الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث السَّادس
انصراف العَلمانيَّة إلى استهداف السُّنَن
لقد اعترفَ بعض رموز العَلمانيِّين بأنَّ رُكامَ مَقالاتِهم ومَواقفهم في إنكارِ السُّنةِ قد عَصَفت به ريحُ الحقيقةِ، فكان هباءً منثورًا، لم يُكتب له النَّجاح والقَبول في الأوساطِ الشَّعبيَّة؛ ترى هذا المعنى جليًّا في مثل قولِ حمَّادي ذويب:«كان جليًّا أنَّ موقف إنكارِ السُّنة لم تكُن له حظوظٌ في الانتشار والقَبول»
(1)
.
ويُعبِّر أيضًا عنه نصر أبو زيد «بالمَواقف الَّتي أُهيل عليها تُراب النِّسيان»
(2)
.
ومع اعترافهم بفشل هذا الموقف العقيم من السُّنة، فإنَّهم على غير إياسٍ من دورِ المُجمِّع لهذا الهباءِ المَنثورِ، ذرًّا له مرَّة أخرى في عيونِ ضِعافِ البصيرة، فرَكزُّوا «على مُحاولةِ كشفِ المواقفِ المَسكوتِ عنها، الَّتي وَقَع إقصاؤها، لأنَّها مَواقف أقليَّات! لم تكُن لها الوسائل لنشرِ أفكارِها، مثلما تَوفَّر للفريق المُنتصر»
(3)
؛ ويأبى الله إلَاّ أن يُتِمَّ نورَه.
والَّذي حصَّلته مِن حالِ العَلمانيِّين بعد تَتبُّعٍ نِسْبيٍّ لكلامهم في الشَّرعيَّات: أنَّ أكثرَهم في شِبْهِ عافيةٍ حالَ سَوقِ اعتراضاتِهم في مختلفِ العلوم الشَّرعيَّة أو التَّاريخية أو اللُّغويَّة؛ حتَّى إذا ما أقدموا على مَسِّ سِياجِ «الحديثِ وعلومِه» ،
(1)
«السُّنة بين الأصول والتَّاريخ» لحمادي ذويب (ص/71).
(2)
«الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية» (ص/83).
(3)
«السُّنة بين الأصول والتَّاريخ» (ص/313).
أخذَتهم صاعقةٌ مثل صاعقةِ عادٍ وثَمود! فافتُضِحوا على رؤوسِ الأشهادِ، وبانَ جهلُهم لكلِّ العِبادِ.
ومع ما في نهجِ هؤلاءِ مِن بلايا وخوارمِ للفِطرة السَّوية، ومع ما يقع فيه رموزُهم مِن رزايا عَقديِّة، وجناياتٍ في حقِّ السُّنة النَّبويَّة، إلَّا أنَّا نحن بدورِنا نعترفُ في المقابل بأنَّ هذا لم يكُن حائلًا مِن شحنِ العالمِ الإسلاميِّ خلال العقودِ الفارطةِ، بالمضامين العَلمانيَّة شحنًا كبيرًا، وصَل سُعارها أروقةَ وزاراتِ الأوقافِ نفسِها في كثيرٍ مِن البلدان الإسلاميَّة.
كيف لا! وقد حُبِكت مؤامراتهم على وسائلِ الإعلامِ حبْكًا ساحرًا، وشُحِنت بها مَناهج التَّعليم شحنًا ظاهرًا، لتُعلِن رعايتَها لولدانِ المسلمين، بدءً من رِياضِ الحَضانات، إلى أن يشبُّوا على مُدرَّجات الجامعات.
فانظر -مثلًا- إلى حالِ «الزَّيتونةِ» -رَدَّها الله إلى سالِف عِزِّها-؛ كيف أفسدَ فيها كتابٌ سَوَّدَه حَداثيُّ المَنزعِ غَربيُّ الهَوى عقولَ الطَّلبة الشَّرعيِّين؟! قُرِّر عليهم في مَساقِ السُّنةِ باسمِ «السُّنة النَّبويَّة، إشكاليَّة التَّدوين والتَّشريع» لمؤلِّفه (محمَّد حمزة)؛ يحملُ في طَيَّاتِه مُنافرةً شديدةً للهويَّةِ السُّنيَّة للمُجتمِع التُّونسيِّ نفسِه، يُدَرَّس لِمن الفَرضُ فيهم أن يحملوا لواءَ السُّنةَ في إحدى أعرقِ الجامعات السُّنية
(1)
.
هذا مثال واحدٌ من أمثلةٍ كثيرةٍ على هذا التَّغلغل العَلمانيِّ الفكريِّ، تُغني شُهرتُها في باقي بلاد العربِ عن سَرْدِها.
ثمَّ نأتي بعدها لنذرف الدُّموع على تَفلُّتِ شبابِنا مِن التَّديُّن إلى الإلحادِ؟! ومِن عَبقِ الأخلاق، إلى أنتانِ التَّفسُّخ والإباحيَّة، ومِن وَسطيَّة التَّسَنُّنِ الَّذي ارتضاه الله للأُمَّة منهجًا طيلةَ قرونٍ، إلى انحرافاتِ الغُلوِّ بجميعِ صُوَرِه!
(1)
انظر «كتابات غير المتخصِّصين في السُّنة النبوية بين الجهل والتحريف» لأبو لبابة طاهر حسين التونسي، ضمن مؤتمر «الحديث الشريف وتحديات العصر» (1/ 389).
فأيُّ واجبٍ اليوم أعظمُ مِن تخليصِ الأجواءِ الإسلاميَّة مِن تلك المَوادِّ الضارَّة، والأفكارِ المعاديَّة لأيِّ سلطةٍ مُقدَّسةٍ إسلاميَّة مُتعالية؟! وأيُّ شَرفٍ أنبلُ مِن أن نَتترَّس دون دواوينِ السُّنة، قطعًا لطريق مَن يبتغي تحريفَ الشَّريعةِ؟ .. والله غالبٌ على أمرِه.
أعود فأقول:
لقد تَركَّزت هَجمةُ العَلمانيِّين وأدعياءِ الحَداثةِ في النَّيلِ مِن الأحاديث النَّبويَّة، بعد أن أعياهُم الوصول إلى القرآنِ في تَواترِ حِفظِه وقَداسةِ نصوصِه، فحَذوا حذوَ المُستشرقينَ في التَّشكيكِ بمِصداقيَّة السُّنَة، وفاقوهم صَلَفًا برَميِها بأوابِدِ السَّاسَة، فهي لا تعدو -مِن مَنظور قراءتِهم التَّفكيكيَّةِ- أن تكونَ «مجموعاتٍ نصيَّةٍ مُغلقةٍ، خاضعةٍ لعمليَّةِ الانتقاءِ، والاختيارِ، والحذفِ التَّعسُّفيةِ، الَّتي فُرِضت في ظِلِّ الأمَويِّين، وأوائل العَبَّاسيِّين، أثناء تشكيلِ المَجموعات النَّصيَّةِ»
(1)
.
ولإن كان تحطيم القِلاع النَّصِيَّةِ الجامدة، وإزاحة المُقدَّسِ مِن حياةِ العامَّة، غايةَ ما يصبو العلمانيُّ الحَداثيُّ إلى بلوغِه، فقد توسَّلوا إلى ذلك -كما قدَّمنا شرحه- بتقليد أساليبِ العلماء في الخطاب، وصَنعوا مِن بعض نصوصهم «حِصانَ طَرْوادة» مُتشَرْعِنًا يستتِرون بداخلِه!
حتَّى إذا اغترَّ بظاهر كلامهم غُفْلُ العَوام، وأدخلوهم به حِصنَ الإسلام: خَرَجت منه جَحافِل المَغولِ الجُدد تُجهِز على ما في الدِّين مِن أصولِ! وتُحَطِّم جُدرانها الفاصلة لحِماها؛ فكان «كُلَّما رَأَى أحدُهم جدارًا ينهارُ في قلاعِ هذا الزَّمَن، يَتَقدَّم نحوَ أنقاضِه، يَتناول حَفنةً منها يَروزها، ثمَّ يَفرُكها بأصابِعه، ثم يَقذِفُ بها في الهواء، ويَقِفُ صامتًا، يَستمتعُ برؤيتِها وهي تَتَناثر وتَتَلاشى .. »
(2)
.
فلمَّا تَفطَّنَ لهم حُرَّاس الحديثِ، فحاصَروهم بالحُجَّة وأوعَدوهم، ليُثبتوهم أو يُخرجوهم: كَشفَ هذا العَدوُّ تَغيُّضًا عن مُخدَّراتِ نفسِه، وباحَ كُرْهًا عن
(1)
«الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد» لمحمد أركون (ص/101).
(2)
«النص القرآني وآفاق الكتابة» لأدونيس (ص/12).
أغراضِ هجماته، ما أبلغ أحدَ رُوَّادِهم أن يَصرُخ حَنقًا مِن الحركةِ السُّنِّية المعاصرةِ يُعيِّرَها بـ «اعتمادِها شبهِ المُطلقِ على (قال الله)، و (قال الرَّسول)! .. واستشهادِها بالحُجَجِ النَّقليَّة، دون إعمالٍ للحسِّ والعقل، وكأنَّ الخبرَ حُجَّة! وكأنَّ النَّقلَ برهان!»
(1)
.
ولسنا نزعمُ أنَّ أربابَ هذا التَّيارِ العَلمانيِّ المُستغرِب على وِفاقٍ كلَّهم في تصنيفٍ السُّنة؛ إذ فيهم المُشكِّكَ في أصلِ وجودِها رأسًا، ومنهم مَن يطعنُ في عصمة النَّبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، أو يَنفي وحيَ سُنَّتِه
(3)
، أو يطعنُ في رُواتِها جملةً
(4)
.
وفيهم مَن يَقبل المتواترَ منها دون الآحاد على مَضَضٍ، وتَجِد فيهم مَن يقبلُ هذه شرطَ أن تُوافق عقلَه وذوْقَه، وإلَّا فالسُّنَة عنده غير صالحةٍ أصلًا للتَّطبيقِ في زمنِه
(5)
، ويكاد يكون الأصل الَّذي يتَّفق عليه جميع العَلمانيُّون، وتفصيلُه في الآتي:
(1)
«التراث والتجديد» لحسن حنفي (ص/45).
(2)
كما في «السُّنة بين الأصول والتاريخ» لحمادي ذويب (ص/81 - 87).
(3)
كما في «الوحي والقرآن والسُّنة» لهشام جعيط (ص/35 - 40).
(4)
كما في «الحديث النبوي» لمحمد حمزة (ص/294 - 295)، و «تدوين السنة» لإبراهيم فوزي (ص/166 - 167).
(5)
«تدوين السُّنة» لإبراهيم فوزي (ص/411).