الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الثَّالث
رَميُ الشَّيْخَين بالنَّصبِ
(1)
، ونقض حُجَجِهم في ذلك
سَعت كثيرٌ مِن الشِّيعة الإماميَّة للطَّعن في ديانة البخاريِّ ومسلم من خلال تهمة نصبهما لعَداوة آل البيت، تنفيرًا لشيعتِهم مِن تَصفُّحِ كِتابيْهِا، وحَنقًا على أهل السُّنة تراه باديًا في قبيح ما قاله نور التُّستُري (ت 1019 هـ)
(2)
(3)
.
ولقد تَحجَّج الإماميَّةُ في إلزاقِ بدعةِ النَّصبِ بالشَّيخينِ بتُهَمٍ عديدة، يرجِع مجملها إلى ثلاثٍ:
التُّهمة الأولى: كِتمانُ الشَّيخينِ لفضائلِ آل البيت.
(1)
النَّصب: بغضُ عليٍّ وتقديم غيره في زمانِه عليه، فهو الانحراف عن عليٍّ وآل بيتِه، كذا عَرَّفه ابن حجر في «الفتح» (10/ 420).
(2)
نور الله بن شريف الدِّين عبد الله بن المرعشي التُّستري: من علماء الإمامية، رحل إلى الهند، فولَّاه السلطان (أكبر شاه) قضاء القضاة بلاهور، واشترط عليه ألَاّ يخرج في أحكامه عن المذاهب الأربعة، فاستمرَّ إلى أن أظهر مذهب الرَّفض، فقُتل تحت السِّياط في مدينة أكبر أباد، له مصنَّفاتٍ كثيرة، أشهرها «إحقاق الحق» ، وهو الَّذي أوجب قتله، انظر «الأعلام» للزركلي (8/ 52).
(3)
«إحقاق الحقِّ» للتُّستري (ص/195 مخطوط).
التُّهمة الثَّانية: تركُ البخاريِّ الرِّوايةَ عن بعضِ كِبارِ آلِ البيتِ، أشهرُهم في ذلك جعفرٌ الصَّادق، مِمَّا يَنِمُّ عن عَداوتِه له، وغَمْطِه لعِلْمِه.
التُّهمة الثَّالثة: روايتُهما عن النَّواصِب.
وفي تقريرِ هذه الدَّعاوى على الشَّيخين، يقول (صادق النَّجميُّ):
«إنَّك ترَى في البخاريَّ ومسلم وصَحيحَيهما هذه العصبيَّة المُفرطة، عندما تقرأ كتابَيهما، وتُلاحظ أنَّهما لمَّا يُواجهان فضيلةً مشهورةً، ومَنقبةً مهِمَّةً مِن مناقب أميرِ المؤمنين علي عليه السلام، وفيها دلالةٌ صريحةٌ على أفضليَّتِه لأمرِ الخلافةِ، وتَقدُّمِه على الآخرين، فإنَّهما يُبادِران إلى تَعتيمِها.
وهذه المَناقب والفضائل قد وَرَد ذكرُها في سائرِ الصِّحاح السِّتة، والمَدارك المُعتبَرة لدى أهلِ السُّنة، وهي مِن يَقينيات الحوادثِ التَّاريخيَّة ومُسلَّماتها، وهي مِمَّا أجمع عليه علماء السُّنة والشِّيعة، مثل: حديث الغَدير، آية التَّطهير، حديث الطَّائر المَشوِيِّ، حديث سَدِّ الأبواب، وحديثِ أنا مدينة العلم وعليٌّ بابُها، وقد رَوَى كلَّ واحدةٍ مِن هذه الفضائل والمَناقب عشراتُ الصَّحابة، وأثبتَها علماءُ أهلِ السُّنة في كُتبِهم المُعتبرة، إلَّا أنَّ البخاريَّ الَّذي لم يَرضَ أن ينقُل هذه المناقب المُسلَّمة واليقينيَّة، ويخصِّص لها بابًا خاصًا في صحيحِه فحسب، بل أفردَ بابًا خاصًّا في فضائل معاوية!».
ثمَّ قال: «إنَّهما نَقَلا أحاديثَ عن بعضِ الرُّواة الَّذين هم مِن الخوارج والنَّواصب، وخاصَّةً الَّذين ثَبَتت عداوتُهم ومُنابَذتهم لأهلِ البيت عليهم السَّلام
بنحو القطع، واختصَّ البخاريُّ في النَّقلِ عن عمران بن حطَّان، وهو مِن زعماء الخوارج، ومِن فقهائهم ومُتكلِّميهم وخُطبائهم.
ونرى أنَّ إيمان البخاريَّ وتقواه: قد أجازا له أن يَروي عن هؤلاء المَعلومي الحال، ولم يسمحا له مِن أن يَنقُل ولو حديثًا واحدًا عن الإمام الصَّادق عليه السلام!»
(1)
.
ومِمَّا تدَّعيه الإماميَّةِ في هذا على البخاريِّ بخاصَّة: تعمُّدَه لاختصارِ ما فيه مَنقبةٌ لعليِّ رضي الله عنه: فنراهم يتتابعون على سردِ بعضِ أمثلةٍ على ذلك، أشهرُها: ما عَلَّقه البخاريُّ في بابِ (لا يُرجَم المَجنون ولا المَجنونة) حيث قال: «وقال عَليٌّ لعمر: أمَا علمتَ أنَّ القلَم رُفِع عن المجنون حتَّى يفيق، وعن الصَّبي حتَّى يُدرك، وعن النَّائم حتَّى يستيقظ؟»
(2)
.
وأصل هذه الرِّوايةِ المُعلَّقة عند البخاريِّ، ما رواه أبو داود عن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: «أُتِي عمر رضي الله عنه بمجنونةٍ قد زَنَت، فاستشارَ فيها أُناسًا، فأمَرَ بها عمر أن تُرجَم، فمَرَّ بها عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مَجنونةُ بني فلانٍ زَنَت، فأمَرَ بها عمر أن تُرجَم، فقال: اِرجعوا بها!
ثمَّ أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أما علِمتَ أنَّ القَلم قد رُفِع عن ثلاثة: عن المجنون حتَّى يبرأ، وعن النَّائم حتَّى يستيقظ، وعن الصَّبي حتَّى يَعقل؟ قال: بلى، قال: فما بالُ هذه تُرجَم؟ قال: لا شيء، قال: فأرْسِلها، قال: فأرسَلَها، قال: فجَعَلَ يُكبِّر»
(3)
.
ويقول (صادقٌ النَّجمي): «إنَّ البخاريَّ أخرجَ هذا الحديثَ في مَوضِعين مِن «صحيحِه» ، ولكنَّه حِفظًا على مَقامِ الخليفةِ، وسِترًا على جهلِ الخليفةِ وعدمِ فهمِه، وإزهاقًا للحقِّ، وتحريفًا للحقيقةِ الَّتي تقول بأنَّ عليًّا عليه السلام حَكَم بما يُخالف
(1)
«أضواء على الصَّحيحين» (ص/108 - 113).
(2)
أخرجه البخاري (ك: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: يُرجم المجنون ولا المجنونة).
(3)
أخرجه أبو داود (ك: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدا، برقم: 4399).
رأيَ عمر وبعضِ الصَّحابةِ، ولمَّا كان حكمُه عليه السلام مُطابقًا للواقع، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَرَى البخاريَّ يَكتفي بذكرِ ذيلِ الحديث، فيذكُر الحديثَ في كِلا الموردين ناقصًا، ويُسقِط منه السَّندَ والصَّدرَ! .. »
(1)
.
وأمَّا دعوى الإماميَّةِ تعمُّدَ اختصارِ البخاريِّ لمِا فيه مَثلبةٌ للفاروق رضي الله عنه:
فمِمَّا ذكَرَه (النَّجميُّ) في ذلك للتَّشغيبِ على أمانةِ البخاريِّ في سَوقِ الأحاديث، بعضُ أمثلةٍ مِن تصرُّفاتِه في كتابِه، يزعم فيها حذفَه لِما فيه مَثلبةٌ لأحَدِ الخُلفاءِ الرَّاشدين غير عليٍّ، أشهرُها ثلاثةُ أمثلة مشهورات مِن «صحيحِه»:
فالمثال الأوَّل:
ما أخرجه البخاريُّ عن عبد الرَّحمن بن أَبْزى قال: «جاء رجلٌ إلى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فقال: إنِّي أجنبتُ، فلم أُصِب الماء، فقال عمَّار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أمَا تذكرُ أنَّا كُنَّا في سفرٍ أنا وأنت، فأمَّا أنتَ فلم تُصَلِّ، وأمَّا أنا فتَمعَّكت فصلَّيتُ؟ فذكرتُ للنَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبَّي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما كان يَكفيك هكذا» ، فضرَبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرضَ، ونفَخَ فيهما، ثمَّ مسَحَ بهما وجهَه وكفَّيه»
(2)
.
أورد (النَّجميُّ) بعدها روايةَ مسلمٍ المُتقصَّاة لهذه القِصَّة، وفيها:« .. فقال -أي عمرُ للسَّائلِ- لا تُصَلِّ»
(3)
، فعَقَّب عليها بقولِه:«فكما تَرى أيَّها القارئ العزيز، أنَّ هذين الحديثين مِن حيث السَّند والمتن سواءٌ، ولا فرقَ بينهما إلَّا في جملة «لا تُصَلِّ» ، حيث أسقطَها البخاريُّ، وأثبتَها مسلمٌ»، «ولا يخفى أنَّ فتوى الخليفةِ بتركِ الصَّلاةِ حين الجنابةِ مُخالفةٌ صريحةٌ لنصِّ القرآن، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ممَّا يَدلُّ على جهلِ الخليفةِ بحكمِ التَّيمُم! وعدم إحاطتِه بالأحكامِ الشَّرعيَّة، وغفلتِه عمَّا هو عامَّة الابتلاء؛ ولكنَّ البخاريَّ قامَ بتقطيعِ
(1)
«أضواء على الصحيحين» (ص/118 - 119).
(2)
أخرجه البخاري (ك: التيمم، باب: التيمم هل ينفخ فيهما، برقم: 331، وفي باب: التيمم للوجه والكفين، برقم: 336 بإسناد السابق مختصرًا).
(3)
أخرجه مسلم (ك: الحيض، باب: التيمم، برقم: 368).
الحديث، فحذَفَ منه إجابةَ الخليفة «لا تُصَلِّ» ، وذلك حِفظًا لكرامةِ الخليفة مِن أن تُنال»
(1)
.
والمثال الثَّاني:
ما أخرجه البخاريُّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «ضَرَب في الخمرِ بالجريدِ والنِّعالِ، وجَلَد أبو بكر أربعين»
(2)
.
أورد (النَّجمي) ما يُدلِّل به على اختصارِ البخاريِّ لهذا الحديث، فيما أخرجه مسلم من حديث أنس نفسِه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلَدَه بجريدتين نحوَ أربعين، قال: وفَعَله أبو بكر، فلمَّا كان عمر استشارَ النَّاس، فقال عبد الرَّحمن: أخَفُّ الحدود ثمانين، فأمَرَ به عمر»
(3)
.
فزَعم (النَّجمي) بهذا، أنَّ «عُمر لمَّا تَقَلَّد الخلافةَ بعد أبي بكر، تَرَك الحكمَ النَّبويَّ، ولجَأَ في حَدِّ شاربِ الخمرِ إلى رأيِ الآخرين، وأفتَى برأيِ عبد الرَّحمن بنِ عوفٍ، فَجلَد ثمانين جلدةً .. فكيف يَخفى عليه حكمُ مسألةٍ قد عُمِل به مُدَّةً طويلةً، فيلجأَ إلى رأيِ الآخرين، ويترك العملَ بسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما تَقيَّد به مَن سَبَقه بالخلافة؟! .. أو أنَّ الصَّفقَ بالأسواقِ والعمل بالتِّجارةِ ألهاه عن معرفةِ الحكم وتعلُّمه؟!
فلمَّا كان هذا الحديثُ على خلافِ مَذاقِ البخاريِّ ومَذهبِه، بادَرَ رعايةً لمقامِ الخليفة إلى تقطيعِه، بنقلِ أوَّلِه الَّذي بَيَّن فيه حُكمَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالتَّعزير، ومُتابعة أبي بكر لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأسقطَ ذيلَه الَّذي فيه استشارةُ عمر لبعضِ الأصحاب»
(4)
.
(1)
«أضواء على الصحيحين» (ص/117 - 118).
(2)
أخرجه البخاري (ك: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، برقم: 6773).
(3)
أخرجه مسلم (ك: الحدود، باب: حد الخمر، برقم: 1706).
(4)
«أضواء على الصحيحين» (ص/119 - 120).
والمثال الثَّالث:
ما أخرجه البخاري مِن حديثِ أنس رضي الله عنه قال: كنَّا عند عمر رضي الله عنه فقال: «نُهِينا عن التَّكلُّف»
(1)
.
قال النَّجمي: «هذا الحديثُ الَّذي نَقَله البخاريُّ بهذه الكيفيَّة، أوضحُ دليلٍ وشاهدٍ على التَّدليسِ والتَّقطيعِ، وذلك لأنَّ كلَّ مَن كان لديه أقلُّ معرفةٍ بالحديث ونصوصِه، يعلمُ بمجرَّد رؤيتِه لهذا الحديث، عدمَ تماميَّة الحديث، وعدمَ استقامته ..
فهذا ابنُ حَجرٍ بعد أن ذكَرَ نصَّ الحديثِ مِن رواية أخرى في شرحِه لـ «صحيح البخاري» ، قال: إنَّ رجلًا سألَ عمر عن قولِه: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 31]، ما الأبُّ؟ فقال عمر: نُهينا عن التَّعمُّقِ والتَّكلف! ..
فلو كان التَّعرُّف واستنباطُ معنى كلمةٍ مِن كلماتِ القرآن، يُعتَبر تعمُّقًا وتكلُّفًا، فعلى هذا لا يجوز الاستفسارُ عن أيَّةِ مسألةٍ دينيَّةٍ أخرى، ولا يَحقُّ التَّفكُّر فيها!»
(2)
.
ثمَّ تَمادى به الغَيُّ، حتَّى نَسَب الفاروق رضي الله عنه إلى الجهلِ بالقرآن، لعدمِ تعقُّلِه معنى كلمةٍ مِن آياتِه، فما كان للبخاريِّ في نَظرِ الرَّافضيِّ إلَّا أن يُسارِعَ إلى حذفِ صدرِ الحديثِ، لمساسِه بعلمِ الخليفة
(3)
.
وبعدُ:
فإنَّ من جسيم خطر هذه الشُّبهات المَسرودة آنفًا، أن أخذت بلُبِّ بعض مَن يُحسب على الحديثِ والاشتغال به! منهم مَن نَزع بها إلى التَّشيُّعِ في بعض مواقفه وأعلنَ بذلك، وسار في ركب الوالغين في دين البخاريِّ، كحال أحمد الغُماريِّ
(1)
أخرجه البخاري (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلُّف ما لا يعنيه، برقم: 7293).
(2)
«أضواء على الصحيحين» (ص/121).
(3)
«أضواء على الصحيحين» (ص/122).
في ما ادَّعاه عليه بقوله: «البخاريُّ كان فيه نوع انحرافٍ عن أهلِ البيت، ومَيلٍ لأعدائِهم، وقد كان بعض الأشرافِ العَلويِّين الحضرميِّين مِن أصحابنا بالقاهرة، وهو مِن العلماء الأجلَّاء، يقول لي: إنَّ البخاريَّ نُوَيصِبيٌّ -بالتَّصغير- .. !»
(1)
.
فهذا أوان الشُّروع في دحض تلك الفِرى كلِّها عن البخاريِّ، فنقول:
(1)
«جؤنة العطَّار» (2/ 218).
قلت: ظنِّي بأنَّ هذا الشَّريف المُشار إليه في كلامه هو ابن عقيل الحضرمي، فقد كان الغُماريُّ مُتأثِّرًا بكتابِه «العتب الجميل» ، وفي هذا الكتاب مغْمَزُ البخاريِّ بهذا النَّصب.