الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الأوَّل
مقالات المُعاصرين في دعوى إغفال الشَّيخين لنقد المتون
إغفال تفحُّص المتونِ في عمليَّة النَّقد الحديثيِّ، بعرضِها على أصولِ الشَّرعِ ومُسَلَّمات العقلِ؛ تُهمة اتُّخذت مِعوَلًا توسَّل به كلُّ مَن أزَّته نفسُه لرَدْمِ ما لم يَستسِغه عَقلُه أو ذَوْقُه مِن أخبارِ «الصَّحيحين» .
وهي لا شكَّ تهمةٌ وشَيْنٌ لذاتِ المنهجِ النَّقديِّ الَّذي ابتَنَى عليه الشَّيخانِ أحكامهما الحديثيَّة، واعتمداه في تميِيز الأخبارِ كسائرِ المُحدِّثين، منهجٍ بانَتْ مَعالِمه جَليَّةً في مُمارساتِهم النَّقديَّةِ للتُّراثِ الشَّرعي عبر دهورٍ مِن الزَّمن؛ قومٌ أنهكوا أعمارَهم في تفحُّصِ الرِّواياتِ وِفقَ نظرٍ مَنهجيٍّ صارمٍ لا يحابي أحدًا، وممارساتٍ تطبيقيَّةٍ دَؤوبةٍ لهذا الفنِّ، لا ينكرُ جهدَهم في ذلك إلَّا جاحدٌ يُزري بنفسِه.
وكثيرٌ مِمَّن تجاسرَ مِن أهل زمانِنا على أخبار «الصَّحيحين» بالطَّعنِ، يشكرون للشَّيخينِ جهدَهما في ما تَقصَّداه مِن التَّصنيفِ، لكنَّهم يحكمونَ على مُحاولتِهما في ذلك بالفَشَلِ! بحجَّة اختلالِ المَسْلكِ النَّقديِّ الَّتي اتَّبعوه في ذلك؛ منشأ هذا الخَلَلِ كامنٌ بزعمهم في تَمَحورِ عملهما -كباقي المُحَدِّثين- حول رُكنٍ واحدٍ مِن رُكْنَي الرِّوايةِ، وهو الإسنادَ وما تعلَّق به مِن مَباحث، فلم يَرعوا المتنَ تلك العنايةِ اللَّازمة.
وفي تثبيت هذه الدَّعوى على البخاريِّ بصفة خاصَّة، يقول (حُسين أحمد أمين)
(1)
بعد أن سَخر مِن حديثٍ أخرجه: «كان انتقاءُ البخاريِّ للأحاديثِ الصَّحيحةِ على أساسِ صحَّةِ السَّندِ لا المتن، فالإسنادُ عنده وعند غيرِه هو قَوائم الحديث، إنْ سَقَط سَقَط، وإنْ صَحَّ السَّند، وَجَب قَبول الحديث، مهما كان مَضمون المتن» !
(2)
.
ويقول (عابد الجابري) في حقِّ روايةٍ صحَّحها البخاريُّ: «بوسعِ المَرءِ أن يَشُمَّ في الرِّواية الَّتي أوردَها البخاري شبهةً سِياسيَّة، ولا لَوْمَ للبخاريِّ عليها، مادامَ قد قَصُر مُهمَّتَه على اعتبارِ السَّند لا غير»
(3)
.
وغير هذين من المعاصرين اختاروا تلطيف الكلامِ في انتقاد نهجِ البخاريِّ والتَّمهيد له بشكر لطيف، أعقبه بغمزٍ سخيف! كالَّذي سطَّره (حسن عَفانة) في قوله:
«جَزَى الله البخاريَّ ومسلمًا وإخوانَهما أصحابَ السُّنَن وكتبِ الحديثِ والرِّجال عن الإسلامِ خيرَ الجزاء، وأدخلَهم فسيحَ جنانِه، لِما بَذلوه مِن جُهدٍ، ولَزِموه مِن أمانةٍ في نقلِ وتدوينِ ما سمعوه بعد تمحيصِ سَنَده، حتَّى وَصَلنا منه ذخيرةٌ لا مَثيل لها في أيِّ دينٍ سَبَقه.
على أنَّ ثِقَلَ المهمَّة، وصعوبةَ العمل في تحقيقِ سندِ الحديث، قد أخَذ مِن أولئكِ العلماءِ الأفذاذ جُلَّ أوقاتِهم، فلم يَبْقَ لهم مِن الوقتِ ما يَكفِي ليُمَحِّصوا متونَ الأحاديث!»
(4)
.
(1)
حسين أحمد أمين: كاتب ومفكر ودبلوماسي مصري، ابن الكاتب والمؤرخ المشهور أحمد أمين صاحب «فجر الإسلام» وأخواتها، تخرج في كلية الحقوق، جامعة القاهرة عام 1953 م، وعُين في عدة مناصب ديبلوماسية وإعلامية، وحصل كتابه «دليل المسلم الحزين» على جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1984، توفي سنة 2014 م.
(2)
«دليل المسلم الحزين» لحسين أحمد أمين (ص/59 - 60).
(3)
نقلًا عن المَطبوعِ مِن «ملتقى أعلام الإسلام - البخاري نموذجًا» (2/ 278).
(4)
كذلك قال الَّذين مِن بعده مثل قولِه
(1)
! وكأنَّ شُغل المُحدِّثين من المُتقدِّمينَ كان مُنحصرًا في التَّقميشِ لِما يسمعون، دون تفتيشٍ عن صلاحِيَتِه للحُجَّة! وكأنَّهم مَعاشرُ دَراوِيش غير مُخاطَبين بتلكِ النُّصوص النَّبويَّةِ، فأجْزَأَهم -لقلَّةِ أفهامِهم وضِيقِ أوقاتِهم- أن ينقلوها إلى الأجيالِ اللَاّحقةِ، لتنظرَ هي في حُجِّيَتِها دونهم.
لكنْ وَا أسفَ (عَفانةَ) على تَرِكةِ السَّلف! فإنَّه لم يَجِد مَن «يَأتِ بعدَهم فيُمحِّص متونَ الآثارِ والأحاديث! ليَقِف النَّاس على صَحيحِها مَتنًا وسَندًا، وذلك برَدِّها إلى كتابِ الله الكريم، وعَرْضِها على روحِ الشَّريعةِ، إنَّه للأسفِ الشَّديدِ لم يحدُث مِن ذلك إلَّا القَليل، بل الَّذي حَصَل: هو تسليمُ غالبيَّةِ الفقهاءِ بصحَّةِ متنِ الحديثِ إذا صَحَّ سَندُه»
(2)
.
فهذا الظَّن السَّيء في جهودِ الشَّيخين وسائر إخوانهما من المُحدِّثين لحفظِ السُنَّة، هو ما أَزَّ هذا الكاتبَ ومن على شاكِلَتِه للسَّعيِ في سَدِّ ما يَرونَه فجوةً تراثيَّة عظيمة، تَعَلَّلوا بها تسويدَ نَقَداتٍ في مُخلَّفاتِ الآثارِ، يبتغونَ تخليصَ الدِّينِ مِن مُقحَماتِ الأخبارِ الزَّائفة؛ حتَّى رأينا مَن تعَذَّر بنفسِ هذه الدَّعوى لتَصنيفِ كتابٍ في «تجريدِ البخاريِّ ومسلمٍ مِن الأحاديثِ الَّتي لا تَلزم» ، يزعم فيه «أنَّ الاعتمادَ شِفاهًا أو عَنْعَنةً على السَّنَدِ، لتقديرِ حالةِ الحديثِ، وصِحَّتِه مِن عَدَمِه، لا يُمكِن أن يُقبَل، وإنَّها -دون أقلِّ شكِّ- سَمَحت بدخولِ الكثيرِ مِن الأحاديثِ المَوضوعة أو الضَّعيفةِ أو الرَّكيكةِ»
(3)
!
وبهذا يكون لُبُّ دعوتِهم هو «استمرارُ عمليَّة نقدِ نصوصِ الحديث النَّبوي، وإبقاءِهذه النُّصوص مُنفتحةً ومُتحرِّكةً، وقابلةً للتَّجدُّد، عن طريق مُواصلة عمليَّةِ
(1)
انظر -مثلا- «الحقُّ الَّذي لا يريدون» لعدنان الرفاعي (ص/26).
(2)
«اللِّباس الشرعي وطهارة المجتمع» (ص/8).
(3)
«تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث الَّتي لا تلزم» لجمال البنا (ص/8، 13)، انفتقَت فيه قريحتُه عن اكتشافِ اثنَي عَشر معيارًا قِرآنيًّا لنقدِ المتون، يُفتَرض ألَّا يخالفَ أيُّ حديثٍ واحدًا منها، هذه المَعايير كافيةٌ عنده لتكون العِوَضَ عن منهجِ المحدِّثين عُشَّاقِ الأسانيدِ!
تصحيحِ الحديث قبولًا ورفضًا، بناءً على مَعايِير اجتهاديَّة، ووفقَ فكرٍ إنسانيٍّ مُتطوِّرٍ»
(1)
، يتجاوز ذاك النَّقد الحديثيَّ القديم الَّذي قام على الأسانيد والرُّواة، والحفظ والإتقان والمُقارنات؛ فكلُّ ذلك لا يَكفي! بل ينبغي نَقْد الأحاديث وفق مَعايِيَر اجتهاديَّة جديدةٍ تستجيبُ لروحِ العصرِ -بزعمهم- ولمقاصد الإسلام.
لقد كان من اللَّازم أن يُعيدوا النَّظَر في منهجِ الشَّيْخَينِ النَّقديِّ مِن أساسِه؛ كونه قواعد لا تَقبَل الجديدَ والتَّطوُّرَ والإبداعَ في ذاتِها، قد بَلَغت حَدَّ النُّضجِ عند أربابِها؛ لم يجِدْ (نَصْر أبو زَيد) فيه للشَّيْخَينِ مَوقفًا لتجديدِ مَعالِمه إلَاّ «مَوقفَ التَّرديدِ والتَّكرار، إذْ يتَصوَّر كثيرٌ مِن علمائِنا أنَّ هذا النَّمَطَ مِن العلومِ يَقَع في دائرةِ العلومِ الَّتي نَضَجت واحترَقتْ، حتَّى لم يَعُد فيها للخَلَف ما يُضيفُه إلى السَّلَف»
(2)
.
(1)
مقال لـ (فيصل خرتش) في قرائته لكتاب «الحديث النبوي» لمحمد حمزة، منشور بمجلَّة «البيان» الإماراتية (بتاريخ 3 أكتوبر 2005 م).
(2)
«مفهوم النص» لنصر أبو زيد (ص 11/) بتصرف يسير.