مِن هذه المواقف النَّاصِعة مِن «الصَّحيحين» ، المُوافِقُ هو فيها لمِا عليه أهلُ الحديث قديمًا وحديثًا، يُهوِّش -أحيانًا- على ذلك ببعض العِبارات الجارِحة لجملةٍ مِن أحاديثِهما مِمَّا لم يُسبَق فيه مِن ناقدٍ معتبر،
(1)
«مجلة المنار» (12/ 693).
(2)
«مجلة المنار» (12/ 693).
(3)
«مجلة المنار» (12/ 693).
(4)
«مجلة المنار» (19/ 342).
(5)
«مجلة المنار» (29/ 81).
استنكرَها إذْ لم يستسغها فهمُه، مُتحجِّجًا في ذلك بأنَّه «ما كَلَّف الله مُسلمًا أن يقرأ صحيح البخاريِّ ويؤمن بكلِّ ما فيه وإن لم يَصحَّ عنده، أو اعتقدَ أنَّه يُنافي أصول الإسلام»
(1)
! مع أنَّها من المُتَّفق علي صحَّته لذاتها كما شرطَ في نصِّه السَّابق!
فقد نَقَض بهذه الكلمات ما سُقناه عنه آنفًا مِن كلامِه عن المَوضوعات في «الصَّحيحين» ، إذ حَكَم بنفسه على جملةٍ مِن أحاديثِ الكِتابين بالوَضع! وهو الَّذي حجَّر هذه الدَّعوى قبلُ؛ فتوهَّم فيها «بعض ما عَدُّوه مِن علاماتِ الوَضع؛ كحديثِ سحرِ بعضِهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
الفرع الرَّابع: أحاديثُ «الصَّحيحين» الَّتي أعَلَّها (رشيد رضا).
قد أحصيتُ عددَ الأحاديث الَّتي ردَّها رشيدٌ في «الصَّحيحين» مِن جهة متونِها، فبلغت عندي ثلاث عشرة حديثًا، لا يأتيها الشَّيخ دائمًا في صورةِ الإنكار لثبوتِها، ولكن أحيانًا ينقُل إشكالًا على متنِ منها، ثمَّ يتركه وحالَه دون جواب عنه! وهو ما يُعطي انطباعًا راجحًا بأنَّه مائلٌ إلى إنكاره، هذا إن لم يكن هو مَن أثارَ تلك الإشكالات على الحديث ابتداءً!
ثمَّ إذا حاولَ رفعَ الإشكال عن الحديث، فقد يَتعسَّف في تأويلِه بما قد يؤول إلى إبطالِ دلالته
(3)
.
والمُلاحَظ في أغلبِ هذه الأحاديثِ الَمردودة مِن قِبَلِه أنَّها مِن بابِ أشراطِ السَّاعة، فقد اشتهر (رشيدٌ) بردِّها، بل عنه ينقلُ بعضُ الطَّاعنين في السُّنة في هذا الباب
(4)
؛ هذا والوارد في هذا البابِ مِن الأشراط غفيرٌ، و (رشيد) إنَّما يَردُّ بعضَ الصِّحاحِ من الأخبار بقناعةٍ هو يَراها أصلًا كُليًّا يَعرِض عليه مثل هذه الآحاد.
(1)
«مجلة المنار» (29/ 37).
(2)
«مجلة المنار» (29/ 81).
(3)
انظر «آراء محمد رشيد رضا في قضايا السنة النبوية من خلال مجلة المنار» (ص/414).
(4)
مثل (صالح أبو بكر) في كتابه «الأضواء القرآنية» (ص/66).
وقناعتُه في هذا البابِ مِن أحاديث أماراتِ السَّاعة مُنبنيةٌ على مُعارضَين عقلِيَّين:
الأوَّل: أنَّ أشراطَ السَّاعة الصُّغرى المُعتاد مثلُها، والَّتي تَقَع عادةً بالتَّدريج، لا تُذكِّر بقيامِ السَّاعة، فلا تَتَحصَّل بها الفائدة الَّتي لأجلِها أخَبرَ الشَّارعُ بقُربِ قيامِ السَّاعة
(1)
.
الثَّاني: أنَّ ما وَرَد مِن الأشراطِ الكبرى الخارقةِ للعادة؛ يَضعُ العالم بها في مَأمنٍ مِن قيامِ السَّاعة بغتةً، مثل وقوعها كلِّها؛ فانتَفَت الفائدةُ إذن مِن هذا الإخبار
(2)
.
والجواب عمَّا أوردَه على هذا النَّوع مِن الأحاديث يتَلخَّص في الأوجهِ التَّالية:
الوجه الأوَّل: أنَّ هذا الاعتراضَ وإنْ رَاشَه رشيدٌ على تلك الصِّحاح مِن الأخبار، فإنَّه قد فاتَه أنَّ نفس الاعتراض يَسري إلى الآياتِ النَّاصةِ على أنَّ للسَّاعةِ أَشْراطًا، سواء بسواء!
مِن ذلك قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18].
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61].
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96 - 97].
وبهذا الإلزام يَغرقُ أيُّ مُنكِرٍ لها في مَخَاضَةٍ لا مَحيصَ له عنها، إلَّا باتِّهامِ رأيِه قبل التَّسارع في الطَّعنِ على الدَّلائل ببادِي الرأيِّ.
(1)
«تفسير المنار» (9/ 407).
(2)
انظر «تفسير المنار» (9/ 407)، و «مجلة المنار» (32/ 772).
الوجه الثَّاني: أنَّا لو سَلَّمنا لرشيدٍ حصولَ الأمنِ لَدى بعضِ الخلقِ، فلا ينفي ذلك حصولَ الخوفِ عند غيرهم، وحصولُ الانحرافِ في فَهمِ بعضِ الأدلَّة لا يكون باعِثًا لرَدِّها؛ وإلَّا لَلَزِم رَدُّ كثيرٍ مِن نصوصِ الشَّريعة، بحُجَّة أنَّها قد تكون حاملةً على الاتِّكالِ والقعودِ، ككثيرٍ مِن أحاديث القَدَر.
والفقيهُ حَقًّا، مَن بَصَّر النَّاسَ بحقيقةِ هذه الأشراطِ وحِكمتِها؛ ليَستَقِرَّ أثَرُها في القلوب؛ ومِن ثَمَّ تَنبعِثُ الجوارح تَأهُّبًا ليومِ المَعاد، لا أنْ يُتَسَلَّط على تلك الأحاديثِ بالتَّعطيل لها تعلُّقًا بكلٍّ سَببٍ
(1)
.
الوجه الثَّالث: أنَّ مِن مَثاراتِ الغَلَطِ في هذه الدَّعوى: نَصْبَ التَّلازم بين التَّصديق بهذه الأشراط، وبين انتفاءِ ما اختصَّت به السَّاعة مِن مَجيئها بغتةً؛ والواقع أنَّ التَّلازُمَ مُنْتَفٍ، فإنَّ هذه الأشراط الَّتي صحَّت الأخبارُ بها، غايتُها أنْ تَتَميَّز بها السَّاعة قدرًا مِن التَّميِيز، وأمَّا التَّحديد التَّام، فهو مِن الغيبِ المُطلق الَّذي اختصَّ الله به.
فقال جلَّ ذكرُه: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34].
يقول ابن جريرٍ: «ممَّا أنزلَ الله مِن القرآن على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ما لا يُوصَل إلى علمِ تأويلِه، إلَاّ ببيانِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم .. وأنَّ منه مالا يَعلم تأويلَه إلَّا الله الواحد القهَّار، وذلك ما فيه مِن الخَبَر عن آجالٍ حادثة، وأوقاتٍ آتيةٍ؛ كوقتِ قيامِ السَّاعة، والنَّفخ في الصُّور، ونزولِ عيسى ابن مريم، ووقتِ طلوع الشَّمس مِن مَغربها، وما أشبه ذلك.
فإنَّ تلك أوقاتٌ لا يعلمُ أحدٌ حُدودَها، ولا يَعرف أحدٌ مِن تأويلِها إلَّا الخبرَ بأشراطِها؛ لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك على خلقِه، وبذلك أنزل ربُّنا في مُحكمِ كتابِه .. ، وكان نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَر شيئًا مِن ذلك، لم يُدلَّ عليه إلَّا بأشراطِه، دون تحديدِ وقتِه؛ كالَّذي رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابِه -إذْ ذَكر الدَّجَّال-: «إنْ
(1)
«دفع دعوى المُعارض العقليِّ» (ص/423).
يخرُج وأنا فيكم، فأنا حَجيجُه، وإنْ يخرُجْ بعدي، فالله خَليفتي عليكم»
(1)
، وما أشبه ذلك مِن الأخبار .. الدالَّةِ على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكُن عنده علِمُ أوقاتِ شيءٍ منه بمَقادير السِّنين والأيَّام، وأنَّ الله -جلَّ ثناؤه- إنَّما عَرَّفه مجيئَه بأشراطِه، ووقتَه بأدلَّتِه»
(2)
.
ومحصَّل القول:
أنَّ هذه الأشراطَ إنَّما تدلُّ على قُربِ السَّاعة، لا على تحقُّقِ العلمِ بوقوعِها، «فالسَّاعةُ كالحامِلِ المُتِمِّ؛ لا يدري أهلُها متى تَفجؤُهم بولادتِها، ليلًا أو نهارًا»
(3)
، وعِلَّة ذلك: انتفاءُ العلمِ بالمُدَّة الزَّمنية بين تلك الأَشراطِ وبين وقوعِ السَّاعة، وبهذا يكون الأمرُ نقيضَ ما ذَكَره رشيدٌ؛ بأنْ يكون العِلمُ بهذه الأشراط باعثًا على العَملِ، مُوقِظًا مِن الغفلة، زاجِرًا عن التَّمادي في المعاصي.
وهل قَطَّع قلوبَ الصَّالحين، وأذابَ أكبادَهم، كمثلِ تَذكُّر تلك الأهوال العِظام، وما فيها مِن فِتَنٍ تفزعُ منها القلوب
(4)
؟!
فهذا مثال واحدٌ لبابٍ مِن الحديثِ ردَّه (رشيدٌ) بعامَّةٍ وهو في «الصَّحيحين» ، وقد علمنا ضعف مأخذه في ذلك.
أمَّا الأحاديثُ الَّتي رَدَّها بالتَّفصيلِ وهي في أحدِ «الصَّحيحين» فهي مُحصاة عندي في التَّالي:
1 -
حديث «إذا سَقَط الذُّباب في إناءِ أحدِكم .. »
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الفتن وأَشراط السَّاعة، باب: ذكر الدَّجَّال وصفة ما معه، رقم: 2937).
(2)
«جامع البيان» (1/ 68).
(3)
جزء من حديث ورد مرفوعًا من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 3556)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 416) وصحَّحه، وضعَّفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (9/ 307).
(4)
«دفع دعوى المُعارض العقليِّ» (ص/424)، وانظر لمزيد تفصيلٍ في ردِّ مُعارضاتِ المعاصرين لأحاديثِ الأشراط في «موقف المدرسة العقلية الحديثة مِن الحديث النبوي» لـ د. شفيق شقير (ص/283 - 352).
(5)
«المنار» (18/ 433)(19/ 37).
2 -
حديث تميم الدَّاري في الجسَّاسة
(1)
.
3 -
حديث شقِّ صدره صلى الله عليه وسلم في الصِّغر
(2)
.
4 -
أحاديث الإسراء والمعراج
(3)
.
5 -
أحاديث خروج الدَّجال
(4)
.
6 -
حديث انشقاق القمر للنَّبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
7 -
حديث سجود الشَّمس تحت العرش
(6)
.
8 -
حديث سحرُ اليهوديِّ للنَّبي صلى الله عليه وسلم
(7)
.
9 -
نزول عيسى عليه السلام آخرَ الزَّمان
(8)
.
10 -
حديث: «اكفتوا صبيانكم عند المساء فإنَّ للجنِّ انتشارًا وخطفةً»
(9)
.
11 -
حديث: «ما بين النفختين أربعون .. ثمَّ ينزل الله من السَّماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل»
(10)
.
12 -
حديث وخزِ الشَّيطان للمَولود
(11)
.
(1)
«المنار» (19/ 37)
(2)
«المنار» (19/ 529)(33/ 276)
(3)
«المنار» (6/ 506)
(4)
«المنار» (28/ 747)
(5)
«المنار» (6/ 67)(30/ 261)
(6)
«المنار» (12/ 693)
(7)
«المنار» (8/ 771)
(8)
«المنار» (5/ 135)
(9)
«المنار» (29/ 37)، والحديث أخرجه البخاري في (ك: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق، يقتلن في الحرم، رقم: 3316)، ومسلم في (ك: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب .. إلخ، رقم: 2012).
(10)
«تفسير المنار» (8/ 418)، والحديث أخرجه البخاري في (ك: التفسير، باب {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} ، رقم: 4935)، ومسلم في (ك: الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين، رقم: 2955).
(11)
«تفسير المنار» (3/ 238).
13 -
حديث إسلام شيطان النَّبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وسيأتي نقاشه في أكثرها في الباب الثالث من هذا البحث.
الفرع الخامس: الأصلُ الَّذي انبنَى عليه مَوقف (رشيد رضا) مِن أحاديثِ «الصَّحيحين» .
إنَّ المتأمِّلَ في جملةِ أقوالِ (رشيدٍ) وتَصرُّفاتِه بأحاديث «الصَّحيحين» تحديدًا، يَلوح له نوعُ تناقضٍ في تعاطيه معها، بين ما قَدَّمناه عنه مِن تسليمِه بصحَّةِ القدرِ المُتَّفق عليه مِن أحاديثِهما، وبين طعنِه العَمليٍّ في بعضٍ مِن ذلك.
ولعلَّ في هذا ما يُنبِي النَّاظر في تطبيقاتِه عن نوعِ الصِّحةِ الَّتي يَعنِيها في كلامِه المُتمَدِّح للكِتابين: إنَّها الصِّحة الَّتي عَناها النَّووي في شرحِه لمُقدِّمة مسلمٍ، وهي أنَّ اتِّفاقَ الأئمَّةِ على تصحيحِ حديثٍ، لا تعني بالضَّرورة العِلمَ بنسبتِه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، لكن تعني الصِّحة الإسناديَّة الظَّاهرة؛ أمَّا المتنَ فشأنٌ آخر، يتَّسع فيه المجال للنَّظر والتَّمحيص المُتجدِّد، بل للردِّ والتَّعليل ولو اتَّفَق الأسبقون على صِحَّةِ نقلِه! كما تراه -مثلًا- في ردِّ (رشيد) لأحاديث الآياتٍ الحِسِيَّةٍ للنَّبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، مع اتِّفاقِ الأئمَّة على تَصحيحِها، وكنعتِه لبعضِ الأخبارِ الدالَّةِ فيهما على تفضيلِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على الأنبياءِ -منها حديث:«أنا سَيِّد النَّاس يوم القيامة .. »
(3)
بأنَّها «لا تُفيد اليقين»
(4)
.
ومِن ثَمَّ، فلا يَضرُّ عنده إنكارُ مثلِها لمِن لم يَقبل مَخْبَرَها، تفريعًا عن أصلِ مذهبِه الَّذي كان قد تَبِع فيه أستاذَه (عَبدُه) من اطِّراح أخبارِ الآحاد وإن كانت مِن روايةِ الثِّقات، إذا ظهَر له منها مخالفةٌ للقرآن أو المَعقول
(5)
.
(1)
«تفسير المنار» (3/ 240).
(2)
انظر «مجلة المنار» (7/ 361).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}، رقم: 4712)، ومسلم (ك: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: 194).
(4)
انظر «مجلة المنار» (4/ 177).
(5)
قد أقرَّ رشيد رضا بهذه التَّبَعيَّة لعبدُه في مجلته «المنار» (8/ 771).
فكان لازم هذا عند (رشيد): جوازُ توسيعِ دائرةِ المَنقوضِ مِن أحاديث «الصَّحيحين» وردِّ ما اتُّفق منها على صِحَّته، هذا ما أعربَ عنه بقولِه:
(1)
.
ثمَّ مَثَّل لهذا التَّأصيلِ بحديثِ سحرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وحديثِ سجودِ الشَّمس عند العرش.
وجملة القول في موقف رشيدٍ مِن أحاديث «الصَّحيحين» ، أنَّ الخلل الحاصل في رَدِّه لما ردَّ منها مع اتِّفاق العلماء على صِحَّتها، يحتملُ نتاجه عن ظَنَّين:
أمَّا الأوَّل: فظَنُّه أنَّ اتِّفاقَ الأئمَّة على تصحيحِ حديثٍ لا يُفيد ذلك إلَّا الرُّجحان في نسبتِه، وبالتَّالي فجائزٌ ردُّ هذا المَظنون إذا تَعارَض مع ما يَراه قطعيًّا.
فإن كان هذا هو اعتقاد (رشيد) حَقًّا، فقد خالف به ما تَتابع عليه جمهور المُحقِّقين من أهل العلم مِن اعتبارِ اتِّفاقِ الأئمَّة على تصحيحِ الحديث، قرينةً ترتقي بالمُصَحَّح من الأخبارِ إلى درجةِ العلمِ المُكتَسب بنِسبتِه.
ذلك أنَّ نُقَّادَ الحديثِ إذا أطبقوا على تصحيحِ روايةٍ ونِسبتِها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، هو بمثابةِ إطباقِ الفقهاءِ على تصحيحِ حكمٍ فرعيٍّ ونِسبتِه إلى الشَّارع سَواء بسواء؛
(1)
«مجلة المنار» (12/ 693).
فإذا أفادَ هذا عند هؤلاء صحَّةَ ما نَسبوه مِن أحكامٍ فقهيَّةٍ في باطنِ الأمر، يكون ما اتَّفَق عليه المُحدِّثون مِن أحكامٍ حديثيَّةٍ مَقطوعٌ في صِحَّتِها في الباطن أيضًا
(1)
.
لكنْ ما يجعلُنا نَتَوقَّف في جعلِ هذا الاحتمالِ مُعتَقدًا لرشيد: كلامٌ له آخر -قد تقدَّم بعضُه- يُقرِّر فيه أنَّ الأصل فيما لم يَقع فيه الخلافُ بين العلماءِ مِن أحاديثِ «الصَّحيحين» ، فلا تَردُّد عنده في قَبول سَندِه ومَتنِه، وذلك في قولِه:«أكثرُ الأحاديثِ الأُحاديَّة المُتَّفق على صِحَّتِها لذاتِها -كأكثرِ الأحاديثِ المُسندَة في صَحيحي البخاريِّ ومسلمٍ- جديرةٌ بأنْ يُجزَم بها جَزمًا لا تَردُّد فيه ولا اضطراب، وتُعَدُّ أخبارُها مُفيدةً لليقين، بالمعنى اللُّغوي الَّذي تَقدَّم؛ ولا شكَّ في أنَّ أهلَ العلمِ بهذا الشَّأن، قَلَّما يشكُّون في صحَّةِ حديثٍ منها، فكيف يُمكن لمسلمٍ يجزمُ بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبرَ بكذا، ولا يُؤمن بصدقِه فيه؟ أليس هذا مِن قَبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟! وليُعلَم أنَّني أعني بالمُتَّفَق عليه هنا: ما لم ينتقده أحدٌ مِن أئمَّةِ الفقهاء وغيرِهم، ومِن غير الأكثر: ما تَظهر فيه عِلَّةٌ في متنِه خَفِيَت على المُتقدِّمين، أو لم تُنقَل عنهم، وذلك نادرٌ»
(2)
.
فمِن آخرِ سَطرين مِن هذا النَّصِ، يَلوح لنا إشكالٌ آخر يكمُن في نظرِ رشيدٍ إلى ما اتُّفِق على صِحَّتِه مِن أحاديث «الصَّحيحين» وغيرهما، وهو المُضَمَّن في:
الظَّن الثَّاني: وهو احتمال اعتقادِ رشيدٍ أنَّ الأئمَّة المُتَقدِّمين قد تخفى عليهم عِلَّة حديثٍ اتَّفَقوا على صِحَّتِه، أو يكون أعَلَّه أحدهم حقيقةً ولم يبلُغنا تَعليلُه.
وهذا الاحتمال الثَّاني مِن (رشيدٍ) جرأة خطيرة؛ إذْ يُسَوِّغ لنفسِه خرمَ هذا اليَقين، بداعي ظهورِ عِلَّةٍ له في المتنِ خَفِيَت على كلِّ المُتقَدِّمين؟! فلقد أعاذَ الله تعالى هذه الأمَّة التي اختارَها لحملِ دينِه، وتبليغِ رسالتِه، مِن أن تكون فريسةَ غفلةٍ وغَباوةٍ، وأن تجتمعَ على ضَلالةٍ.
(1)
وسيأتي مزيد مناقشةٍ لهذا المسألة الأصوليَّة في مبحثها المُناسب في المُسوِّغ الثَّاني من الباب التَّالي.
(2)
«مجلة المنار» (19/ 342).
فإذا كان خبرُ الواحدِ قد تَلقَّته الأمَّة بالقَبول، وتَمادى به الزَّمان الطَّويل دون أن يظهر ناقدٌ مُعتبرٌ يُنكِرُه، وهي في ذلك مُعتقِدةٌ لِما فيه، عاملةٌ به لأجلِه -سواءٌ في ذلك عَمِل الكلُّ به، أو عمِل البعضُ، وتَأوَّله البعض- فمثل هذا مِمَّا يُقطَع بصِدقِه، والعلماء ما فتئوا يقرِّرون بأنَّه «متى كان المُحدِّث قد كذَب أو غلط، فلا بُدَّ أن يَنصِب الله حُجَّةً يُبيِّن بها ذلك»
(1)
.
فالحاصل: أنَّ احتمال وجود عِلَّةٍ للحديث لم تُنقل يَردُّه ما تَقَدَّم مِن تَكفُّل الله عز وجل بالبيانِ وحفظِ الشَّريعة؛ وسيأتي تفصيل هذه المسألة بما هو أدقُّ تقسيمًا وأغزرُ أدلَّةً، في مَبحثِه المُستقلِّ من هذا البحث.
الفرع السَّادس: الفرق بين منهجِ (رشيد رضا) وبين أستاذه (عبدُه) وغيره مِن مُعاصِريه في الموقف مِن أحاديث «الصَّحيحين» ، وأثرُ ذلك على مَن جاء بَعده.
الملفتُ للنَّظر -بما أسلَفنا إيرادُه مِن بعضِ زلَّاتٍ مَنهجيَّة لـ (رشيد رضا) في تعاملِه مع أخبار «الصَّحيحين» - أنَّه كان سالِكًا في نقدِها غيرَ مَسلكِ شيخِه (عبُده) -مع اتِّفاقهِما على ظَنِّيتها في الجملةِ- وذلك: أنَّ (عبده) مستسهلٌ للطَّعنِ في ظواهرِ مُتونها، بمُختلفِ الدَّعاوي العقليَّة وغيرها، غيرَ عابئٍ في ذلك بصحَّةِ سَندٍ أو اتِّفاقِ سَلف؛ بخلافِ (رشيد رضا) الَّذي يحاول في ذلك تطبيقَ قواعدِ المُحدِّثين المُقرَّرة في مناهج النَّقد، ونقلِ كلامِ أئمَّةِ الجرح والتَّعديل، قصدَ ترجيحِ أحدِ أقوالهم المُوافقة لما يَراه هو صَوابًا في الحديث.
وقد صرَّح (رشيدٌ) بهذا المنهجِ في قولِه: « .. نحن قد اتَّبَعنا في المنارِ هذه القواعد كلَّها في حلِّ مُشكلاتِ الأحاديث، كما صرَّحنا به في مَواضع مِن المنار والتَّفسير»
(2)
.
وبعضُ الحَدَاثيِّين مِمَّن يستشهدون بكلام الرَّجلين في نقدهم للسُّنَن، يقرُّون بهذا الفرقِ بينهما في حيازة آلاتِ النَّقد، كما تراه في قول (محمَّد حمزة):« .. أمَّا محمد رشيد رضا، فقد مَكنَّه إلمامُه بعلومِ الحديث، ومعرفته الواسعة بما حَوَته مُدوَّنات الحديث مِن رواياتٍ وأخبارٍ، مِن أن يكون أكثرَ تَعمُّقًا مِن شيخِه في تفحُّصِ الأخبارِ، ونقدِ سلاسلِ الإسنادِ، وترجيحِ الرِّوايةِ الَّتي يَميل إلى صِدقها»
(1)
.
فهذا منهجٌ في النَّقد صحيحٌ، شرطَ أن يكون تنزيلُه سلِيمًا مِن جِهة القواعد، مُناسبًا مِن جهة المَحَلِّ، وهو ما لم يَتوَّفر في أغلبِ تطبيقاتِ (رشيدٍ) في ما تَقدَّم مِن أحاديث أعَلَّها في «الصَّحيحين» ؛ فكان يتَعسَّف في جرحِ بعضِ الرُّواة وجمهورِ النُّقاد على توثيقِهم؛ بل رأيتُه في مَواضِع مِن كتاباتِه يردُّ رواياتِ بعضِ الثَّقات بتُهمةِ التَّدليس، مع أنَّ النُّقاد إنَّما تَكلَّموا في سماعِه عن شيخٍ بعَينِه لا مُطلقًا
(2)
، ونحو ذلك من أخطاءِ تنزيلِه لكلامِ الأئمَّة وقواعدِهم على الحديث.
نعم؛ هذه الشُّذوذات الَّتي زَلَّ فيها قَلَمُ (رشيدٍ) تَكِئةً لِطائفةٍ مِن أذنابِ المُستشرقين في عُدوانِهم على السُّنةِ بعامَّة، وأخبارِ «الصَّحيحين» بخاصَّة، تَلقَّفوها عنه مُستَندًا يُبيحون به عَبَثهم في الكِتابين، يَتقدَّمهم في ذلك (أبو ريَّة) في كتابِه «أضواء على السُّنة المحمَّدية» ، ما دَفَع أحمد شاكر (ت 1377 هـ)
(3)
إلى أنْ يستنكر هذا الخلل الكبيرعلى شيخِه (رشيدٍ) بقوله:
«لم نرَ فيمَن تَقدَّمنا مِن أهل العلم، مَن اجترأ على ادِّعاءِ أنَّ في «الصَّحيحين» أحاديث مَوضوعة، فضلًا عن الإيهامِ والتَّشنيعِ الَّذي يَطويه كلامُه،
(1)
«الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر» (ص/323).
(2)
كما فعل في شأن اتهامه لإبراهيم التيمي بالتدليس في «مجلة المنار» (32/ 772)، وتخطئته لهشام بن عروة في (33/ 33)، أضف إليهم طعنه في كعب الأحبار ووهب وهمام ابني منبه في (26/ 73).
(3)
أحمد بن محمد شاكر بن أحمد ابن عبد القادر، من آل أبي علياء، يرفع نسبه إلى الحسين بن علي: عالم بالحديث والتفسير، مولده ووفاته في القاهرة، كان قاضيا الى سنة 1951 م ورئيسا للمحكمة الشرعية العليا، وأحيل إلى (المعاش)، فانقطع للتأليف والنشر إلى أن توفي، من أعظم أعماله: تخريج مسند أحمد بن حنبل في خمسة عشر جزءا منه، وله تحقيقات مفيدة، منها ما حلى بها هوامش «الرسالة» الشافعي، و «لباب الآداب» لابن منقذ، انظر «الأعلام» للزركلي (1/ 253).
فيُوهم الأغرارَ أنَّ أكثرَ ما في السُّنةِ مَوضوع! .. وهذا ممَّا أخطأَ فيه كثيرٌ مِن النَّاس، ومنهم أستاذُنا محمَّد رشيد رضا رحمه الله على عِلمِه وفقهِه، ولم يَستطع قطُّ أن يُقيم حُجَّته على ما يَرى، وأفلَتَت منه كلماتٌ يَسمو على علمِه أن يَقَع فيها»
(1)
.
وبهذا فَتَح (رشيد رضا) -مِن غيرِ قصدٍ- بابًا كان مَهيبًا على أهل النَّقدِ مِن مُستَحقِّيه أن يَلِجوه، حتَّى جَعَله كَلأً مُستبَاحًا لكلِّ صغيرٍ في هذا العلمِ يلَغ في «الصَّحيحين» كـ (أحمد أمين) و (فريد وجدي)، وتَبِعهما في ذلك آخرون، اعتمَدوا جميعُهم على عَثراتٍ رشيدٍ في هذا البابِ الدَّقيق مِن العلومِ النَّقليَّة
(2)
.
ويا أسفي على (رشيد) حين قرأت له دفاعه على طعنِ أحدِ الأطبَّاء في حديثٍ بـ «الصَّحيح» ، يقول فيهه:«ما كَلَّفَ الله مُسلمًا أن يقرأَ صحيحَ البخاريِّ، ويؤمنَ بكلِّ ما فيه وإنْ لم يَصحَّ عنده، أو اعتقدَ أنَّه يُنافي أصولَ الإسلام!»
(3)
.
فلقد صارت هذه الجملة فتنةً لبعض الكُتَّاب المُعاصرين أزَّتهم للاجتراء على «الصَّحيحين» براحة بال، كحالِ أحدِ الزَّائغين عن منهج المُحَدِّثين في قوله مُبتهِجًا:«الجملة الَّتي قالها رشيد رضا شُجاعة! تُرسِّخ لنا مبدأً هامًّا، مِن المُمكن أن يصدم البعضَ، وهو: أنَّنا لسنا مُلزمين بأن نتَّبع كلَّ ما كَتَبه البخاريُّ، لمجرَّد صحَّة السَّند، .. ولكنَّ علماءَ الحديث المُعاصرين كُسَالى عن التَّنقيبِ والبحثِ، ومَرعوبون مِن فكرةِ تنقيحِ أحاديثِ البخاريِّ، برغم أنَّه قد رَفَض مَن قبلَهم أئمَّةٌ ورجال دينٍ مُستنيرون، بعضَ أحاديث البخاريِّ، لتَعارُضها مع العقل»
(4)
.
ومع هذا كلِّه لا زلت أقول: أنَّ طريقةَ (رشيدٍ) في نقدِ المَرويَّاتِ تبقى -في نَظرِي- فريدةً في زَمَنِه، عزيزةَ السُّلوك بالنَّظرِ إلى الحالِة العلميَّة في عصرِه، إذ كان أغلبُ المُشتغلين بالشَّريعةِ أجانبَ عن حقيقةِ هذا العلم ومُعاناته، في
(1)
حاشية «مسند الإمام أحمد» بتخريج الشيخ أحمد شاكر (6/ 555).
(2)
انظر بعض أمثلة ذلك في «منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة» لتامر متولِّي (ص/9).
(3)
مجلَّة «المنار» (29/ 37)، قاله في سياق دفاعه عن طعن توفيق صدقي في حديثٍ في البخاريِّ.
(4)
«وهم الإعجاز العلمي» لـ د. خالد منتصر (ص/42).
الوقتِ الَّذي كانت مجلَّتُه زاخرةً بتقريرِ قواعدِ هذا الفنِّ، وتأصيلِ بعض مسائلِه، بل والدِّفاع عن بعض الأحاديث ضدَّ طعون أهلِ زمانِه.
(1)
.
ولأن كان مُؤدَّى كثيرٍ مِن نَقداتِ (رشيدٍ) للصِّحاحِ إلى تعطيلِ اعتقادِ بعضِ السُّنَن، لشُبهة عرضَت له فيها، لا تَقوى -في واقعِ الأمر- على المثولِ أمام بيِّنات الحقِّ؛ إلَّا أنَّ مَرامَه الأوَّل مِن ذلك: دَرءُ ما يعتقده من شُبهاتٍ لخصومِ الإسلام عن سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، محاولًا في ذلك استعمالَ قواعدِ النَّقدِ المُتوارثةَ مِن لَدُن النُّقادِ الأسلافِ على قدر علمه بها.
فأين هذا مما يَفعله كثيرٌ مِمَّن يتبجَّحُ بمقالاتِه مِن أنصافِ الباحثين في هذا الوقت؟!، مِمَّن يُجهز على العَشراتِ -بل المئاتِ- من الأخبارِ الثَّابتة بمُجرَّد الرَّأي السَّائب أو الهوى.
لكن (رشيد رضا) لونٌ آخر؛ فلقد نَذَر قَلَمَه للدِّفاع عن السُّنةِ وحَمَلتها بما نرجو به رفعتَه في الآخرة؛ ومُعظم الآراءِ الَّتي خَرَج بها عن مسالك أهل النَّقد الحقيقيِّين قصدُه من ذلك الذَّوْد عن الدِّين، وما يراه توفيقًا بين النُّصوص ومُستجَدَّات العصر، «إلَاّ أنَّ تَوقُّفَ حركةِ الاجتهادِ ردْحًا مِن الزَّمن، وقِلَّة
(1)
«السُّنة ومكانتها في التشريع» (ص/30).
الأعوان، وتَبلُّد الأفهام، وكثرةَ الأعداء والطَّاعنين في الدِّين، وشراسةَ الحملةِ الغربيَّة آنذاك على بلاد المسلمين، دَفَعتْ بالشَّيخِ إلى التَّسرُّعِ في الرَّدِّ على الشُّبَهِ المُثارة بكلِّ ما طالته يَدُه، ودَفَعته إلى التَّوسُّعِ في الذَّودِ عن الإسلامِ في كلِّ علمٍ، مهما كان مَبلغه فيه قليلًا، ممَّا أدَّى به إلى الخروجِ عن الجادَّة المَوروثةِ في كثيرٍ مَن المَسائل»
(1)
.
فلا يجوز -بحالٍ- أن يُرمَى الشَّيخُ في قصدِه بما يُرمَى به مَن كان غرضَه التَّشكيكُ في السُّنةِ واللَّمز بحَمَلتِها ابتداءً، فضلًا عن أن يُتَّهم بَهدْمِ «الصَّحيحين» اللَّذين هما قُطب رَحاها؛ وقد مرَّ بك قبلُ ثناءَه على الكِتابينِ وتبجيلَه للشَّيخين، ومُوافقته لِما عليه المُتخصِّصون مِن صِحَّةِ أغلبِ أخبارِهما.
وأزيد فيه بيتًا من الشِّعر فأقول:
إنَّ هذا الحُبَّ الظَّاهرَ مِن (رشيدٍ) للسُّنة النَّبويَّة ودفعه عنها شبهات المُلحدين، فضلًا عن إمامتِه في وقتِه في كثيرٍ مِن حقولِ المَعرفة ومَيادين الإصلاح: هو ما أغرى كثيرًا مِن خصومِ السُّنَن للاستشهادِ بمَقولاتِه، حتَّى يُضفوا عليها مَزيدَ قَبولٍ عند النَّاس وهَيْبة.
إنَّ هذا الخطابَ من (رشيدٍ) في نقدِه للأحاديث على محدوديَّتِه، قد وَجَد له صدًى عميقًا لَدى كثيرٍ مِن القُرَّاء بعده،؛ وحين عاب (طه حسين) على (أبو ريَّة) كثرةِ استشهادِه بأقوالِ (رشيد رضا)، اعتذر إليه (أبو ريَّة) بأنَّه لم يُقدِم على ذلك عفوًا، أو فقرًا مِن الأدلَّة، وإنَّما قَصدُه مِن ذلك أمور مهمَّة، «منها: أنَّ هذا السَّيد يُعتَبر في هذا العصرِ مِن كبارِ أئمَّةِ الفقهاءِ المُجتهدين عند أهلِ السُّنةِ الَّذين يُعتَدُّ برأيهم .. »، «ولأنَّه -بلا منازع- شيخُ مُحِّدثي أهلِ السُّنة في عصرنا، بحيث يَعلمُ مِن الأحاديث الَّتي حمَلَتها الكتبُ المشهورة لدى الجمهور، ويُدرك ما اعتراها مِن فعلِ الرُّواة، وغير ذلك ممَّا يتَّصل بكتابي، ما لم يعلم مثلَه سِواه»
(2)
.
(1)
«موقف المدرسة العقليَّة الحديثة من الحديث النبوي» لشفيق شقير (409 - 410).
(2)
«أضواء على السنة المحمدية» (ص/34 - 35).
(1)
.
هذه التَّزكية من (أبو ريَّة) لـ (رشيد رِضا) ينقلها (عبد المَجيد الشَّرفي) أحد رؤوس الحداثيِّين في تونس مُتدَرِّعًا بها في غارَتِه على السُّنَن
(2)
، ثمَّ زادَ عليها شهادَتَه له بأنَّه «مُحَدِّث، يَعرف ميدانَ الحديث بدِقَّة»
(3)
.
و (رشيد رضا) -مع اعترافنا بفضلِه- ليس أهلًا عند أهل الصَّنعة أن يُطلق عليه لقب مُحدِّث، ولا هو مِن أحلاسِ هذا الفنِّ؛ وقد شرحنا قبلُ كيف تَعنَّى خوضَ مَسائلِ هذا العلمِ في جَوٍّ سادَ فيه الجهلُ به؛ وإنَّما صادفَ ردُّه لما ردَّ من ثابتِ الأحاديثِ هَوىً في أنفسِ هؤلاءِ المُعجبين به، فصَيَّروه إمامَ الأئمَّةِ، والصَّيرفيَّ الَّذي لا تخفى عليه زيوفُ الأخبار!
وهو الَّذي صرَّحَ في نصِّه الماضي قريبًا، أنَّ الأحاديثَ الَّتي اتَّفق العلماء على تَصحيحِها في «الصَّحيحين» لا يُعترَض عليها إلَّا النَّادر منها، ولا أظنُّ لفظَ «النَّادر» في كلامِ رشيدٍ مُبهمًا تحتاج إلى تفسير.
فما بالُ أولئك يخوضون في «الصَّحيحين» طولًا وعرضًا دون حياءٍ؟!
الفرع السَّابع: تَخفُّف (رشيد رضا) مِن منهجِه القديمِ في التَّعاملِ مع السُّنةِ وأحاديثِها.
الَّذي يغفَل عنه كثيرٌ مِن الدَّارسين لموقف (رشيد رضا) من السُّنة من مُتعجِّلي النَّقد: أنَّه قد تَدرَّج في الانسلاخِ مِن عباءةِ التَّمعقُلِ الكَلاميِّ على نصوصِ السُّنة شيئًا فشيئًا، وقد أظهرَ رجوعَه عن مناهجِ غُلاةِ المُتأخِّرين في مَوقفِهم مِن
(1)
«أضواء على السنة المحمدية» (ص/35).
(2)
«الإسلام والحداثة» للشَّرفي (ص/95).
(3)
«تحديث الفكر الإسلامي» للشَّرفي (ص/32).
مَصادر التَّلقِّي النَّقليَّة
(1)
، لاهِجًا باتِّباعِ نهجِ السَّلفِ الصَّالحين
(2)
، مُحتذِيًا لكلامِهم في الدَّلائلِ العقلِيَّة، وذلك في أواخِر إصداراتِ مَجلَّتِه.
كان مِن جميلِ ما قرَّره مِن ذلك قوله:
«ما شَرَع الله الدِّين للنَّاسِ، إلَّا لأنَّهم لا يَستغنون عن هدايتِه بعُقولهم، ومَن كان يُؤمن بدينٍ مُنزَّل مِن عند الله، لا يُمكن أن يَقبل ما يوافق عقلَه، ويرُدَّ ما لا يُوافقه مِن المسائلِ الَّتي يعتقدُ أن الله فَرَضها عليه ..
فمَن فَعَل ذلك، كان غير مُتَّبع لدينٍ يُؤمن به قطعًا، وإنَّما يكون مُتَّبعًا لهواه بغير هُدًى مِن الله، فوظيفةُ العقلِ: أن يعلمَ ويفهمَ ليعمل، لا أن يَتَحكَّم في دينِه .. ثمَّ إنَّ عقولَ النَّاسِ تختلفُ اختلافًا كثيرًا فيما يُوافق أصحابَها وما لا يُوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكلِّ فردٍ مِمَّن يُحكِّمون عقولَهم في الدِّين دينٌ خاصٌّ به! وللمَجموع أديانٌ كثيرةٌ بقدرِ عددهم!»
(3)
.
وقد جاء إنكارُه شديدًا على مَن أسقطَ اعتبارِ حديثٍ في «الصَّحيحين» بنَظَرِه العقليِّ المُجرَّد، فاشتدَّ على أحدِ من وقعَ في ذلك مِن الأُدباء، مُشنِّعًا عليه بقولِه:
(4)
.
(1)
وإن كان رشيد قد وَقَع أحيانًا في لَيِّ أعناقِ بعض النُّصوص الشَّرعية، والإبعادِ بمعانيها عن مُراد صاحبها، فقد رَفَض انتهاج هذا في مواطن كثيرة، بل بيَّن خطر التَّأويل المُتعسِّف على الدِّين، وتَلاعب أهلِه بنصوص الشَّرع، ولم يَره جائزًا إلَّا عند عدم القُدرة على دفع الشُّبه عنها، فإنَّه -على كل حالٍ- خيرٌ من الكفر كما يقول، وذلك في «تفسير المنار» (3/ 174).
(2)
كما تراه لائحًا في مجلته المنار (8/ 620)، وفي رسائِله الأخيرة المسمَّاة بـ «السُّنة والشِّيعة» .
(3)
«مجلة المنار» (34/ 757).
(4)
«مجلة المنار» (17/ 181).
فمثلُ هذا الموقفِ القويمِ مِن (رشيد رضا) لا بُدَّ أنَّه تَأثَّر فيه بأبحاثِ بعضِ المُحقِّقين مِن علماءِ السُّنة، كابنِ تيميَّة وتلميذِه ابن القيِّم، فيما تَيسَّر له الاطِّلاع عليه مِن كُتبهِما وقتَه، لا سِيما مَعْلَمة ابنِ تيميَّة «درء تَعارض العقلِ والنَّقل» ؛ وهو ما أقرَّ به لهما، اعترافًا منه بالحقِّ وردًّا للجميل بقوله:«أنا أشهدُ على نفسي، أنَّني لم يطمئنَّ قلبي لمذهبِ السَّلف، إلَّا بقراءةِ كُتبِهما .. »
(1)
.
وهو مع هذا التَّحوُّل المَنهجيِّ الفريدِ في آخرِ حياتِه، من الطَّبيعيِّ ألَّا يَتخلَّص مِن كلِّ رواسبِ المَفاهيمِ الرَّاكدةِ في ذهنِه، ولا مِن بعضِ مَواقِفه تُجاه بعضِ النُّصوص؛ كيف وقد كان لأفكارِ (الأفغانيِّ) وأستاذِه (عبدُه) عظيمُ الأثرِ في تصوُّراتِه حالَ طراوةِ شبيبَتِه؛ وهذا ما تلمَّسه تلميذُه (أحمد شاكر) في شخصيَّته الفكريَّةِ في معرضِ ردِّه على إنكارِه لحديثٍ:« .. أستاذنا محمَّد رشيد رضا، على علمِه وفقهِه، لم يستطِع قَطُّ أن يُقيم حُجَّته على ما يَرى، وأفلتَت منه كلماتٌ يَسمو على علمِه أن يَقَع فيها، ولكنَّه كان مُتأثرًا أشدَّ الأثرِ بجمالِ الدِّين الأفغاني ومحمَّد عبدُه، وهما لا يَعرفان في الحديثِ شيئًا، بل كان هو بعد ذلك أعلمَ منهما، وأعلى قَدَمًا، وأثبتَ رأيًا، لولا الأثرُ الباقي دخيلةَ نفسِه»
(2)
.
والله يغفرُ لنا ولهم أجمعين.