الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الثَّالث
تَمَدُّد العَلمانيَّة إلى العالَم الإسلاميِّ وأسبابُه
لقد كان للغَزوِ العسكريِّ الفرنسيِّ والبريطانيِّ للبلدانِ الإسلاميَّةِ الأثرُ البليغ في نقلِ تعاليم العَلمانيَّة الأوربية إلى أروِقةِ حُكمِها، ثمَّ الانتقالِ إلى دعوةِ شعوبِها إلى اعتِناقِها فِكريًّا واجتماعيًّا، عبر بعثاتِ الاستشراقِ ووَسائلِ الإعلامِ الحديثةِ المُتحكَّم فيها آنذاك.
وكان مِن دَهاء جَلَّادِ فرنسا العَسكريِّ «نابوليون بونابارت» ، أنَّه مع شحن سُفنه المُتَّجِهة إلى مصرَ بالمَدافع، جَعَل بجنبِها حَيِّزًا للمَطابِع! فجلب معه من بلادِ الإفرنجِ إليها فكرةَ الحضارةِ الغربيَّة مَقروءةً في كلِّ بيتٍ.
ونظرًا لقوَّة أوربا العسكريَّة والاقتصاديَّة، زَحَفت العَلمانيَّة بقوَّةٍ، وانتشرت بين أبناء الإسلامِ سراعًا بين أروقة الحكم ونوادي النُّخَب المُثقَّفة؛ بذا اعتَرَف بعضُ مُفكِّري العَلمانيَّة العَربيَّةِ
(1)
: أنَّ العَلمانيَّة لم تقبلها الأُمَّة في جملتها يومًا بديلًا عن شريعةِ رَبِّها، بل لم تَدخل بلادَهم إلَّا عُنوةً بالحديدِ والنَّار، لا بالفكرِ
(1)
منهم المؤرِّخ المصري: محمود إسماعيل، الَّذي أقرَّ بأنَّ العَلمانيَّة جاءت إلى العالم العربيِّ مع الاستعمار الأوروبيِّ على قنطرةِ النَّصارى؛ وبلديُّه الآخر عادل الجندي، الَّذي أكَّد على أنَّ العلمانيَّة لم تدخل قطُّ إلى العالم العربيِّ كجزءٍ من الفكر السِّياسي، وانظر مَقالاتهم وغيرها في كتاب «العلمانية مفاهيم ملتبسة» (ص/93)، و «قدر العلمانية في العالم العربي» (127) كلاهما للحسن وريغ وأشرف عبد القادر.
والإقناع؛ فلذا شيَّدوا لها المَدارس، وأقاموا عليها أساتذةً مُستَشرقين يُعلِّمون النَّشءَ أنماطًا جديدةً مِن التَّفكير دخيلة، ويبثُّون في عقولهم أفكارًا مَغلوطةً عن الإسلام، ويُزيِّنون في أنظارِهم أساليبَهم المُستحدثةَ للحياة
(1)
.
ومع أنَّنا مَعاشر المُسلمين، تكاد تَنعدِم عندنا الأسبابُ الباعثةُ لأهلِ أوربا للثَّورة على الدِّين، واستحداثِ العَلمانيَّة بديلًا له؛ فإنَّ دينَهم يَفتقرُ إلى التَّشريعات الشَّاملة، ولا يَرسُم مَعالم للحكمِ، بينما دينُنا دين عقيدةٍ وشريعةٍ، نَظَّم حقوق النَّاس مِن الفَرد إلى الدَّولة.
كما أنَّ رجالَ دينِهم كانوا أعداء العلوم الكونيَّة والفِكر المُتعقِّل، بينما دينُنا رَحَّب بذلك كلِّه، بل جهابذةُ العلومِ لم يَبرُزوا إلَّا تحت ظِلِّه؛ ولم يَدَّعي منهم أحَدٌ أنَّه يحكم باسم الله، ولا أنَّه مَعصومٌ من الله، إلَّا ما كان مِن بعضِ الدُّوَلِ البَّاطنيَّة المنحرفة في فارس والشَّام ومصر، سُرعانَ ما أجهزَ عليها المُسلمون ونَكَّلوا بزَنادِقتها.
فلقد كان الأصلُ -بالنَّظر إلى هذه الاعتبارات المُنشئة لفكرة العلمنة- أن تبقى بلادُ الإسلام مَنيعةً عن قَبولِ ضَلالِها واحتضان دُعاتها؛ لكنَّ انبهارَ النُّخَب السِّياسيَّة والفكريَّة منهم بسطوةِ الحضارةِ الغربيَّة، حتَّى أنَّهم رَبطوا سَفَهًا «بين النَّهضة العَربيَّة، وبين النَّهضة الأوربيَّة في كلِّ شيءٍ! فرَبطوا مُستقبلَهم بأوربا على هذا النَّحو، وانجرفوا في سبيل «النَّهضة العربيَّة» نحوَ التَّصوُّراتِ العَلمانيَّة الغربيَّةِ للمُجتمع، على المُستوَيين الفِكريِّ والسِّياسي»
(2)
.
هذا؛ مع ما كانَ عليه جملة المُسلمين مِن ضَعفٍ نَفسيٍّ إزاءَ هذه الغلبة، وقابِليَّةٍ منهم لاتِّباعِها، وتخويفِهم من إثارةِ النَّزعات الطَّائفيَّة والعِرقيَّة، سبيلًا لإقناعِهم بضرورةِ الادِّثارِ بثوبِ العَلمانيَّةِ، فإنَّها بزعمهم على مَقاس الكُلِّ مسلمًا
(1)
انظر رسالة «الطَّريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص/113).
(2)
أشار إلى هذا المُستشرق الرُّوسي (ليّين زيلمان) في كتابه «الفكر الاجتماعي والسياسي في لبنان وسوريا ومصر» (ص/42).
أو غير مسلم، ليخلصوا إلى كونِ «العَلمانيَّة هي الحماية الحقيقيَّة لحريَّة الدِّين والعقيدة والفكر وحريَّة الإبداع، وهي الحماية الحقَّة للمجتمع المَدنيِّ، ولا قيام له بدونها»
(1)
.
ناهيك عمَّا كان عليه عامَّة المُسلمين مِن جهلٍ مُدقعٍ بحقيقةِ الدِّينِ، وانكبابٍ على التَّصديق بالخُرافات، وتلمُّسِ البَركاتِ على أعتابِ المَشيخاتِ، وتطوافٍ بالقبورِ والمَزارات، وانحسارِ دور كثيرٍ من العُلماء عن واجب المُدافعةِ لذلك والنُّزول في ميادين الإصلاحِ، وهم يرون الغُزاة يتسلَّلون إلى قصورِ السَّلاطين، ويشترون ذِمَم العساكر! ويوظِّفون عُمَلاء لتفعيلِ خُطَطِ التَّغريب، ويبعثون أحزابًا مُوكَلةً بترسيخِ الهَيمنةِ الغَربيَّةِ في شتَّى مُؤسَّساتِها.
فكلُّ هذا ساهَم بقسطِه في ترسيخ الأفكارِ العَلمانيَّة بقرائح كثيرٍ مِن المُثقَّفين المُنتسبين للإسلام، ورسمِها منهجًا للحياةِ في دساتير الحُكمِ، ومناهج التَّعليم.
وجَديرٌ بالذِّكر، أنَّ الاتِّجاه العَلمانيَّ الخالصَ في البلادِ العربيَّةِ، بَدأ مِن أساسِه اتَّجاهًا فكريًّا نَصرانيًّا أرثوذوكسيًّا، حيث كانت أغلبُ الدَّعواتِ إلى تحريرِ المرأة مِن قيودِ الدِّين، وبَثِّ النَّعراتِ القوميَّةِ العربيَّة دون الإسلاميَّةِ، والنُّزوعِ إلى مفهومِ الدَّولةِ القُطريَّةِ الضَّيِقة دون اسم السَّلطنة العُثمانيَّة: هو دَيدَن مُفكِّرين وأُدباء نصارى الشَّامِ على وجهِ الخصوص، وقد أصدروا لنَشرِ ذلك في مجتمعاتهم عِدَّة صُحفٍ ومَجلَّات
(2)
.
فالعَلمانيَّة إذن في أصلِها خيارٌ غير إسلاميٍّ، ابتدرها نَفرٌ غيرِ مسلمين، زكَّاه لديهم العداءُ المستكِنُّ للإسلام، والإعجابُ المفرط بما بلَغَه أعداءهم الكاثوليك مِن سَطوة، إلى درجةِ الانبهارِ والتَّقليد لحضارتهم الأوربيَّة.
(1)
«نقد الخطاب الدِّيني» لنصر حامد أبو زيد (ص/43).
(2)
كمجلة «المقتطف» في بيروت، ومجلَّة «الجامعة» في القاهرة، وانظر دور الصَّحافة النَّصرانية في تَوجيهها التَّغرِيبي للمُجتمعات العربيَّة في كتاب «النَّظريات العلميَّة الحديثة» لحسن الأسمَري (1/ 582).
أمَّا المُتأثِّرون بالحضارةِ الغربيَّة مِن أبناء المدارِس الشَّرعيَّة، فكان مَبدأ تأثيرها مِن مِصر، حيث ظلَّت هذه النَّزعة التَّوفيقيَّة بين أصول الشَّريعة والقوانين الغربيَّة سائدة في فئة مِن الشَّرعيِّين، كـ (علي يوسف البَلصفوي)
(1)
، و (جمال الدِّين الأفغانيِّ)، وبصورة أوضحَ عند (عليِّ عبد الرَّازق)
(2)
في كتابِه «الإسلام وأصول الحكم» المَنشورِ بُعيْدَ سقوطِ الخلافةِ العُثمانيَّة، حيث مهَّدَ لقَبولِ العَلمانيَّة في أنظمة الحكمِ الإسلاميَّة.
وبغضِّ النَّظر عن المُؤلِّف الحَقيقيِّ لهذا الكتابِ الأخير
(3)
، أو صحَّة تَراجُعِه عنه أُخرَياتِ حياتِه من عدمه
(4)
، فقد استمرَّ بعد إخراجه للنَّاس عشرين سنةً يُحاضِر طلبةَ الدُّكتوراه بجامعة القاهرة، وتخرَّج على أفكارِ الكتابِ فِئامٌ مِن أصحابِ القَرار وأربابِ الكِتابة.
(1)
علي بن أحمد بن يوسف البلصفوري الحسيني (1863 - 1913 م): كاتب، مِن أكابر رجال الصحافة في الديار المصرية، تعلم في الأزهر، ثم أصدر يوميَّة «المؤيد» ، سنة 1307 هـ، فكان لها شأن في سياسة مصر والشرق والإسلام، حتَّى عرَّفه بعض الكتَّاب بشيخ الصحافة الإسلامية في عصره، انظر «الأعلام» للزركلي (4/ 262).
(2)
علي بن حسن بن أحمد عَبْد الرازق (1888 - 1966 م): باحث من أعضاء مجمع اللغة العربية بمصر، تعلم بالأزهر، ثم بأكسفورد، سُحبت منه شهادة الأزهر بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم» ، وانصرف الى المحاماة، وانتخب عضوا في مجلس النواب، فمجلس الشيوخ، وعُين وزيرًا للأوقاف، انظر «الأعلام» (4/ 276).
(3)
نَقل د. عصام تليمة في برنامجٍ له أسماه «مفكرون من مصر» بثَّته قناة (فور شباب) سنة 2015 م، مُشافهةً عن الشَّيخ أحمد حسن مُسلَّم، رئيسِ لجنة الفتوى بالأزهر سنة 1992 م، أنَّ عليِّ عبد الرَّازق صرَّح له بأنَّه ليس هو من ألَّف الكتاب، بل أستاذه طه حسين!
(4)
كذا نقله عنه محمد الغزالي في كتابه «الحقُّ المرُّ» (ج 4/ص 20).