الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الأوَّل
بدء نشوء الاتِّجاه العقلانيِّ الإسلاميِّ المُعاصر
أوَّل تَجدُّدٍ لهذا الاتِّجاه العَقلانيِّ الحديثِ في نظرِه إلى الشَّريعة ونصوصِها كانَ أواخرَ القرنِ الثَّالث عشر في المشرق العربيِّ ابتداءً، إبَّان ضعفَ الخلافةِ العُثمانيَّة، وانتكاسةِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ ريادةً وحَضارةً، بإزاء تَقدُّمٍ عِلميٍّ وتقنيٍّ وعسكريٍّ لأُمَم الغَربِ؛ أدَّى تَسلُّطهم الحضاريِّ على ضَعَفَة المُسلمين بقوَّة البارودِ ممزوجًا بمِدادِ المَطابع، إلى بروزِ اتِّجاهاتٍ فكريَّةٍ مُواليةٍ لهم، ممثَّلة بقوَّة في التَّيار العَلمانيِّ الغالي الَّذي صار لسانَ المُحتلِّ بين بَني جِلدَتِهم، يُحسِّنون للنَّاسِ أفكارَهم، ويُجمِّلون لهم أنماط معايشهم.
حينَها هالَ الخَطبُ فقهاءَ الأمَّة ومُفكِّريها، فهرعوا إلى ردعِ تلك الحَملاتِ المُتسلِّلة إلى العقلِ الجَمْعيِّ مَذاهبَ شَتَّى، كلٌّ يَدَّعي التَّمكُّن من زِمام الإصلاح، كان منهم فِئةٌ على قناعة من أنَّ ربط جَأشِ المسلمينَ وتَثبيتهم على الدِّينِ لا يتمُّ إلَّا ببيانِ الوِفاقِ الحاصلِ بين الإسلام وما انبهر به النَّاس مِمَّا وصلَت إليه الدُّوَل الإمبرياليَّة مِن تَقدُّمٍ في شتَّى العلومِ الماديَّة.
فما برحوا يطمئنون أهل الثَّقافة على وَلاءِ الإسلامِ للحُريَّاتِ الفرديَّة، فسوَّغت النَّظرَ العقليَّ المُجرَّد إلى نُصوصِه على نَمطٍ يخالف ما عُهِد إليهم مِن أسلافِهم، مُتَعذِّرين بأنَّ الأمرَ لا يَعدو أن يكون عَودًا بالنَّظرِ في دَلالاتِ بعضِ النُّصوصِ لتَنسجِم مع قطعيَّاتِ الحضارةِ الوافدة، أو عودًا بالنَّظر في أمر ثبوتِها من
حيث النَّقل؛ ما استلزم -في زعمِهم- إعادةَ تشكيل بعضِ الأحكامِ الدِّينيَّة بما يَتَوافق والقوالبَ الفلسفيَّة السَّائدة، وذلك بالتَّلفيقِ -ولو جُزئيًا- بين أطروحاتِ الحضارة المَدنيَّة الحديثة والمَرجعيَّة الإسلاميَّة العَتيقة.
أوليس الإسلام صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكانٍ؟! إذن لا بُدَّ مِن التَّجديد في بعضِ أحكامِه وتبديلها لتصدُق هذه المَقولة! آبينَ -في الوقت ذاتِه- أن يَتَنكَّروا لشريعتِهم خلافَ مَن تَنكَّب مِن أتباعِ العَلمانيَّة، بحسبِ ما عندَ كلِّ فردٍ منهم مِن آثارِ التَّسليمِ لنصوصِها، واليقينِ بأدلَّتها، والاعتزازِ بالانتماء إليها، وعليه خصصتُ هذا التَّيار الإصلاحيَّ بوَصفِ «الإسلاميِّين» أو «الإصلاحيِّين» ، لاهتمامِهم بإصلاح المَنظومات الدينيَّة والسِّياسية والاجتماعيَّة وفق نظرة شرعيَّة خاصَّة -وإن بَدا مِن بعضِهم نوعُ غلوٍّ في استعمالِ العَقليَّاتِ في نَظرتِه للدِّين- تميِيزًا لهم عن باقي طوائفِ المَدرسة العَصرانيَّة بمَفهومِها العامِّ
(1)
.
ففي هذه المرحلةِ الحسَّاسةِ بالذَّات مِن تاريخ هذا الصِّراعِ الحضاريِّ، بَدَأت تَتَكاملُ مَلامحُ مدرسةِ التَّجديدِ الدِّيني شيئًا فشيئًا، بعد أن رسمَ تشكُّلاتِها الأولى جمالُ الدِّين الأفغاني (ت 1315 هـ)
(2)
، على أساسٍ قد سُبق إليه مِن أربابِ
(1)
تنقسم المدرسة العقلانيَّة المُعاصرة إلى ثلاث طوائف:
الأولى: مَن يُنكر الوحيَ الإلهيَّ بالكليَّة، وهم غُلاة العَلمانيَّة، حيث يَرون أنَّ أيَّ مخطَّطٍ للحياة الإنسانية، يجب أن يصدر عن عقل الإنسان، فقط بعيدًا عن الدِّين.
الثانية: لا تُنكر قداسة الوحي صراحةً، وتظهر احترامَه في الظَّاهر، لكنَّها تُفرِّغه مِن مَضمونه وتُلغي تطبيقه، كما عند عابد الجابريِّ، وعبد الله العروي، وسعيد العشماويِّ، وأضرابِهم.
الثالثة: وهم العقلانيُّون الإسلاميون، وهو مَوضوع الدِّراسة في هذا المَبحث.
انظر «العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب» لمحمد الناصر (ص/176 - 177)، و «منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير» لـ د. فهد الرومي (ص/70).
(2)
محمد بن صفدر جمال الدين الأفغانيُّ: فيلسوف الفكر الإسلاميِّ في عصره، واسع الاطِّلاع على العلوم القديمة والحديثة، وُلد في أسعد آباد بأفغانستان، ونشأ بكابُل، وتلقَّى العلوم العقليَّة والنَّقلية فيها، وبَرَع في الرِّياضيات، ثمَّ انتظم في سلك رجال الحكومة في عهد (دوست محمَّد خان).
ثمَّ رَحل مارا بالهند ومصر، إلى الآستانة (سنة 1285) فجُعل فيها من أعضاء مجلس المَعارف، ونُفي منها (سنةَ 1288 م)، فقَصَد مصر، لينفُخ فيها همَّه للنَّهضة الإصلاحيَّة، دينًا وسياسةً، وتتلمذ له نابغةُ مصر وقتَها (محمَّد عبده) وكثيرون.
ثمَّ نفته الحكومة المصرية (سنة 1296 م) فهاجر إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس، فأنشأ فيها مع تلميذه عبده جريدةَ (العُروة الوُثقى)، ورَحَل رحلات طويلة؛ من مؤلَّفاته:«تاريخ الأفغان» و «رسالة الرَّد على الدَّهريِّين» ، ترجمها إلى العربيَّة تلميذُه محمد عبده، انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 168).
المقالاتِ العقلانيَّةِ القديمةِ؛ ثمَّ أحكمَ صبغها بما يَتوافق والرُّوحَ العصريَّة الجديدةَ مَن جاء بعده مِن تلاميذِه بمِصر، أخصُّ بالذِّكرِ منهم مُريدَه (محمَّد عبده)، حيث سَنُّوا لمدرستِهم دستورًا مُستحدَثًا أُعطِي فيه سلاحُ العقلِ أكثرَ مِن حدِّه.
فلقد أعلنَها (محمَّد عبدُه) صُراحًا مِن غير مواربةٍ بما كان يُشنِّعُ به أهلُ العلم قديمًا على أهل الكلامِ، من أنَّه:«إذا تَعارَضَ العقلُ والنَّقلُ، أُخِذَ بما دَلَّ عليه العَقل»
(1)
؛ وبهذا أجهزوا على عدد غير قليل من النُّصوص الحديثيَّة، وضيَّقوا مِن حَيِّز الغَيْبيَّاتِ في أبوابِ الاعتقاد، وأنكروا ما تتَابع المسلمون على تصديقِه مِن جليلِ المُعجِزات
(2)
.
(3)
.
فحول هذا المأخِذ الَّذي يقرره (عبدُه) قد دَنْدَنَ (حسن حنفي) كثيرًا في مؤلَّفاته، فتراه يضرِبُ في حديدٍ باردٍ حين يسألُ مُستنكِرًا:«هل تُؤدِّي المعجزةُ إلى تصديقِ الرَّسول؛ وهي برهانٌ خارِجيٌّ عن طريقِ القُدرة، وليس داخليًّا عن طريقِ اتِّفاقِها مع العقلِ، أو تَطابُقِها مع الواقع؟!»
(4)
.
وتماشيًا منهم مع هذه القناعة المجافية للتَّسليم الشَّرعي، ارتكبوا كلَّ عَسِرٍ لنفْيِ الآياتِ والبراهينِ الحِسِّية، ولَيِّ أعناقِ النُّصوص الَّتي تُثْبِتها؛ يظهر هذا أيضًا
(1)
«الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» لمحمد عبده (ص/54 - 59).
(2)
انظر «حوار هادئ مع الشيخ محمد الغزالي» لسلمان العودة (ص/10).
(3)
«الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» (ص/54 - 59).
(4)
«من العقيدة إلى الثورة» لحسن حنفي (4/ 72).
فيما اجتَرَحه (محمد عبُده) عند تناولِه للآياتِ الدالَّة على المُعجزات في تفسيره لبعضِ آيِ القرآن
(1)
؛ وعلى نفس نهجه أعطَى كثيرٌ مِن أتباعِه لعقولهم حُريَّةً واسعةً أقربَ إلى التَّفلُّت، فتَأوَّلوا بعضَ الحقائق الشَّرعيَّة الَّتي جاءت بها نصوص الوَحيِ، عدولًا بها عن الحقيقةِ إلى المَجازِ أو التَّمثيلِ؛ وليس هناك ما يَدعو حقيقةً إلى هذا الموقف المُتكلَّف من نصوص الشَّرع إلَّا مُجرَّد الاستبعادِ والاستغراب، وسيأتي تفصيل الرَّد على هذه الشبهة في مطاوي هذا البحث.
(1)
انظر - مثلا- «تفسير المنار» (1/ 347) و (3/ 211).