الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الثَّاني
أبرز شخصيَّات المدرسةِ العقليَّةِ الإسلاميَّةِ الحديثةِ
لئِن كان جمالٌ الأفغانيُّ المؤسِّسَ الرَّمزيَّ لهذه المدرسة بادئ أمرِها -كما أشرنا إليه آنفًا- وباعث الفكرة في رُوَّادِها، فإنَّ تلميذَه (محمَّد عبده) هو الَّذي أقام صروحَها وأجاد في الإقناع بها، فكان بحقٍّ صاحبَها وإمامَها الأوَّل، وله مِن الأثرِ على أتباعِها ما لم يكن لأستاذِه، نتيجةَ اختلافِ الوسائل الَّتي ارتضيَاها لبَثِّ أفكارهِم، وتنزيلِها على أرضِ الواقع.
فبينما كان الأفغانيُّ منكبًّا على المجالِ السِّياسيِّ، يبتغي من خلاله نهضةً حضاريَّةً جديدة، مقتنعًا بعدم إمكان تغيير للواقعِ إلَّا بـ «ثورة سِياسيَّة» دندنَ حولها في عدَّةٍ من مَقالاتِه؛ كان تلميذه (عبدُه) يخالفه المَسلك، فيدعوه -مُتأدِّبًا- إلى سلوكِ طريقِ التَّعليمِ والدَّعوةِ والكِتابةِ لتحقيقِ ما يَصبوان إليه مِن إصلاحٍ حَضاريٍّ، إلى أن أعلنَ عيبَه عليه بعد موتِه انشغالَه المُبالَغَ «بأمورِ الحُكم والحُكَّام»
(1)
، فصارَت له ردَّة فعلٍ تُجاه مسلكِه بالغَ فيها بدورِه
(2)
، وإن لم يَنجُ هو أيضًا مِن سُعار السِّياسة ومكر أربابها.
(1)
انظر «تاريخ الأستاذ الإمام» لرشيد رضا (1/ 416 - 417، 425).
(2)
كما تراه مثلًا في كتابه «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» لمحمد عبده (ص/111).
يقول الحجويُّ الفاسيُّ: «الشَّيخ محمَّد عبدُه رجل أدَبٍ، وليس رجلَ حديثٍ وفقهٍ، وهو رجلُ زَعامةٍ في السِّياسة، نعترفُ بفضلِه على بلادِه ونَفْعِها، فيما سِوى الفَنَّيْن المَذكوريْن»
(1)
.
ولقد كان من عوامل انتشار أفكار (عبدُه) وتذليل مسلكه في الإصلاح ظروف سِياسيَّة وثقافيَّة خاصَّةٌ أحاطَت بالحالةِ الاجتماعيَّة في المَشرق العربيِّ آنذاك، فقد كان مُفتيَ الدِّيار المصريَّة، ومَن واجَه مُدراءَ جامعة الأزهرِ بضرورةِ إصلاح مَناهج التَّعليمِ فيها للارتقاءِ بشبيبةِ البلَد في سلالِم العلومِ ومُواكبة العصر.
فلقد فسَحَ له المُحتَلُّ البريطانيُّ مجالًا واسعًا للتَّصدُّر في ذلك، فكُتِب لمواقِفه التَّجديديَّة القَبول عند شريحةٍ عَريضةٍ مِن طبقاتِ النَّاس على اختلافِ تخصُّصاتِهم، وأخذَ كُلُّ شَغوفٍ بالتَّغييرِ يَتبنَّاها في مَقالاتِه وكتاباتِه، ويُنافحون عن رِجالاتِ مَدرَستِه إلى اليوم.
يَصِف المُستشرق الإنجليزي (جُب) هذا التَّأثير الخطيرَ لأفكارِ (محمَّد عبدُه) على السَّاحة الثَّقافية والفكريَّة وقته فيقول: «إنَّ عَظمةَ اسمِه قد ساهمَت في نشرِ أخبارٍ لم تكن تُنشَر مِن قبل! ثمَّ إنَّه قد أقامَ جِسرًا مِن فوق الهُوة السَّحيقةِ بين التَّعليم التقَّليدي، والتَّعليمِ العقليِّ المُستَورَد مِن أوربا، الأمر الَّذي مَهَّد للطَّالبِ المُسلمِ أن يَدرُس في الجامعاتِ الأوروبيَّة، دون خشيةٍ مِن مخالفةِ مُعتقدِه، وهكذا انفَرَجت مصرُ المسلمة بعد كبتٍ! فقد ساهمَ الشَّيخ محمَّد عبده أكثرَ مِن أيِّ شخصٍ آخرَ في خلقِ اتِّجاهٍ أدبيٍّ جديدٍ، في إطارِ الرُّوح الإسلاميَّة»
(2)
.
ويقول ألبرت حوراني (ت 1414 هـ)
(3)
:
«لقد تابعَ عَبدُه النَّهجَ الَّذي عهدناه لدى الطَّهطاوي وخير الدِّين والأفغانيِّ في التَّوحيد بين بعض المفاهيم التَّقليديَّة للفكر الإسلاميِّ، وبين الأفكار السَّائدة
(1)
«الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام» للحجوي (ص/109).
(2)
«الاتجاهات الحديثة في الإسلام» لجُب (ص/70).
(3)
ألبرت حبيب حوراني: مؤرِّخ إنكليزي من أصل لبناني، متخصص في تاريخ العرب والشَّرق، من أشهر مؤلفاته: تاريخ الشعوب العربية، والفكر العربي في عصر النهضة.
في أوربا الحديثة .. ولا شكَّ أنَّه كان من السَّهل باتِّباع هذا النَّهج تحويرُ -إن لم نقُل إبطال! - المعنى الدَّقيق للمفاهيم الإسلاميَّة، وتناسي ما يميِّز الإِسلام عن غيره من الأديان، لا بل عن النَّظرة الإنسانيَّة اللَّادينيَّة! وهذا ما تنبَّه له بقلقٍ نُقَّاده المحافظون ..
لقد نوَى محمَّد عبدُه إقامةَ جدار ضدَّ العَلمانيَّة، فإذا به -في الحقيقة- يبني جسرًا تعبر العلمانيَّة عليه لتحتلَّ المواقع واحدًا بعد الآخر! وليس من الصُّدفة أن يَستخدم معتقداتَه فريقٌ من أتباعه في سبيل إقامة العَلمانيَّة الكاملة ..
لقد رضي عبدُه بالتَّعاون مع البريطانيِّين -مع أنَّهم كانوا أجانب لا مسلمين- شرطَ أن يساعدوا في العمل من أجل التَّربية الوطنيَّة، وشرطَ أن يكون بقاؤهم مؤقَّتًا؛ وكان على صلةٍ طيِّبةٍ بـ (كرومِر) -المندوب البريطانيِّ على مصر- مع أنَّه لم يكن يحبُّ سائر الرَّسميِّين البريطانيِّين؛ فقد كتب (كرومر) عنه وعن رفاقه قائلًا:(بأنَّهم الخلفاء الطَّبيعيُّون للمُصلح الأوروبيِّ)! ولذلك أيَّده عندما أراد الخديوي عزلَه من منصب الفتوى»
(1)
.
ولقد أسالَ الحديثُ عن مدرسة عبدُه الحديثة -بمُؤسِّسِيها ومَناهجها- مِدادَ المَحابر سيْلَ العَرِم! لكثرةِ ما خَرَّجت مِن كُتَّابٍ وأدباء ومُفكِّرين، تركوا آثارًا بليغةً على السَّاحةِ العلميَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة الإسلاميَّة المعاصرة؛ إمَّا تَتلمذوا على شيوخِها مواجهةً، أو عن طريقِ مُؤلَّفاتهم.
كان مِن هؤلاءِ سِياسيُّون: كسعد زَغلول (ت 1346 هـ)
(2)
، على زَيغِه بعدُ إلى العَلمانيَّة، واقترافِ بوائقَ في بعضِ مُمارَساتِها
(3)
؛ وكُتَّابٌ أدباء: كقاسم
(1)
«الفكر العربي في عصر النهضة» لألبرت حوراني (ص/179، 195).
(2)
انظر ترجمته في «الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة» لمحمد كامل الفقي (2/ 50).
(3)
انظر شيئًا من ذلك في «رجال اختلف فيهم الرَّأي» لأنور الجندي (ص/8).
أمين (ت 1362 هـ)
(1)
، وعبد العزيز جاويش (ت 1347 هـ)
(2)
، وأحمد أمين (ت 1373 هـ)
(3)
،
ومحمَّد فريد وجدي (ت 1373 هـ)
(4)
؛ وعلماءُ دينٍ مُبرَّزون: كمحمَّد رشيد رضا
(5)
، وأحمد مصطفى المَراغي (ت 1371 هـ) شيخ الأزهر
(6)
-وهما أقربُ تلاميذِ (محمَّد عبده) إليه- ومَن جاء بعدهما كمحمود شَلتوت (ت 1383 هـ).
ثمَّ تبِع آثارَهم مِن بعدهم ثلَّة كبيرةٌ من الدُّعاة والمفكِّرين الإسلاميِّين ممَّن تَركوا بصمةً ظاهرةً لا تُنكَر على النَّاشئةِ العِلميَّة والدَّعويَّة في العقودِ الأخيرة، أعني منهم على سبيل المثال: أبو الأعلى المودوديُّ (ت 1399 هـ)
(7)
، ومحمَّد
(1)
قاسم بن محمد أمين المصري: كاتب باحث، كردي الأصل، اشتُهر بمناصرته للمرأة، أكمل دراسة الحقوق في فرنسا، وعاد إلى مصر سنة (1885 م) فكان وكيلًا للنائب العمومي بالمحكمة المختلطة، فمستشارا بمحكمة الاستئناف، له «تحرير المرأة» و «المرأة الجديدة» ،وكان لصدورهما دَويٌّ، انظر الأعلام للزركلي (5/ 184).
(2)
عَبْد العَزِيز جاوِيش: مِن رجال الحركة الوطنيَّة بمصر، تونسيُّ الأصل، وُلد بالإسكندرية، وتعلم بالأزهر ودار العلوم، واختير أستاذا للأدب العربيِّ في جامعة (كمبردج)، وعاد إلى مصر، فاشتغل مدرسا، فمفُتشا للغة العربية في مدارس الحكومة، ثمَّ رحل إلى الآستانة، فأصدر جريدة «الهلال» فمجلة «الهداية» ، ثم مجلة «العالم الإسلامي» ، وأرسلته الحكومة العثمانيَّة في خلال العالميَّة الأولى إلى برلين للدِّعاية، ودخل مصر خلسة بعد الحرب، فعُين مراقبًا عاما للتَّعليم الأولى، وشارك في إنشاء جمعية الشُّبان المسلمين، وهي نواة جماعة الإخوان المسلمين.
(3)
ستأتي ترجمته في مبحثٍ مُستقل ..
(4)
محمد فريد بن مصطفى وجدي: من الكتاب المصريين المشهورين، نشر كتابه «دائرة معارف القرن الرابع عشر، العشرين» في أجزاء متتابعة اكتملت في عشرة مجلدات، وعكف على المطالعة والتأليف، فنشر من كتبه «ما وراء المادة» في جزءين، و «صفوة العرفان» وهو تفسير موجز للقرآن، و «الحديقة الفكرية في إثبات وجود الله بالبراهين الطبيعية» ، و «المرأة المسلمة» في الردِّ على «المرأة الجديدة» لقاسم أمين، انظر «الأعلام» (6/ 329).
(5)
ستأتي ترجمته في مبحثٍ مُستقل.
(6)
أحمد بن مصطفى المراغي: مفسِّر مصري من العلماء، تخرَّج في دار العلوم، ثم كان مدرِّس الشَّريعة بها، وعُيِّن أستاذًا للعربية والشريعة الإسلامية بكليَّة (غوردون) بالخرطوم، وتوفي بالقاهرة، له من الكتب:«الحسبة في الإسلام» ، و «تفسير المراغي» ، انظر «الأعلام» (1/ 258)
(7)
أبو الأعلى بن سيد أحمد حسن المودودي: وُلد بحيدر آباد بالهند، وكان أبوه مُعلِّمَه الأوَّل، وقد حرص أبوه على تنشئَته تنشِئةً دينية، وأقبل المودوديُّ على التَّعليم بجدِّ واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي، وهو ما يعادل الإجازة الجامعيَّة؛ أصدر جريدة «المسلم» باسم جمعية علماء الهند، وألَّف كثيرًا من الكتب، منها كتابه «الجهاد في الإسلام» الذي حقَّق شهرةً عالميةً، وقد كتبه ردًّا على مزاعم غاندي الَّتي يدَّعي فيها أنَّ الإسلام انتشر بحدِّ السَّيف؛ وكان أسَّس الجماعة الإسلامية في لاهور، وتمَّ انتخابه أميرًا لها في (1360 هـ)، انظر ترجمته الموسعة في «أبو الأعلى المودوي، حياته وفكره العقديُّ» لحمد الجمال (طبعُ دار المدني - جدة، 1401 هـ).
الغزالي (ت 1416 هـ)، وحسن التُّرابي (ت 1437 هـ)، وحسين بن أحمد أمين (ت 1435 هـ)، والكاتب الصُّحفيِّ فهمي هويدي، في آخرين يَطول استيعابُهم.
حتَّى كُتَّاب الإماميَّة أنفسهم تأثَّر بعضهم بهذه المدرسة في نقد السُّنة، يصرِّح بهذا أحدُ باحثِيهم فيقول:«نحن نجِدُ أنَّ مساهماتِ الكاتبِ محمود أبو ريَّة، والأستاذ محمد أمين، والشَّيخ محمَّد رشيد رضا، والإمام محمَّد عبدُه، وصولًا إلى العصر الحاضرِ، كانت ظاهرةً في التَّجربة النَّقدية الإماميَّة! فقد فَتَحت هذه المساهمات النَّقدية البابَ أمامَ النَّاقد الإماميِّ، للعثورِ على مزيدٍ مِن المشاكلِ في الصَّحيحين وغيرهِما»
(1)
.
ومِن الجديرِ هنا استصحابه قبل ختم هذا المَبحث في الكلامِ عن المُنتسِبين إلى هذا التَّيار الإصلاحيِّ العقلانيِّ، أنَّهم على غير درجةٍ واحدةٍ في نَظْرِتهم العقليَّةِ إلى نصوصِ الشَّريعة وأحكامِها، فإنَّك تَجِدُ منهم مَن يَغلو في مناطحةِ النُّصوصِ، والسَّعيِ في تبديلِ الشَّرائعِ باسمِ التَّجديدِ والنَّظرِ المقاصِدِي، لا تكاد تُفرِّق بينه وبين مُنظِّرٍ عَلمانيِّ في كثيرٍ مِن أفكارهم الأساسة.
ومنهم مَن تصدُر منه تلك التَّمعقُلات على النُّصوص أحيانًا، على وجهٍ يُنبي عن تأثُّرِه نوعًا ما بهذا المنهجِ العقليِّ في نظره إلى النَّصوصِ، وهو أقربُ إلى نهج المُحافِظين على طريقة السَّلَف في ذلك.
(1)
بحث بعنوان: «الإماميّة والموقف من صحيحي البخاري ومسلم» ، لحيدر حبُّ الله، وهو باحث إماميٌّ معاصر، صاحبُ كتاب «المدخل إلى موسوعة الحديث النَّبوي عند الإماميَّة» ، منشور بحثه هذا في مَوقعه الرَّسميِّ على الشَّبكة العالميَّة، بتاريخ 10 - 7 - 2014.
لهذا تجدني -أيَّها القارئ الكريم- مُتردِّدًا في إدخالِ بعضِ مَشاهير الفِكر مِن المُعاصرين في هذا التَّيار العقلانيِّ أو مَيْزِه عنه، حسب تقيِيمي لمُجمَل تَقريراتِه الَّتي تصدر عنه، إلى أيِّ التَّيارات الفِكريَّة هو أقرب، وفي أيِّ درجةٍ مِن درجاتِ العقلانيَّة نفسِها يوضَع.
والله المُوفِّق للصَّواب.