الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث العاشر
تسرُّب النَّظرة الاستشراقيَّة إلى دراساتِ الإسلاميِّين لتُراثِ المُحدِّثين
مِن هناك بدأت دعواتِ تجديدِ آلياتِ النَّقد الحديثي، وإعادةِ تشكيل قواعدها، تَتوالى داخلَ المنظومةِ الفكريَّةِ الإسلاميَّةِ نفسِها، وصار كثيرٌ من رجالاتِ الفكرِ ينظرون إلى قواعد المُحدِّثين وأحكامِهم نَظرَ المُنافرِ بينها ومُتطلَّباتِ الواقع.
فهذا (طه العلوانيَّ)
(1)
يدعو صراحةً إلى تغيِير منهجِ النَّقد الإسلاميِّ للأخبار، واستحداثِ بديلٍ له، فيقول في كلامٍ له عن عَملِ المُحَدِّث:« .. اِنتهى إلى تقليدِ الرُّواة والنَّقلةِ في قضايا الجرح والتَّعديل، والتَّوثيق، والتَّضعيف، أو تقليد ومتابعة الرُّواة في فهمِهم لتلك المَرويَّات، وفي ذلك ما فيه مِن تَوقُّف عن الإضافةِ إلى العلم، وتكريسِ العقليَّة السُّكونية؛ ولذلك، فإنَّا نرى الحاجة مُلحَّةً إلى إعادةِ النَّظر في بِنية علومِ الحديثِ الفكريَّةِ والمنهجيَّةِ»
(2)
.
(1)
طه جابر العلواني: مفكر إسلامي، كان رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بفرجنيا بأمريكا، حصل على الدكتوراة في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة عام 1973، ثم كان أستاذًا في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، شارك عام 1981 م في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة، وباسمها أصدر مجلة «إسلامية المعرفة» ، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة، توفي سنة 2016 م.
(2)
من مقدمته لمجلة «إسلامية المعرفة» (العدد 39، ص/41).
مثلُ هذه الرَّغبة المعاصرة الجامحة لاستبدالِ ما تَوارثته الأمَّة من مناهج التَّوثيق الحديثيِّ، مُستمد مِن جذرٍ أقدم، يرجع إلى (محمَّد عبده) في سوءِ تصوُّرِه لأساساتِ هذا العلم، فقد كان مِن السَّابقينَ إلى التَّقليلِ مِن قيمةِ الأسانيدِ الرَّائجةِ في صدر هذه الأُمَّة؛ يقول مَرَّةً في جدالِ أحَدِ علماءِ الهنود:« .. ما قيمة سَنَدٍ لا أعرف بنفسي رجالَه، ولا أحوالَهم، ولا مكانَهم مِن الثِّقةِ والضَّبط؟! إنَّما هي أسماءٌ تلقَّفَها المشايخُ بأوصافٍ نُقلِّدهم فيها، ولا سَبيلَ لنا إلى البحثِ فيما يقولون»
(1)
.
وهذا لا شكَّ منه تطلُّبٌ للمُحَال، وهي مَقالةٌ منه خطيرةٌ! مُنطويةٌ على جهلٍ بطبيعةِ تلك الأسانيد، والمَعايير الَّتي وضعها العلماء قبله للتَّحقُّق من مراتب الرُّواة، مع ما في رفضِه لها من خرمٍ لإجماعِ الأمَّة على اعتبارها بضوابِطها، وما إليه تَؤُول عبارتُه من دعوةٍ إلى الانفلاتِ مِن السُّنَن جملةً.
وبمثل هذه الدَّعوى يُعلِّل مَن يلغ في حياض «الصَّحيحين» بأنَّ الكِتابَين على غيرِ منهجيَّةٍ مَوضوعيَّةٍ متينة! ترى ذلك -مثلًا- في ما استنكره (عبد الحميد أبو سليمان) من أحاديثِ في «صحيح مسلم» ، حيث أرجعَ باللَّائمةِ سِراعًا إلى المنهجِ النَّقدي الَّذي سارَ عليه مسلم بن الحجَّاج في انتخابِه للأخبار، فقال:«إنْ صحَّت مثل هذه النُّصوص، وما أظنُّ كثيرًا منها يَصحُّ بحرفه على الأقلِّ، مِن باب الدِّراية ونقدِ المتن: وذلك لِما قد يكون لحِقها مِن عيوب الرِّواية، الَّتي يغلب على الظَّن أنَّه لم يتنبِه لها علماء الحديث»
(2)
.
(1)
«الأعمال الكاملة» لمحمد عبده (1/ 184).
(2)
في مقاله «حوارات منهجية في قضايا نقد متن الحديث الشريف» ، المنشور بمجلة «إسلامية المعرفة» (العدد 39، ص/248).