المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانيالاعتراض على الاحتجاج بالتلقي من جهة وجه الاستدلال والجواب عن ذلك - المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين - جـ ١

[محمد بن فريد زريوح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌خُطَّة البحث

- ‌نَفْحاتُ شُكرٍ

- ‌تمهيد

- ‌المَبحث الأوَّلمفهوم مُفرَدات العنوان المُحدِّدَة لنطاقاتِ البحث

- ‌المبحث الثَّانيإشكاليَّة الاستشكالِ المُعاصِر للأحاديثِ النَّبويَّة

- ‌المطلب الأوَّلمفهوم الاستشكال والاشتباه لمعاني النُّصوص الشَّرعيَّة

- ‌المطلب الثَّانيمكانةُ علمِ مُشكلِ النُّصوصِ في الشَّريعة

- ‌المطلب الثَّالثحالُ السَّلف مع مُشكلاتِ النُّصوص الشَّرعيَّة

- ‌المَطلب الرَّابعنِسبيَّة الاستشكالِ للنُّصوص الشَّرعيَّة

- ‌المطلب الخامسأسباب استشكالِ الأحاديثِ النَّبويَّة

- ‌المطلب السَّادسمنهج أهل السُّنة في التَّعاملِ مع الأحاديثِ المُشكِلَة

- ‌المطلب السَّابعالحكمة مِن وجودِ المُشكلِ في النُّصوصِ الشَّرعيةِ

- ‌المَبحث الثَّالثالأصلُ العقليُّ الجامع لمُخالفي أهلِ السُّنة في ردِّهم للدَّلائل النَّقليَّة

- ‌المطلب الأوَّلبدايات الزَّحف المُتمعقِل على ساحة المَعارف الشَّرعيَّة

- ‌المطلب الثَّانيإمامةُ المُعتزلةِ في تبنِّي النَّظرةِ التَّصادُميَّة بين نصوصِ الوحيِ والعقل

- ‌المطلب الثَّالثمَوقف المُعتزلة مِن الأحاديثِ النَّبويَّة بخاصَّةٍ

- ‌المطلب الرَّابعتأثير الفكرِ الاعتزاليِّ في الفِرق الكلاميَّة

- ‌المَطلب الخامسأثَر الفكرِ الاعتزاليِّ في المَدارسِ العَقلانيَّةِ المُعاصرةِ

- ‌المَطلب السَّادسالأصل العَقليُّ النَّاظِم لمُخالِفي أهلِ السُّنةِفي ردِّ الأحاديث النَّبويَّة

- ‌الباب الأول أشهرُ الفِرَق المُعاصِرة الطَّاعِنة في أحاديثِ «الصَّحيحين» ونقدُ أصولِها وأبرزِ كِتاباتِها في ذلك

- ‌الفصل الأولالشِّيعة الإماميَّة وموقفهم من «الصَّحيحين»

- ‌المَبحث الأوَّلالمَسار التَّاريخي لنقد الإماميَّة لمُدوَّنات الحديث عند أهل السُّنة

- ‌المَطلب الأوَّلمراحل الإماميَّة في ردِّها لصِحاح أهل السُّنة

- ‌المَطلب الثَّانيتباين أغراض الإماميَّة من دراسة «الصَّحيحين»

- ‌المَبحث الثَّانيمَوقف الإماميَّة مِن الشَّيخين

- ‌المَبحث الثَّالثرَميُ الشَّيْخَين بالنَّصبِ(1)، ونقض حُجَجِهم في ذلك

- ‌المبحث الرابعكشف دعاوي الإماميَّة في تُهمتهم للشَّيخين بالنَّصب

- ‌المَطلب الأوَّلمَوقِف الشَّيخينِ مِن أهلِ البيتِ وذكرِ مَناقِبهم

- ‌المَطلب الثَّانيدحض دعوى نبذ الشَّيخين لذكر فضائل الآلِ غمطًا لحقِّهم

- ‌المَطلب الثَّالثدفع دعوى الإماميَّةِ كتمَ البخاريّ لمناقب عليِّ عليه السلام بالاختصار

- ‌المَطلب الرَّابعدفع دعوى حذف البخاريِّ لمِا فيه مَثلبةٌ للفاروق رضي الله عنه بالاختصار

- ‌المَطلب الخامسدفع دعوى تحايُدِ البخاريِّ عن الرواية عن أهل البيت

- ‌المَطلب السَّادسدفعُ تُهمةِ النَّصبِ عن البخاريِّ لإخراجِه عن رُواةِ النَّواصِب

- ‌المَبحث الخامسأبرز نماذج إماميَّة مُعاصرة تصدَّت لنقدِ «الصَّحيحين»

- ‌المَطلب الأوَّلشيخ الشَّريعة الأصبهاني (ت 1339 هـ)وكتابه «القول الصُّراح في البخاريِّ وصَحيحه الجامع»

- ‌المَطلب الثَّانيمحمَّد جواد خليلوكتاباه «كشف المُتواري في صحيح البخاري»و «صحيح مسلم تحت المجهر»

- ‌المَطلب الثَّالثمحمَّد صادق النَّجميوكتابه «أضواء على الصَّحيحين»

- ‌الفصل الثانيالقرآنيُّون منكرو السُّنة وموقفهم من «الصَّحيحين»

- ‌المَبحث الأوَّلتاريخ إنكار السُّنة

- ‌المَبحث الثَّانيعَودُ مذهب إنكارِ السُّنة مِن الهند

- ‌المَبحث الثَّالثتجدُّد دعوى إنكارِ السُّنة في مصر

- ‌المَبحث الرَّابعالأصول الَّتي قام عليها مذهب إنكارِ السُّنة

- ‌المَبحث الخامسأبرز القرآنيين الَّذين توجَّهوا إلى «الصَّحيحين» بالنَّقد

- ‌المَطلب الأوَّلمحمود أبو ريَّة(1)وكتابه «أضواء على السُّنة المحمَّدية»

- ‌المَطلب الثَّانيأحمد صبحي منصور(1)وكتابه «القرآن وكفى مصدرًا للتَّشريع الإسلامي»

- ‌المَطلب الثالثصالح أبو بكر(1)، وكتابه: «الأضواء القرآنيَّة لاكتساح الأحاديث الإسرائيليَّة وتطهير البخاريِّ منها»

- ‌المَطلب الرَّابعنيازي عزُّ الدِّين(1)وكتابه «دين السُّلطان، البرهان»

- ‌المَطلب الخامسابن قرناس(1)وكتابه «الحديث والقرآن»

- ‌المَطلب السادسسامر إِسلامْبُولي(1)وكتابه «تحرير العقل من النَّقل:دراسة نقديَّة لمجموعة من أحاديث البخاريِّ ومسلم»

- ‌الفصل الثالثالتَّيار العَلمانيُّ ومَوقفه مِن «الصَّحيحين»

- ‌المَبحث الأوَّلتعريف العَلمانيَّة

- ‌المَبحث الثَّانينشأة العَلمانيَّة، ومُسوِّغات ظهورها عند الغَرب

- ‌المَبحث الثَّالثتَمَدُّد العَلمانيَّة إلى العالَم الإسلاميِّ وأسبابُه

- ‌المَبحث الرَّابعمُستوَيَات العَلمانيَّة

- ‌المَبحث الخامسالطَّريقة الإجماليَّة للعَلمانيِّة لنقضِ التُّراث الإسلاميِّ وغايتُها مِن ذلك

- ‌المَبحث السَّادسانصراف العَلمانيَّة إلى استهداف السُّنَن

- ‌المَبحث السَّابعمركزيَّة «التَّاريخيَّةِ» في مشروعِ العَلمانيِّين لإقصاءِ السُّنةِ النَّبويةِ

- ‌المَبحث الثَّامنموقف العَلمانيِّين العَرب مِن «الصَّحِيحين»وأثرُ ذلك على السَّاحة الفكريَّة

- ‌المَبحث التَّاسعسبب اختيارِ العَلمانيِّين لمُعاركةِ «الصَّحيحين» خاصَّة

- ‌المَبحث العاشرأبرزُ العَلمانيين الَّذين توَّجهوا إلى «الصَّحيحين» بالنَّقد

- ‌المَطلب الأوَّلمحمَّد شحرور(1)وكتابه «الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة»

- ‌المَطلب الثَّانيزكريَّا أوزونوكتابه «جناية البخاري: إنقاذ الدِّين من إمام المحدِّثين»

- ‌المطلب الثَّالثجمال البَنَّا (ت 1434 هـ)(1)وكتابه «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث الَّتي لا تلزم»

- ‌الفصل الرابعموقف الاتِّجاه العَقلانيِّ الإسلامي مِن «الصَّحيحين»

- ‌المَبحث الأوَّلبدء نشوء الاتِّجاه العقلانيِّ الإسلاميِّ المُعاصر

- ‌المَبحث الثَّانيأبرز شخصيَّات المدرسةِ العقليَّةِ الإسلاميَّةِ الحديثةِ

- ‌المَبحث الثَّالثتأثُّر المدرسة العَقلانيَّة الإصلاحيَّة بالفكرِ الاعتزاليِّفي نظرتها إلى النُّصوص

- ‌المَبحث الرَّابعمُدافعة أهلِ العلمِ والفكرِ لمَدِّ أفكارِ المدرسة العقلانيَّة المعاصرة

- ‌المَبحث الخامسمَوقف التَّيار العقلانيِّ الإسلاميِّ مِن «الصَّحيحين» عمومًا

- ‌المَبحث السَّادسأبرز رجالات التَّيار الإسلامي العقلانيِّ مِمَّن توجَّه إلى أحاديث «الصَّحيحين» بالنَّقد

- ‌المَطلب الأوَّلمحمَّد رشيد رضا (ت 1354 هـ)(1)، وموقفه مِن «الصَّحيحين»

- ‌المَطلب الثَّانيمحمَّد الغزالي (ت 1416 هـ)(1)وكتابه «السُّنة النَّبويَّة بين أهل الفقه وأهل الحديث»

- ‌المَطلب الثَّالثإسماعيل الكردي(1)وكتابه: «نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث»

- ‌المَطلب الرَّابعجواد عفانةوكتابه «صحيح البخاري، مخرَّج الأحاديث محقَّق المعاني»

- ‌الباب الثاني: المُسوِّغات العلمية المُتوَهَّمة عند المُعاصِرين للطَّعنِ في أحاديث الصَّحيحَيْن

- ‌الفصل الأوَّلدعوى الخَلل في تَصنيفِ «الصَّحيحين» والتَّشكيك في صحَّة تَناقُلِهما

- ‌المَبحث الأوَّلأصل شُبهة المُعترضين على جدوى تدوين السَّلف للسُّنة

- ‌المَبحث الثَّانيطريقة تصنيف «الجامع الصَّحيح» فرعٌ عن مقصدِ تأليفِه

- ‌المَبحث الثَّالثالباعث للبخاريِّ إلى تقطيعِ الأحاديث وتَكريرِها في «صحيحه»

- ‌المَبحث الرَّابعمُميِّزات «صحيح مسلم» وأثر منهج البخاريِّ عليه في التَّصنيف

- ‌المَبحث الخامسالتَّشكيك في نسبة «الجامع الصَّحيح» بصورته الحاليَّة إلى البخاري

- ‌المَطلب الأوَّلدعوى ترك البخاريِّ كتابَه مُسودَّة وتصرف غيره فيه

- ‌المَطلب الثَّانيدعوى أنَّ اختلاف رواياتِ «الصَّحيح» أمارة على وقوع العبثِ بأصله

- ‌المَطلب الثَّالثأوَّليَّة المستشرقين إلى مقالة الإقحام والتَّصرُّف في أصل البخاريِّ

- ‌المَطلب الرَّابعدعوى الانكارِ لما بأيدينا مِن نُسَخِ «الصَّحيح» إلى البخاريِّ

- ‌المبحث السَّادسدفع دعاوى التَّشكيك في نسبة «الجامع الصَّحيح» بصورته الحاليَّة إلى البخاري

- ‌المَطلب الأوَّلنقضُ شبهةِ عدمِ تَبْيِيض البخاريِّ لكتابه

- ‌المَطلب الثَّانيمَنشأ الاختلافاتِ في نُسَخ «الجامع الصَّحيح»

- ‌المطلب الثَّالثإضافاتُ الرُّواة إلى نُسَخِهم من «الصَّحيح»يُميِّزها العلماء بعلامات مُصطَلَحٍ عليها

- ‌المَطلب الرَّابعالجواب عن دعوى المُستشرق إقحام أثر عمرو بن ميمونفي «صحيح البخاريِّ» لنَكارة متنِه

- ‌المَطلب الخامسالجواب عن شُبهة التَّصرُّف في رواية ابن عمرو:«إنَّ آلَ أبي ( .. ) ليسوا لي بأولياء»

- ‌المَطلب السَّادسالجواب عن مُطالبة المُعترضِ بالنُّسخة الأصليَّة لـ «صحيح البخاريِّ» شرطًا لتصحيح نسبتهِ إلى مُصنِّفه

- ‌المَبحث السَّابعدعوى اختلالِ المتونِ في «صحيح البخاريِّ» لروايتِها بالمعنى وتَقطيعِها

- ‌المَطلب الأوَّلاحتجاج المُخالفين بتقطيعِ البخاريِّ للأحاديث وروايتها بالمعنى على انتفاء مصداقيَّة كتابِه وضعفِ أمانتِه

- ‌المَطلب الثَّانيدفع احتجاج المُخالفين بتقطيعِ البخاريِّ للأحاديث وروايتها بالمعنى على دعوى الخلل المُتوهَّم في كتابِه وضعفِ أمانة صاحبه

- ‌الفصل الثَّانيدعوى ظنيَّة آحاد «الصَّحيحين» مطلقًا

- ‌المَبحث الأوَّلمأزِق بعض المُتكلِّمين في تصنيف الآحاد من حيث مرتبةُ التَّصديق

- ‌المَبحث الثَّانيدفع دعوى ظنِّية الآحاد عن أحاديث «الصَّحيحين»

- ‌المَطلب الأوَّلالاختلاف في ما يفيدُه خبرُ الواحدِ على ثلاثةِ أطرافٍ والصَّواب في ذلك

- ‌المَطلب الثَّانياحتفاف القرائن المفيدة للعلم بجمهور أحاديث «الصَّحيحين»

- ‌المَطلب الثَّالثتَلقِّي الأُمَّة لأحاديث الصَّحيحين بالقَبول قرينةٌ تفيد العلم

- ‌المَبحث الثَّالثالاعتراضاتُ على تقريرِ ابنِ الصَّلاحمَفاد أحاديثِ «الصَّحيحين» للعلمِ

- ‌المَطلب الأوَّلالاعتراض على صحَّة التَّلقِّي مِن الأمَّةلأحاديث «الصَّحيحين» والجواب عنه

- ‌المطلب الثَّانيالاعتراضُ على الاحتجاجِ بالتَّلقِّي مِن جِهة وجهِ الاستدلال والجواب عن ذلك

- ‌الفصل الثَّالثدعوى إغفال البخاريِّ ومسلم لنقد المتون

- ‌المَبحث الأوَّلمقالات المُعاصرين في دعوى إغفال الشَّيخين لنقد المتون

- ‌المَبحث الثَّانيدعاوي تسبُّب منهج المُحدِّثين في تَسرُّب المُنكرات إلى كتب التُّراث قديمة

- ‌المَبحث الثَّالثأَثَر الأطروحاتِ الاستشراقيَّة في استخفاف المعاصرين بمنهج المُحدِّثين

- ‌المَبحث الرَّابعالمُراد بـ «نقد المتن» عند عامَّة المعاصرين النَّاقدين «للصَّحيحين»

- ‌المَبحث الخامسدَوْرُ بعض كبارِ كُتَّابِ العَربيَّةِفي تَفَشِّي تُهمة إغفال المحدِّثين لنقد المتون

- ‌المَبحث السَّادسمركزيَّة مقالات (رشيد رضا)في انتشارِ الشُبهة في الطَّبقات اللَّاحقة من المُثقَّفين

- ‌المَبحث السَّابعمحاولة استبدال المنهج النَّقدي للمُحدِّثين بمنهجِ النَّقد الداخليِّ الغربيِّ

- ‌المَبحث الثَّامنباعث انكبابِ المُستشرقينَ على قضيَّة نقد المتونِ

- ‌المَبحث التَّاسعخطأ تطبيق «النَّقدِ الدَّاخليِّ» لمنهج الغربيِّ على تاريخِ السُّنة

- ‌المَبحث العاشرتسرُّب النَّظرة الاستشراقيَّة إلى دراساتِ الإسلاميِّين لتُراثِ المُحدِّثين

- ‌المَبحث الحادي عشرلزوم النَّظر الإسناديِّ في عمليَّة النَّقدِ الحديثيِّ

- ‌المَطلب الأوَّلمنشأ فكرة الإسناد للأخبار الشَّرعيَّة

- ‌المَطلب الثَّانيمَدار النَّقدِ عند المُحدِّثين على المقارنةِ بين الأخبار

- ‌المَبحث الثَّاني عشرعدم قَبول المحدِّثين لأخبارِ الثِّقات بإطلاق

- ‌المَبحث الثَّالث عشرشرطُ سَلامةِ المتن مِن القَوادِح لتمامِ النَّقدِ الحديثيِّ

- ‌المَطلب الأوَّلطبيعة العلاقة بين الإسناد والمتنِ

- ‌المَطلب الثَّانيتعليلُ المحدِّثين للخَبرِ إذا عارَضه ما هو أقوى

- ‌المَطلب الثَّالثالاكتفاء بتعليل الإسنادِ عادة المُحدِّثين إذا استنكروا المتنَ

- ‌المَبحث الرَّابع عشرنماذج من نقدِ البخاريِّ ومسلم للمتون

- ‌المَطلب الأوَّلتعليلُ الشَّيخينِ لأحاديثَ رُوِيَت عن الصَّحابةبالنَّظر إلى مخالفة مُتونِها لما هو مَعروفٌ مِن رِواياتِهم

- ‌المَطلب الثَّانيتعليلُ الشَّيخين لأحاديث تناقض متونهاالمعروفَ مِن رَأيِ راوِيها ومَذْهَبِه

- ‌المَطلب الثَّالثإعلالُ الشَّيخين للحديثِ إذا خالفَ متنُهالصَّحيح المشهورَ مِن سُنَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المَطلب الرَّابعوقوع الاضطراب في إسنادِ حديث، مع ظهور نكارة في متنه سَبيلٌ عند البخاريِّ لردِّه، دون أن يتشاغلَ بترجيحِ إحدَى أوجُه الاضطراب

- ‌المَطلب الخامسإشارة البخاريِّ لنكارة المتنِ تعضيدًا لما أعلَّ به إسناده

- ‌المَطلب السَّادسترجيح الشَّيخين لإسناد على آخرَ أو لفظٍ في متنٍ على ما في متنٍ آخر، بالنَّظر إلى أقومِ المتون دلالةً

- ‌المَبحث الخامس عشرغمز البخاريِّ في فقهِه للمتون بدعوى اختلالِ ترجماته للأبواب ونكارةِ فتواه

- ‌المَطلب الأوَّلعبقريَّة البخاريِّ في صناعة «صحيحه»

- ‌المَطلب الثَّانيانغلاق فهم بعض المُعاصرين عن إدراك وجه المُناسبةبين تراجمِ البخاريِّ وأحاديثِها سبيل عندهم لتسفيهِه

- ‌المَطلب الثَّالثتهكُّم بعض المُناوئين للبخاريِّبفتوًى تَحُطُّ مِن فَهمِه لنصوصِ الشَّريعة، وبيان كذبها عنه

الفصل: ‌المطلب الثانيالاعتراض على الاحتجاج بالتلقي من جهة وجه الاستدلال والجواب عن ذلك

‌المطلب الثَّاني

الاعتراضُ على الاحتجاجِ بالتَّلقِّي مِن جِهة وجهِ الاستدلال والجواب عن ذلك

الفرع الأوَّل: الاعتراض بالمشاركة في الاستدلال بالتَّلقي.

والمَقصود بهذا النَّوع مِن الاعتراض: إتيانُ المُعترضِ بوجهٍ للاستدلالِ مِن دليل الإجماعِ، يُخالف ما ذَهَب إليه المُستدِلُّ به، وهو بهذا الاعتبار، إنَّما يكون بعد التَّسليمِ بسلامةِ التَّلقي أو الإجماعِ وحُجِّيَته

(1)

.

وهذا عين ما سَلَكه النَّوويُّ ومَن تبعه على ما قرَّره ابن الصَّلاح في حقِّ أحاديث «الصَّحيحين» مِن نتيجتِه الحُكميَّة، حيث رأوا أنَّ اتِّفاقَ العلماءِ إنَّما أوجبَ العَملَ بأحاديثهما، لا القطعَ بنسبتِها في نفسِ الأمر كما قولُ ابن الصَّلاح.

فدعوى النَّووي تتَلخَّص في أنَّ تصحيحَ المُحدِّثين للخبرِ المستجمعِ لشروطِ الصِّحة يَجري على حُكمِ الظَّاهرِ لا الباطنِ، وأنَّ غايةَ ما في الحكمِ الظَّاهرِ أن يُفيد الظَّن الرَّاجح، فلا وجهَ عندهم للقطعِ والحالةُ هذه.

ومَنشأ الغَلط في هذا الاعتراضِ كامنٌ في فهمِ ما يَقصده المُحدِّثون بتعبيرِهم: (إنَّ هذا الحديث تَلقَّته الأمَّة بالقَبول)، حيث ظنَّ النَّووي ومَن معه أنَّ

ص: 538

مُستنَد ابن الصَّلاح في جزمِه بالصحَّة هو النَّظر إلى مجرَّد اتِّفاقِ العلماء على العملِ بمتونِ تلك الأحاديثِ وتصحيحِهم لأسانيدِها؛ وهذا ما يُفسِّر لنا لِمَ شنَّع العزُّ بن عبد السَّلام (ت 660 هـ) على ابن الصَّلاح قولَه في إفادة أحاديث الصَّحيحين للعلم، وتشبيهه بقول بعضِ المعتزلة الَّذين يَرون أنَّ الأمَّة إذا عمِلت بحديثٍ، اقتضى ذلك القطعَ بصِحَّته

(1)

، قال:«وهو مَذهبٌ رَديءٌ»

(2)

!

فعلى أساس هذا التَّصوُّر بنى النَّوويُّ ردَّه على مذهبِ جمهور أهل الحديثِ، مُستشهدًا بموقف ابنِ برهانَ البغداديِّ (ت 518 هـ)

(3)

مِن أصلِ مَقولتِه

(4)

: أنَّ الصَّحيحَ ما ذهب إليه المُحقِّقون والأكثرون -على حَدِّ عِبارتِه- مِن انتفاءِ «الفرقِ بين البخاريِّ ومسلم وبين غيرهِما في ذلك، فإنَّ أخبارَ الآحاد الَّتي في غيرهما، يجبُ العمل بها إذا صَحَّت أسانيدها، ولا تُفيد إلَّا الظَّن، فكذا الصَّحيحان»

(5)

.

ومِن ثمَّ لم يكُن للكِتابين مَزيَّة عند النَّووي وابنِ برهان غير الجزم بالصِّحة الإسناديَّة واستوجابِ العمل، وبهذا افترقا عن باقي كُتبِ الحديثِ، أي «في كونِ ما فيهما صحيحًا لا يُحتاج إلى النَّظرِ فيه، بل يجب العملُ به مُطلقًا، وما كان في غيرهِم لا يُعمَل به، حتَّى يُنظر وتوجد فيه شروط الصَّحيح؛ ولا يَلزم مِن إجماع الأمَّة على العملِ بما فيهما، إجماعُهم على أنَّه مَقطوع بأنَّه كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم»

(6)

.

ومِمَّن سلك هذا المسلكَ أيضًا في الاعتراضِ على هذه الجِهة من الاستدلال: بعضُ المُتفقِّهة مِمَّن قَفَى قولًا غريبًا حمَّل فيه كلامَ ابنَ الصَّلاحِ ما

(1)

انظر «المعتمد» لأبي الحسين البصري المعتزلي (2/ 84).

(2)

«التقييد والإيضاح» للعراقي (ص/41).

(3)

أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح: فقيه بغدادي شافعيٌّ، غلب عليه علم الأصول، كان يضرب به المثل في حل الإشكال، من تصانيفه (البسيط) و (الوسيط) و (الوجيز) في الفقه، و (الوصول إلى الأصول)، انظر «أعلام النبلاء» (19/ 456).

(4)

«الوصول إلى الأصول» لابن برهان البغدادي (2/ 174).

(5)

«شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 20) بتصرف يسير.

(6)

«شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 20).

ص: 539

لا يحتملُ، حيث ادَّعَى أبو الفضل الأدفويُّ (ت 748 هـ)

(1)

في كتابه «الإمتاع بأحكامِ السَّماع» ، أنَّ ما احتجَّ به ابن الصَّلاح مِن تَلقِّي الأمَّةِ للصَّحيحين بالقَبول على القطعِ بما فيهما عند عدمِ المُعارض: أنَّ هذا لا يختصُّ بالصَّحيحين، فإنَّ الأمَّة تَلقَّت الكُتب الخمسةَ أو السِّتةَ أيضًا بالَقبول، وأنَّ جماعةً أطلقوا عليها اسمَ الصَّحيح أيضًا!

(2)

والجواب على هذا النَّوع من الاعتراض من عدَّة وجوه:

الوجه الأوَّل: إنَّ مجملَ ما ساقَه المُعترضون في الرَّد على أبي عمرو ابن الصَّلاح، راجعٌ إلى اعتقاد أنَّ الاتِّفاقِ على تلقِّي الأمَّة «الصَّحيحين» بالقَبول إنَّما هو اتِّفاق على العملِ بمتونِها فحسب، غير أنَّ النَّاظر في كلامِ مَن تَوَّلى حكايةَ هذا التَّلقي مِن الأئمَّة، يظهر له جليًّا تقصُّدهم لصحَّةَ النِّسبة وصِدقِها لا مُجرَّد العَمل.

شاهد ذلك: ما نقلَه ابن الصَّلاح عن أبي نصر السِّجزي (ت 444 هـ) وأبي المعالي الجُويني (ت 478 هـ) مِن حُكمِهما بعدمِ حنثِ مَن حَلف بأنَّ ما حَكَمَ الشَّيخان بصحَّتِه هو مِن قولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، فهذا لا شكَّ منهما مُتِّجهٌ إلى تصديق نسبةِ الأخبارِ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لا مجرَّد العمل.

ثمَّ الأصلُ في حكمِ المُحدِّثين على حديثٍ ما أن يتعلَّق بصدقِ النِّسبةِ إلى

(1)

جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي أبو الفضل: مؤرخ، له علم بالأدب والفقه والموسيقى، وُلد في أدفو بصعيد مصر، وتعلم بقوص والقاهرة، وتوفي بهذه بعد عودته من الحج، انظر «الأعلام» للزركلي (2/ 122).

(2)

كتابه هذا لم يزل مخطوطًا إلى ساعة كتابتي لهذه الأحرف، وقد نقل عنه هذا النَّص علي الميلاني في كتابه «نفحات الأزهار في خلاصة عقبات الأنوار» (ج 6/ 154).

وقد أشار إليه وإلى كلامِه هذا الزَّركشي في «النُّكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 278) دون أن يُسمِّيه، والعجيب أنْ احتَمَله الصَّنعاني في ردِّه على ابن الصلاح! كما في «ثمرات النَّظر» (ص/133).

ثم نمى إلى علمي انكباب عدة محققين على إخراج هذا الكتاب للأدفوي! ثلاثة منهم سيخرجونه في معارض هذه السنة 2020 م، من خلال دار اللباب بتركيا، ودار الرسالة بالقاهرة، ومركز الأطرش بتونس.

(3)

«أنواع علوم الحديث» (ص/26)، و «صيانة صحيح مسلم» لابن الصلاح (ص/86).

ص: 540

قائلها، وإلَّا فإنَّ علوم الحديثِ لم توضع إلَّا للفصلِ بين المَقبول والمَردودِ من الأخبارِ مِن جِهة التَّصديق أساسًا، فلا يُعدل عن هذا الأصل إلَاّ بدليل راجح.

وبهذا يتبيَّن أنَّ جوابَ النَّووي على ابن الصَّلاح بأنَّه «لا يلزم مِن إجماعِ الأمَّةِ على العملِ بما فيهما، إجماعُهم على أنَّه مَقطوعٌ بأنَّه كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

: خارجٌ عن محلِّ النِّزاع والبحث، إذْ لم يجرِ ذكرُ العملِ في كلامِ ابن الصَّلاح أصلًا؛ فضلًا عن أن يكون في كلامِه نفحةُ اعتزالٍ كما زَعَم العِزُّ بن عبد السَّلام

(2)

؛ ولكنْ اتِّفاقُ العلماء على صحَّةِ ما في «الصَّحيحين» هو ما أفادَ العلمَ بما فيهما، لا الاتِّفاقَ على العمل كما تصوَّرَ النَّووي.

ومِن ثمَّ جَرى تَعقبُّ ابن حَجرٍ عليه مِن جهة نفيِ هذا التَّصوُّر، وإثباتِ أنَّ المتمثِّل في اتِّفاقهم على الصِّحة هو الأجدر بالتَّصوُّر، إذ هو الأصل في كلامِهم كما قرَّرناه

(3)

، فكان أن دعا مَن يقول بغير هذا إلى الاعترافِ بوجودِ مَزيَّةٍ للاتِّفاق على ما صَحَّ سنَدُه زائدةٍ على مَزيَّة العملِ لِما تُلقِّي وهو ضعيف السَّنَد

(4)

(5)

.

قال: « .. أمَّا متى قلنا يوجب العمل فقط: لزمَ تساوي الضَّعيف والصَّحيح، فلا بدَّ للصَّحيح من مزيَّة»

(6)

.

(1)

«شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 20).

(2)

لأنَّه توهَّم أنَّ قولَ ابن الصَّلاح، يُشبه قولِ بعض المعتزلة الَّذين يَرون أنَّ الأمَّة إذا عمِلت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحَّته.

(3)

وقد نقلَ ما يؤيِّد هذا التَّقرير عن بعض علماءِ الأصولِ أنفسِهم، كالجُويني، وابن فورك، وعبد الوهَّاب المالكي، والبُلقيني، في آخرين من علماء المذاهب، انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 138).

(4)

باعتبار أنَّ الحديث الضعيف في سنَدِه، إذا تلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العمل بمدلولِه، لا القول بتصحيحه، على قول الحافظِ وغيره من بعض أهل العلم، أما على قول من يُرقِّيه بهذا القبول إلى درجة الصِّحة، فلا إشكال معه أصلًا فيما يريد ابن حجر الإلزام به، وانظر أقوال العلماء في مسألة تلقي الضعيف بالقبول في «أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء» لـ د. ماهر الفحل (ص/38).

(5)

«نزهة النظر» (ص/53).

(6)

«النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 372).

ودعوى النَّووي أنَّ الاتِّفاق محصورٌ على العمل بما فيهما قد تعقَّبه فيها العسقلانيُّ (1/ 371) بكونِهما قد حوَيا أحاديث تُرك العمل بما دلَّت عليه، لوجود معارضٍ من ناسخٍ أو مخصِّصٍ، إلَّا أنَّه لم يُصب في اعتراضِه هذا عليه، لأنَّ قول النَّووي:«أجمعت على العمل» إنَّما مراده: ممَّا تُعبِّدنا بالعمل به، فالمنسوخ والمخصَّص قد خرجا من ذلك كما أوضحه الصَّنعاني في «توضيح الأفكار» (1/ 118).

وقد غلِط حافظ ثناء الزَّاهدي حين تابعَ ابن حجرٍ في هذا، في بحثه «أحاديث الصَّحيحين بين الظن واليقين» من «مجلة البحوث الإسلامية» (18/ 316)، وفيه هذا مِن التَّعقُباتِ ما لا يلزم النَّووي.

ص: 541

والباعثُ للنَّووي إلى أن يَظُنَّ كونَ التَّلقِّي واقعًا على العملِ بمتونِهما دون صدق النِّسبة -في نظري- شُبهتان:

الشُّبهة الأولى: اعتقادُ أنَّ الآحادَ لا تُفيد إلَّا الظَّنَّ مطلقًا، سواء بقرينةٍ أو بدونها، وهذا مذهب جمهورِ المعتزلةِ والخوارج أيضًا

(1)

، وظَنَّ بعض الأصوليِّين -لنَقصِ استقراءٍ منهم- أنَّه قولُ الأكثرِ

(2)

!

يقول النَّووي في تقريرِه هذه الشُّبهة: «هذا الَّذي ذَكَره ابن الصَّلاح في هذه المَواضع، خلاف ما قاله المُحقِّقون والأكثرون، فإنَّهم قالوا أحاديثُ الصَّحيحين الَّتي ليست بمُتواترةٍ إنَّما تُفيد الظَّن، فإنهَّا آحاد، والآحاد إنَّما تفيد الظَّن على ما تقرَّر»

(3)

.

والشُّبهة الثَّانية: انفكاكُ الجِهة بين الحُكمِ الباطنِ والظَّاهر:

بمعنى أنَّ الحكم الظَّاهر على الإسناد لا يُعلَم به صدقُ الحديث في نفسِه، ولو باتِّفاقِ المُحدثِّين على صِحَّة إسناده، أو توافرَت قرائنُ تُقوِّيه، فلا أثرَ لهذا الاتِّفاقِ على الحكمِ الظَّاهري في إثباتِ العلم الباطنيِّ، ومُستند هذا كلامٌ للباقلَّاني (ت 403 هـ) تأتي مُناقشته إن شاء الله.

فأمَّا الشُّبهة الأولى: فعلمنا أنَّها مُستند النَّووي في إنكارِ إفادة ما في «الصَّحيحين» للعلمِ، وهو -كما قال ابن تيميَّة- «قد بَنى هذا على أصلِه الواهي، أنَّ العلمَ بمَخبرِ الأخبار لا يحصُل إلَّا مِن جِهةِ العدد، فلَزِمَه أنْ يقول: ما دون العددِ لا يُفيد أصلًا، وهذا غلطٌ خالفه فيه حُذَّاق أتباعِه»

(4)

.

(1)

انظر «الإحكام» لابن حزم (1/ 119).

(2)

انظر «الإحكام» للآمدي (2/ 32)، و «تشنيف المسامع» للزركشي (2/ 960).

(3)

«شرح النووي على صحيح مسلم» (1/ 20)، وانظر في «التقريب» له (1/ 141 - مع تدريب الراوي).

(4)

«جواب الاعتراضات المصرية» (ص/45).

ص: 542

والردَّ عليه فيها مِن وجوه:

الوجه الأوَّل: أنَّ الأصلَ عند المحدِّثين إذا حكموا على حديثٍ بالصِّحة، أنَّهم لا يُفرِقُّون في ذلك بين الإسنادِ والمتنِ، لأنَّ اقتصارَهم على الإعلانِ بصحَّةِ الإسنادِ، تعني عند السَّامعِ أنَّ كلَّ رَاوٍ أصابَ في نقلِ الخبرِ عمَّن فوقَه، مِن أوَّلِ السَّند إلى آخرِه

(1)

؛ اللَّهم إلَاّ إنْ وُجِد ما يُشعِر بتقصُّدِ الواحد منهم مجرَّدَ الحكمِ الوَصْفيَّ للسَّندِ، دون الحكمِ حقيقةً على نسبةِ الخبرِ إلى قائله

(2)

.

فلذلك عِيبَ على الدَّارس للحديثِ أن يُفرِّق بين الأسانيد والمتون في أحكام المُحدِّثين، وأصلُ هذه الشُّبهة تَولَّدَ عند المُعاصرين مِن مُغالطاتِ المُستشرقين في فهم مَناهج المحدِّثين، فارتكبوا نفس الحماقةَ الَّتي لا يَزال المُستشرقون وتلامذَتهم يرتكبونها كلَّما عَرضوا للحديثِ النَّبوي، إذْ يَفصِلون بين السَّندِ والمتنِ مثلما يُفصَل بين خَصمين لا يَلتقيان، أو ضُرَّتين لا تجتمعان!

فمَقاييس المُحدِّثين في السَّند لا تُفصَل عن مَقاييسهم في المتن، إلَّا على سبيل التَّوضيح والتَّبويب والتَّقسيم، وإلَّا فالغالبُ على السَّند الصَّحيح أن ينتهي بالمتن الصَّحيح

(3)

.

الوجه الثَّاني: أنَّ الحديثَ إذا تَلقَّته أئمَّة الحديثِ بالقَبولِ تصديقًا له وعملًا: كان قرينةً تُلحق الحديثَ بصدقِ النِّسبة، لِما قدَّمناه مِن عصمة الله لهذه الأمَّة أن تجتمع على الخطأ والكذب.

يقول ابن تيميَّة: «هذا هو الَّذي ذَكَره المُصنِّفون في أصولِ الفقه، مِن أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشَّافعي، وأحمد، إلَّا فرقةً قليلةً من المتأخِّرين

(1)

هذا بصرف النَّظر عن ضبط هذا الرَّاوي ووثاقته، ومن هنا تجدهم يصحِّحون حديث بعض الضُّعفاء، وينكرون في المقابل حديث بعض الثِّقات.

(2)

انظر في ذلك «النكت على مقدمة ابن الصلاح» لابن حجر (1/ 474).

(3)

انظر تقرير هذا المعنى في «علوم الحديث ومصطلحه» لصبحي الصالح (ص/283).

ص: 543

اتَّبعوا في ذلك طائفةً من أهل الكلام أنكروا ذلك؛ ولكنَّ كثيرًا مِن أهلِ الكلامِ أو أكثرهم يُوافقون الفقهاءَ وأهلَ الحديث والسَّلَف على ذلك.

وهو قول أكثرِ الأشعريَّة، كأبي إسحاق [الإسفراييني]، وابن فورك

(1)

.. وهو الَّذي ذكرَه الشَّيخ أبو حامد [الغزالي]، وأبو الطَّيب [الطَّبري]، وأبو إسحاق [الشِّيرازي]، وأمثاله مِن أئمَّة الشَّافعيَّة.

وهو الَّذي ذكَرَه القاضي عبد الوَّهاب [البغدادي]، وأمثاله مِن المالكيَّة.

وهو الَّذي ذَكَره أبو يعلى [ابن الفرَّاء]، وأبو الخطَّاب [الكلوذانيُّ]، وأبو الحسن ابن الزَّاغوني، وأمثالهم مِن الحنبليَّة.

وهو الَّذي ذكره شمس الدِّين السَّرخسي، وأمثالُه مِن الحنفيَّة»

(2)

.

فما نَعَت به النَّووي كلامَ ابن الصَّلاح بأنَّه «خلاف مذهبِ المحقِّقين والأكثرين» غيرُ مُتَّجِه

(3)

.

عَيبُ ابنِ الصَّلاح الوحيد حين صحَّح حكايته عن مرتبة أحاديث الصَّحيحين، أنَّه «لم يعرِف مذاهبَ النَّاسِ فيه ليَتقوَّى بها، وإنَّما قاله بمُوجِب الحُجَّة، وظَنَّ مَن اعترضَ عليه مِن المشايخ الَّذين فيهم علمٌ ودينٌ، وليس لهم بهذا الباب خِبرة تامَّة، لكنَّهم يرجعون إلى ما يجدونه في مختصرِ أبي عمرو ابن الحاجبِ، ونحوِه مِن مختصر أبي الحسن الآمدي والمُحصَّل، ونحوِه مِن كلام أبي عبد الله الرَّازي وأمثالِه: ظَنُّوا أنَّ الَّذي قاله الشَّيخ أبو عمرو في جمهورِ أحاديثِ الصَّحيحينِ قولٌ انفرَدَ به عن الجمهور؛ وليس كذلك! بل عامَّةُ أئمَّة الفقهاءِ، وكثيرٌ مِن المتكلَّمين أو أكثرُهم، وجميعُ علماءِ أهلِ الحديثِ على ما ذكره الشَّيخ أبو عمرو»

(4)

.

(1)

ويظهر أن ابن فورك (ت 406 هـ) هو أول من صرح بقرينة تلقي الأمة للحديث بالقبول والقولِ بالصِّحة في إفادة العلم، انظر «البرهان» للجويني (1/ 374).

(2)

«مجموع الفتاوى» (13/ 351 - 352)، وأقرَّه ابن حجر في «النُّكت» (1/ 139).

(3)

انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» لابن حجر (1/ 374).

(4)

«جواب الاعتراضات المصرية» (ص/44).

ص: 544

الوجه الثَّالث: أنَّا قدَّمنا آنفًا في الردِّ على الصَّنعانيِّ أنَّ ما يجبُ على الأمَّةِ قَبوله شرعًا لا يكون باطلًا في نفسِ الأمر، بل كلُّ دليلٍ يجب اتِّباعُه شرعًا، لا يكون إلَّا حقًّا، ويكون مَدلوله ثابتًا في نفسِ الأمر، فإنَّ الله تعالى لم يأمرنا باتِّباع ما ليس بحقٍّ

(1)

؛ هذا ابتداءً.

ثمَّ كيف لِمَن قال بمثل قولِ النَّووي أن يوجب على المُسلمِ اعتقادَ مضمونَ حديثٍ عَقديٍّ ما في «الصَّحيحين» ، ثمَّ يَأمُره في الوقتِ نفسِه بأن يعتقد احتمال غلطِ الرَّواية فيه؟! كيف يقبل مسلمٌ أن يُقال له: إنَّ الإيمانَ والعملَ بهذه الأحاديث الَّتي أخرجها الشَّيخان واجبٌ شرعًا للإجماعِ، ولكنَّ العلمَ بها ظنيٌّ محتمل للكذب لا تثبت به أصول العقائد؟!

أليسَ هذا عينُ التَّناقضِ الَّذي استهجنه أحمد بن حنبل؟!

(2)

بل استهجَنه (رشيد رِضا) نفسُه! وهو يقرِّر «أنَّ أكثرَ الأحاديث الآحاديَّة المتَّفَق على صِحَّتها لذاتِها -كأكثرِ الأحاديث المُسندةِ في صَحِيحي البخاريِّ ومسلم- جديرةٌ بأن يجُزَم بها جزمًا لا تَردُّد فيه ولا اضطراب، .. ولا شكَّ في أنَّ أهل العلمِ بهذا الشَّأن، قلَّما يَشكُّون في صحَّةِ حديثٍ منها، فكيف يُمكن لمسلمٍ يجزمُ بأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبرَ بكذا، ولا يؤمن بصدقِه فيه؟! أليسَ هذا من قبيل الجمع بين الكفر والإيمان؟!»

(3)

.

(1)

«المسودة في أصول الفقه» لآل تيمية (ص/245).

(2)

كما في «العدة في أصول الفقه» لأبي يعلى الفراء (3/ 899).

(3)

«مجلة المنار» (19/ 342).

مع التنبيه: بأنَّ رأي رشيد رضا قد اضطرب في تحديد معنى الظَّن الَّذي تفيده أخبار الآحاد الصَّحيحة، اضطرابًا يصل حدَّ التَّناقض أحيانًا، فبينا نجده يقرر أن الظَّن مرادف للعلمِ في معناه اللًّغوي، وأنَّه حجَّة في الإيمان الشَّرعي، بل يردُّ قول من خالف ذلك، نجده في مواطن أخرى يقرِّر أنَّها لا يُؤخذ بها في باب الاعتقاد، مستشهدًا بالآيات الواردة في ذمِّ الظنِّ، حتَّى تجد هذا الاختلاف في الموضع الواحد من مقالاتِه! وانظر «آراء رشيد رضا في قضايا السُّنة» لرمضاني (ص/166).

ص: 545

وأمَّا شُبهة انفكاكِ الجِهة بين الحُكم الباطن والظَّاهر:

فتمامُ الجواب عنها عند الكلام عن الجِهة الثَّانية من جِهات الاعتراض على إفادة التَّلقِّي للعِلم إن شاء الله تعالى.

وأمَّا الجواب الثَّاني على دعوى الأُدفويِّ ومَن تابعه أنَّ التَّلقي للصَّحيحين بالقَبول حاصلٌ لغيرهما من الكتبُ السُّنن .. إلخ:

فهذا صحيح لو كان حاصلًا لأصل «الصَّحيحين» على معنى العمل بما فيها وتداولهما روايةً وتدريسًا، وهو الحاصل لباقي الكتب السِّتة؛ لكن ما أراد العلماء هذا فقط! وإنَّما تلقِّي الأمَّة لأخبار الصَّحيحين تلقٍّ خاصٌّ، هو نتاج سبر ونقد واختبار لصحَّة انطباق شروط الشَّيخين في الصِّحة.

وما كان الأُدفويُّ مِن أحْلاسِ هذا الفنِّ حتَّى يُستشكَل بكلامه على تقريراتِ الأئمَّة! وما فُصِّل جوابُه على النَّووي في الوجهِ السَّابق كافٍ في إسقاطِ كلامِه من أساسِه.

نعم؛ قد ورد عن بعض العلماء وصفَهم لبعضِ كُتب الحديث غيرَ «الصَّحيحين» بأنَّها مُتلقَّاة بالقَبول، كقول الخطابيِّ عن «سُنن أبي داود»

(1)

، وقول ابن حجر عن «مسند أحمد»

(2)

؛ لكن كلام هؤلاء - كما أسلفنا شرحه - هو باعتبارِ تقديرِ الأمَّة لها وتكريمِها والعمل بما فيهما في الجُملة، وأنَّ تلك المُصنَّفات هي المُتلَقَّاة بالقَبول، لا أنَّ مادَّتها هي الصَّحيحة المُتلقَّاة بالقَبول، وإن شئتَ قُلتَ: أكثر ما فيها مَقبولٌ غير مَردود، وإلَّا فنفسُ مُصنِّفيها لم يزعموا لها الصِّحة ولا تقصَّدوها.

(1)

«معالم السُّنن» للخطابي (1/ 6).

(2)

«القول المسدد» لابن حجر (ص/3).

ص: 546

الفرع الثَّاني: الاعتراض مِن جهة القولِ بمُوجب الإجماع المستدلِّ به، بدعوى عقليَّة وأخرى نقليَّة.

حقيقة هذا الاعتراض على تلقِّي أحاديث «الصَّحيحين» بالقَبول، تكمنُ في أنَّ المُستدِلَّ بالإجماعِ على حكمٍ ما إذا ما وَضَّح ثبوتَ هذا الإجماعِ ووجهَ استدلالِه منه، فإنَّ المُخالِف يعترِضُ عليه بأنَّ دليلَ الإجماعِ لا يُفيد المُستَدَلَّ عليه، ويُبدي مُستَنَده في القولِ بالمُوجِب، مع بقاءِ الخِلافِ بينهما

(1)

.

وهذا «الاعتراضُ بالقولِ بالمُوجِب» ، يكون بحملِ الإجماعِ على غيرِ الموضعِ الَّذي حَمَله عليه المُستدِلُّ، بالاستنادِ على دليلٍ عقليٍّ أو نقليٍّ، وقد استُعمِل كِلا الدَّليلين في الرَّدِ على كلامِ ابن الصَّلاح، فنقول:

فأمَّا مستندهم العقليُّ في هذا الاعتراضِ:

فيتلَخَّص في نفيِ قطعيَّةِ مُستندِ الإجماعِ، وذلك بمنع تأثيرِ اتِّفاقِ الظُّنون في جعلِ المَظنونِ مِن المَنقولاتِ قطعيًّا، حيث يدَّعون أنَّ احتمالَ الخطأِ أو الكذبِ في الرِّوايةِ صِفةٌ مُلازمةٌ للمَنقولِ، يستحيل على النَّاظر رفعُها، كونَه أمرًا غيبيًّا لا يقدرون على الجزم به أصلًا، فكيف أن يُتصوَّر إجماعُهم عليه؟! إذْ لو وَجَب القطعُ بانتفائِه عندهم، لبَطُل كونُه ظنًّا، والفرضُ أنَّه ظَنٌّ

(2)

.

وبهذا أنكر الباقلَّانيُّ (ت 403 هـ) أن يكون للإجماعِ على تصحيحِ الخبرِ أثرٌ في إفادتِه للعلم، حيث قال:«فإنَّ الخبرَ الواحدَ إذا لم يُوجب العلمَ، فلا يُتصوَّر اتِّفاقُ الأمَّة على انقطاعِ الاحتمالِ، حيث لا يَنقطع، والإجماعُ إنَّما يُتصوَّر فيما يجوِّزه العقل، وهذا لا يُجوِّزه العقل»

(3)

.

(1)

القول بالمُوجب: أحد القوادح التي يذكرها كثير من الأصوليين عند تناولهم لموضوع الاعتراضات الواردة على الاستدلال بالقياس، حيث اعتبروا القول بالموجب أحد هذه الاعتراضات؛ انظر «البرهان» للجويني (2/ 973)، و «المحصول» للرازي (5/ 269).

(2)

انظر «كشف الأسرار» لعلاء الدين البخاري (3/ 263)،

(3)

«النكت على مقدمة ابن الصلاح» للزركشي (1/ 282).

ص: 547

فلمَّا قيل: «لو رَفَعوا هذا الظَّنَّ، وباحوا بالصَّدق، فماذا تقول؟

قال مُجيبًا: لا يُتَصوَّر هذا، فإنَّهم لا يَتَوصَّلون إلى العلمِ بصدقِه، ولو قطعوا لكانوا مُجازفين، وأهلُ الإجماع لا يَجتمعون على باطلٍ»

(1)

.

وأمَّا المستند النَّقلي للاعتراضِ على الاتِّفاق:

فمُنبنٍ على دعواهم أنَّ النُّصوص دلَّت على عدم عِصمةِ ظنِّ الأمَّةِ أن تتَّفق على خطأ، وذلك أنَّ الشَّرع إنَّما كَفل للأمَّة العِصمة في طلبِها للواجبِ عليها طلبُه، لا العصمةَ في إصابتِها ذاتَ المَطلوبِ! فلا يُوصَف حينئذٍ هذا الخطأ منها بقُبحٍ؛ قياسًا على خطأِ الأنبياءِ في بعضِ الأحوالِ مع اتِّصافهم بالعصمة أيضًا، وما دامَ أنَّ الكلَّ حُجَّة، فالحُكم واحدٌ فيما أُجمِع عليه وفيما صَدَرَ عن الرُّسُل.

ولقد أطالَ ابنُ الوَزير اليَماني (ت 840 هـ)

(2)

النَّفَسَ في تقريرِ مُخرجاتِ هذا القياس

(3)

، يريد به الرَّدَّ على القائلين بأنَّ ما أخرجه الشَّيخان مَقطوعٌ بصِحَّته؛ ذلك أنَّ ابن الصَّلاح لمَّا استدَلَّ بأنَّ ظنَّ مَن هو مَعصومٌ مِن الخطأ لا يُخطئ، والأمَّةَ في إجماعِها معصومةٌ مِن الخطأ؛ ردَّ عليه بتجويزِ خطأ المَعصومِ في ظنِّه! واستدَلَّ على ذلك بوقوعِه مِن الرُّسل عليهم السلام مع عصمتِهم، يعني أنَّ الخطأَ يجوز في الإجماع أيضًا إذ لا يُناف العِصمة

(4)

.

(1)

«البرهان في أصول الفقه» للجُويني (1/ 223).

(2)

محمد بن إبراهيم بن علي المعروف بابن الوزير اليماني: فقيه نظَّار زيدي، منافح عن السُّنة، من مؤلفاته «العواصم والقواصم» ، و «الروض الباسم» ، انظر «البدر الطالع» للشوكاني (2/ 81).

(3)

انظر «العواصم والقواصم» لابن الوزير اليماني (2/ 302).

(4)

أصل هذا التقرير قد سُبق فيه من أبي حامد الغزالي، وإن كان كلامه عن اتِّفاق العمل لا عن الاتِّفاق على صحَّة النَّقل، فقد قال في «المستصفى» (ص/113):«فإن قيل: لو قُدِّر الرَّاوي كاذبًا لكان عمل الأمَّة بالباطل، وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمَّة، قُلنا: الأمَّة ما تُعبِّدوا إلَّا بالعمل بخبر يغلب على الظَّن صدقهم فيه، وقد غلب على ظنِّهم، كالقاضي إذا قضى بشهادة عدلين، فلا يكون مخطئا، وإن كان الشاهد كاذبًا، بل يكون محقًّا، لأنَّه لم يؤمر إلَّا به» .

ص: 548

فيقول: «سرُّ المسألة: هل تجويز الخطأ في ظنِّ المعصوم يناقض العصمة؟

والحقُّ أنَّه لا يناقضها، حيث يكون خطأه فيما طلب لا فيما وجب، ولا يوصف خطأه حينئذٍ بقُبح، كتحرِّي القِبلة، ووقتِ الفِطر، والصَّلاةِ، وعدالة الشَّاهد .. وأحاديثِ سهوِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة .. »، فـ «العصمة إنَّما هي عن مُخالفةِ المَعصوم فيما أوجَبَه الله عليه، لا عن مخالفتِه ما طَلبه» ؛ ومثَّل لكلامِه بوجوبِ حكم الرُّسل بين الخصمين بالبيِّنة، فهذا قد عُصموا عن مخالفتِه، فلا يَحكمون إلَّا حُكمًا جامعًا لشرائطِ الصِّحة، وأمَّا المطلوب لهم وهو موافقة الحقِّ في نفس الأمر، فهذا لم يُعصموا عن مخالفتِه

(1)

.

فأمَّا الجواب عن المُستندِ العقليِّ لهذا الاعتراض، فمِن وجهين:

أمَّا الوجه الأوَّل: فمَنشأ الجزم بصدقِ الحديثِ بعد اتِّفاقِ المُحدِّثين على صِحَّته وتَلقِّي الأمَّة له بالقَبول، راجعٌ إلى اعتقادنا أنَّ الخبر لو كان في نفس الأمرِ كذبًا، لكانت الأمَّة قد اتَّفَقت على تصديقِ الكذبِ والعملِ به، وهذا ممَّا لا يجوز عليها، لسَبْقِ القضاءِ الكونيِّ بِحفظِ الله لهذه الأُمَّة مِن نُفوقِ الخطأِ عليها، ومُستندهم في هذا أصلِ «الحفظ الإلهي» لأدلَّةِ الوحيِ.

هذا الأصلُ مُستقرَأ من مجموعِ أدلَّةِ حفظِ الشَّريعةِ، نظيرُ جزم الفقهاءِ بصحَّة حكمٍ شَرعيٍّ قد أجمعوا عليه، بجامعِ أنَّ الفقهاء والمُحدِّثين إنَّما يَنسبون ما أجمعوا عليه إلى قولِ الشَّارع؛ فكما أنَّ إجماعهم هذا أفاد القطعَ بصحَّةِ هذا الحكمِ الفقهيِّ في باطن الأمر، مع أنَّ حكمَ أفرادِهم ظنِّيٌ في ذاتِه؛ فكذلك أجماعُ المحدِّثين على صِحَّة الخبر يُفيد القطع في باطن الأمر، وإن كان حكمُ أفرادِهم على الخبرِ ظنيًّا في ذاته.

وفي تقرير هذا الاستدلال يقول ابن تيميَّة: «لو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمَّة مصدِّقة له قابلةٌ له: لكانوا قد أجمعوا على تصديقِ ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطإ، وذلك ممتنع، وإن كُنَّا نحن بدونِ الإجماعِ

(1)

«العواصم والقواصم» (4/ 172).

ص: 549

نجوِّز الخطأَ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزِنا قبل أن نعلم الإجماعَ على العلم الَّذي ثَبت بظاهرٍ أو قياسٍ ظنِّيٍ أن يكون الحقُّ في الباطنِ بخلافِ ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكمِ جَزمنا بأنَّ الحكم ثابت باطنًا وظاهرًا»

(1)

.

فما حَكَمَ به النَّبي صلى الله عليه وسلم وقالَه في شَريعته قولًا وفعلًا وتقريرًا، هو مِن الذِّكرِ الَّذي تَكَفَّلَ الله تعالى بحفظِه، لأنَّه «مُتناول للسُّنةِ، إن لم يكُن بلفظِه فبمعناه؛ لأنَّ المقصودَ مِن حفظِ القرآن، إنَّما هو حفظ ما يُعلَم به أمرُ الله عز وجل ونهيُه، وهذا ثابتٌ للسُّنة»

(2)

؛ فلو جازَ على ذلك الغَلطُ أو السَّهوُ أو الكذِبُ مِن الرُّواة، ولم تقُم أمارةٌ على ذلك، ولا ظهرت علَّتُه لجميعِ أهل الحديث: لسَقَطَ حكمُ ضَمانِ الله عز وجل وحِفظِه لهذا الذِّكر، ولَكانَ أوجَبَ الله على النَّاسِ أن يقولوا في شريعته ما هو في نفسِ الأمرِ كذبًا!

وهذا مِن أعظمِ الباطل؛ بل المُحقِّقون يقولون: «متى كان المُحدِّث قد كذَب أو غلط، فلا بدَّ أن ينصِب الله حُجَّة يُبيِّن بها ذلك، كما قال بعضُ السَّلف: لو هَمَّ رجلٌ في السَّحَر أن يكذبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأصبحَ والنَّاس يقولون: هذا كذَّاب .. »

(3)

.

والتَّاريخُ خير شاهدٌ! فلقد عُرِف كذِبُ الكاذِبين في حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ووَضعُ الوَضَّاعين فيه، ودُوِّن ما صَحَّت نسبتُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُشِف حالُ ما لم تصحَّ نسبتُه إليه، كما دُوِّن مَن يروي عنه ممَّن لا يروي عنه، «حتَّى أصبحَ مِن المستحيل قَبول حديثٍ ليس معروفًا في دواوينِ السُّنة، ولم يبقَ مجالٌ لطعنٍ مَقبولٍ إلَّا بما هو مُدوَّن في كُتبِ علوم الحديثِ والرِّجال؛ اللَّهم إلَّا ما قد يفرِضُه العقل، والعقلُ قد يفرض المُحال!»

(4)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (13/ 351).

(2)

«الحاجة إلى معرفة علم الجرح والتعديل» للمعلمي (15/ 99 - آثار المعلمي).

(3)

«جواب الاعتراضات المصرية» (ص/48).

(4)

«خبر الواحد وحجِّيتُه» لأحمد عبد الوهَّاب الشَّنقيطي (ص/201).

ص: 550

ومِن هذا الُمحال: أن يُلصَق بالشَّريعةِ ما ليس منها على وجهٍ لا يُمكن لأهلِ العلمِ نفيُه عنها، ومِن تمامِ ذلك: أن يجعلَ الله عددًا مِن العلماءِ إن أخطأَ الواحدُ منهم في أمرِ حديثٍ، «كان الآخرُ قد أصابَ فيه، حتَّى لا يضيع الحقُّ»

(1)

؛ فمِن هنا قُلنا بلزومِ نقلِ الحقِّ الَّذي عند المُنكِر للحديثِ ضرورةً، كي تُقام به الحُجَّة، حتَّى لا يُتوَهَّم ما ليس بدليلٍ دليلًا.

ومن هنا أيضًا قلنا: أنَّ الإجماع على خبرٍ لو لم يكُن حكمُه مُطابقًا للحقِّ، لما مُكِّنِت الأُمَّة مِن الاتِّفاق عليه أصلًا، «لأنَّ عادةَ خبرِ الواحدِ الَّذي لم تقُم الحُجَّة به، ألَاّ تجتمع الأمَّة على قَبولِه»

(2)

.

فهذا الأصل من الحفظ الإلهيِّ هو الباعث لابن الصَّلاح على تركِ قولِه الأوَّل والَّذي عليه النَّووي، والإيمانِ بأنَّ اتِّفاقَ الأمَّة يفيد القطعَ ولو كان ظنيَّ المُستنَد في أصلِه، كما في قوله:« .. ولهذا كان الإجماع المنبني على الاجتهاد حُجَّة مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك»

(3)

.

وحاصل هذا الوجه من الجواب: أنَّ ما صَحَّ مِن الأخبارِ وتَلقَّته الأمَّة بالقَبول -كالحاصل لجمهور أحاديث الصَّحيحين- مقطوع بصحَّتِه، لا مِن جِهة كونِه خبرَ واحدٍ، فإنَّه مِن حيث هو كذلك مُحتَمل، لِما ذُكر مِن الكذِب والغلطِ على الرَّاوي.

وإنمَّا وَجَب أن يُقطَع بصحَّتِه لأمرٍ خارجٍ عن هذه الجِهة: وهو أنَّ الشَّريعةَ محفوظةٌ، والمَحفوظُ ما لا يَدخلُ فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه؛ فالعلمُ بصدقِ الخبر المُتلقَّى بالقبول هو مِن هذه الجِهة، فصارَ بهذا كالإجماع، والعِصمة المُحصَّلة مِن هذا الاتِّفاق أَقوى ممَّا يُظَنُّ أنَّه يقينٌ عقليٌّ.

(1)

«منهاج السنة» (3/ 408 - 409).

(2)

«العُدة» لأبي يعلى الفراء (3/ 900)

(3)

«مقدمة ابن الصلاح» (ص/28).

ص: 551

ثمَّ الوجه الثَّاني من الجواب:

أنَّ استدلال الباقلَّاني ومَن تبعه بأنَّ الخبرَ الواحدَ إذا لم يُوجب العلمَ في نفسِه، فلا يُتصوَّر اتِّفاقُ الأمَّة على انقطاعِ الاحتمالِ فيه؛ غلطٌ مَنشأه نظرُته الانفراديَّة إلى آحادِ الأدلَّة مُجرَّدةً عمَّا يحتفُّ بها مِن دلائل وقرائن، تفيد بمجموعِها غيرَ ما تفيده آحادُها؛ وهذا غلطٌ حاصلٌ في كتابات كثيرٍ مِن أربابِ العلومِ الكلاميَّة في المسائل الأصليَّة والفرعيَّة.

وقد نبَّه الشَّاطبي إلى خلل النَّظر إلى النُّصوص بهذه النَّظرة القاصرة فقال: « .. قد أدَّى عدمُ الالتفاتِ إلى هذا الأصل وما قبله، إلى أنْ ذهبَ بعضُ الأصوليِّين إلى أنَّ كونَ الإجماع حُجَّةً ظنيٌّ لا قطعيُّ، إذْ لم يَجد في آحادِ الأدلَّة بانفرادِها ما يفيده القطعَ، فأدَّاه ذلك إلى مُخالفةِ مَن قبله مِن الأمَّة ومَن بعده!»

(1)

؛ هذا من جِهة.

ومن جِهةٍ ثانيةً: فإنَّ استبعادَ الباقلَّاني تصوُّرَ الاتِّفاقِ على انقطاعِ الاحتمالِ في خبرِ الواحدِ إذا لم يوجب العلمَ مُتجِّهٌ لو أنَّ كلَّ فردٍ مِن أفراد المُجمِعين قَصَدوا رفعَ هذا الاحتمالِ ابتداءً! في حين أنَّ الاحتمال انقطعَ عن تلقِّي الأمَّة للحديث بالقَبول باعتبارِ الهيئة الاجتماعيَّة لا الهيئة الانفراديَّة!

تمامًا كالعادة المُطَّردة الَّتي أحالت تواطؤَ رواةِ التَّواترِ على الكذبِ، حتَّى أفادَ خبرُهم العلمَ الضَّروريَّ، مع أنَّ خبرَ الواحدِ منهم لا يَنفكُّ عنه احتمالُ الخطأ أو الكذب

(2)

؛ فكذا قول الأمَّة من حيث هو وحكمهم لا ينافي الخطأ، لكن لمَّا قام الدَّليل على عصمة هيئتهم الاجتماعيَّة وجب القول به من هذا الوجه.

ومن جِهةٍ ثالثة: أصلُ اعتراضِ الباقلَّاني مُتفرِّعٌ عن مسألةٍ أصوليَّةٍ مُتعلِّقة بمستندِ الإجماعِ الظنِّي، ذهبَت فيه طائفة من الأصوليِّين إلى أنَّ الدَّليلَ الظنِّي

(1)

«الموافقات» (1/ 35).

(2)

«الموافقات» (2/ 82).

ص: 552

لا يُوجب العلمَ القطعيَّ، فلا يجوز أن يَصدُر عنه الإجماع، لأنَّ الإجماعَ يُوجِب العلمَ القطعيَّ؛ إذ لو استنَدَ الإجماع لغيرِ القطعيِّ لكان الفرعُ أقوى مِن الأصل، وهذا عندهم غير مَعهود في الشَّرع.

والصَّواب في المسألةِ: ما ذهبَ إليه الجمهور مِن أنَّ الاتِّفاقَ إن وُجِد مِن علماء الفنِّ، فهو دليل وحُجَّةٌ يُفيد القطعَ، سواء أكان هذا الاتِّفاق عن دليلٍ قطعيٍّ أو ظنِّي، لأنَّ الحجَّة تنتقل مِن ذلك المستندِ إلى الإجماع ذاتِه

(1)

.

هذا؛ ولسنا نُسلِّم بصحَّة سؤالِ الباقلَّاني هذا مِن أساسه، حيث أحالَ انقلابَ الظَّني المُحتَملِ إلى قطعيٍّ، فضلًا عن أن يُعترَض بمثلِه على ما قرَّرهِ ابن الصَّلاح ودَلَّل به؛ وذلك: لأنَّ الظَّن والقطعَ ليسا صِفةً مُطَّردة للدَّليل في نفسِه، بل هما مِن عوارضِ اعتقادِ النَّاظر المُستدِلِّ بحسبِ ما يظهر له مِن الأدلَّة، أمَّا الخبرُ في نفسِه فلم يكتسب صفةً في ذاتِه، حتَّى يُستنكَر تحوُّله إلى صفةٍ أخرى

(2)

!

وعلى هذا: فإنَّ وصفَ الحديثِ بالقطعيَّة أو الظنيَّة وَصفٌ نِسبيٌّ ليس مُطَّردًا، يختلف باختلافِ مَداركِ المُستدلِّ في نظرِه إلى أحوالِ النَّاقلين، وأحوالِ طُرقِ المَنقولاتِ، وفي قوَّةِ الإدراكِ والاستقراءِ أو ضعفِه، وكثرةِ البحثِ وقِلَّتِه ونحو ذلك؛ فانصراف نظر الباقلَّاني عن هذا التَّقرير الدَّقيق هو ما أوجب له ذاك السُّؤال.

(1)

انظر «التقرير والتحبير» (3/ 110) لابن الموقت الحنفي، و «الإجماع في الشريعة الإسلامية» لـ د. رشدي عليان (ص/68).

(2)

«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (18/ 44).

ص: 553

وأمَّا الجوابُ عن مُستنَدِهم النَّقلي في نفي دلالة التَّلقي للحديث بالقبول على الجزم بصدقه، فمِن وجوه:

الوجه الأول:

اعتقادُ ابن الوزيرِ كفالةَ الشَّارع العِصمة فيما وَجبَ على المعصومِ فعله، لا فيما طَلب مِن الحقِّ

(1)

: غير صَحيح، فإنَّه يُنافي الحِكمة مِن بعثِ الرُّسُل عليهم السلام، مع إفضائه إلى تجويز اجتماعِ الأمَّة على خطأٍ، يقول فيه ابن تيميَّة:«يلزم منه أنْ لا يكون قولُ أهلِ الإجماع حُجَّة، بل هو كقولِ الواحدِ مِن المُجتهدين، وليس هذا مذهبَه، وإن لَزِم تناقضُه»

(2)

.

وما استدَّل به ابن الوزير مِن أمثلةِ ما جازَ أن يُخطئ فيه الأنبياء، ثمَّ قياسه على ذلك أن يُخطِئ الإجماعُ الحقَّ بجامعِ العِصمة فيهما: استدلالٌ منه خارج عن محلِّ النَّزاعِ، كونُ ما مثَّل به واقعًا في ما لم يكفل فيه الشَّارعُ عصمةً لنبيٍ أصلًا؛ بيان ذلك:

أنَّ عِصمة الرُّسل عليهم السلام إنَّما كُفلت فيما يخصُّ تحمُّلَهم للدِّين وتبليغه، فلا يجوز أن يستقرَّ في ذلك شيءٌ مِن الخطأ البتَّة

(3)

؛ وحيث احتجنا أن نقيسَ عِصمة الإجماعَ على عِصمة الأنبياء، فليكُن في هذا النِّطاقِ من التَّبليغِ والتَّشريع، فما حَكمَت به الأمَّة أنَّه مِن دِين الله تعالى، فهو حُجَّة قطعيَّة لا يجوز المُعارضة فيه، كما أنَّ النَّبي إذا حَكَم على قولٍ أنَّه مِن الله، كان حُجَّة قطعيَّة.

(1)

بمعنى أنَّه قد عُصم عمَّا وجب عليه أن يُخلَّ به، ولم يُعصم عن الإخلال بما يطلبُه ويريدُه من الإتيان بالواجب على الوجهِ المطابقِ لما في نفسِ الأمرِ، فإنَّه يُطلبُ الإتيانُ به عليه، لكنَّه لم يُعصم عن أن يخطئه.

(2)

«جواب الاعتراضات المصرية» (ص/45).

(3)

انظر «منهاج السنة» (1/ 471)، و «النبوات» لابن تيمية (2/ 874).

ويلتحق بهذا النوع من العصمة ما كان تابعًا لها: كالإفتاء، وما كان من لوازمها كحفظِ الله عز وجل لظواهرِ الأنبياء وبواطِنهم مِمَّا تستقبِحه الفِطر السَّليمة قبل النُّبوة، وحفظِهم من الكبائر وصغائر الخِسَّة بعدها، وغير ذلك مِمَّا يدلُّ على دناءة الهِمَّة، ويُنفِّر النَّاس عنهم وعن دعوتِهم، وتوفيقهم للتوبة من الصغائر وعدم إقرارهم عليها، انظر «عصمة الأنبياء بين المسلمين وأهل الكتاب» لأحمد آل عبد اللطيف (ص/24).

ص: 554

أمَّا في غير التَّبليغ الدِّينيِّ -كالأمورِ البشريَّة المَحضة، أو ما لا وحيَ فيه مِمَّا يَستوجبُ اجتهادًا مِن الأنبياءِ- فيجوز على الأنبياء في ذلك ما يجوزُ على غيرهِم مِن البَشر مِن الخطأِ والنِّسيان، وإن كانوا أكملَ النَّاس في الأمرين عقلًا وتدبيرًا، وهم لا يُقرُّون على خطأ في التَّشريع.

فكان منشأ الغلَط الَّذي وقع فيه ابن الوزير: أنَّه استشهد بأمثلة من تصرُّفات الأنبياء مُتعلِّقة بغير التَّبليغ والتَّشريع؛ كسهوِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة، إذ كان واقعًا منه مِن غير تقَصُّد، بل لمَّا استُفسِر عنه أزالَ احتمالَ التَّشريع مِن تصرُّفه، وبيَّن بقولِه أنَّ فِعلَه خطأٌ خارجٌ عن قصدِ التَّبليغ.

وكذا ما ذكره من مثال أقضيةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم المَبنيَّةِ على شهادة الخصومِ، فإنَّ الأمور القضائيَّة على الأعيانِ ليست مِن ذاتِ التَّشريعِ، فإنَّ الله تعالى لم يتَكفَّل بحفظِ الدِّماء أن تُهرق، ولا بصيانةِ الأموالِ أن تُؤخَذ، ولا بالفروج أن تُستباح بغير حقٍّ، في الخصوماتِ والأقضيةِ، لا في عهد النُّبوة ولا بعدها، وهذا من بصائر قوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّما أنا بَشر، وإنَّه يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضكم أنْ يكون أبلغ من بعضٍ، فأحسب أنَّه صَدَق، فأقضي له بذلك، فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم، فإنَّما هي قطعةٌ من النَّار، فليأخذها أو فليتركها»

(1)

.

أمَّا اتِّفاق العلماء على صحَّة حكم شرعيٍّ، فهو مِن لبِّ التَّشريع! وما يَترتَّب على احتمالِ الكذبِ أو الوَهم في الرِّوايةِ مِن المَحظورات، لا يَترتَّب على احتمالِ كذبِ الشَّاهدِ في قضاءٍ مِن الأقضية، فلا يصحُّ قياسه على تلك الأمثلة.

يقول المُعلِّمي: «إنْ استمرَّ الحالُ على إثباتِ حديثٍ ولم يَتبيَّن فيه خطأٌ، فقد يُقال إنَّه صارَ مَقطوعًا بصحَّته؛ وهذا بخلافِ الشَّهادة، فإنَّها قد تكون باطلةً في نفسِ الأمرِ، ولا يفضحها الله عز وجل، لأنَّها في واقعةٌ واحدةٌ، لا تقتضي الحكمةُ أن لا يقع الحُكم بها»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (ك: المظالم والغصب، باب: إثم من خاصم في الباطل وهو يعلمه، رقم: 2458)، ومسلم (ك: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، رقم: 1713).

(2)

«رسالة في الكلام على أحكام خبر الواحد وشرائطه» (19/ 154 - آثار المعلمي).

ص: 555

ومِن هنا يظهر خطأ آخر لابن الوزيرِ، حينَ أوجب استيفاء حكم الواحدِ مِن الرُّسلِ بين الخصمين للبيِّنات، وأنَّه «قد عُصم عن مُخالفتِه، فلا يَحكم إلَّا حُكمًا جامعًا لشرائطِ الصِّحة»

(1)

، دون لزومِ إصابة الحقِّ في نفس الأمر كما ادَّعاه.

ونحن نقول: أنَّ ذاتَ الآلياتِ القضائيَّة لا عصمةَ فيها أيضًا! وقِصَّة قضاءِ داود عليه السلام على مَن تسوَّروا المِحراب، وعِتابُ الله له عدمَ استيفاء السَّماع مِن الطَّرفين لأكبر شاهدٍ على ما نقول.

الوجه الثَّاني:

أنَّ ما طابقَ ما في نفسِ الأمر مِن أفعالِ الرُّسل وأقوالهم أكثرُ مِمَّا خالَف، فإنَّ المُخالفَ أندرُ شيءٍ بالنِّسبة إلى ما طابقَ، وما خالفَ منه جاءَ الوحيُ بتصويبِه، فلا يُقتدَى بما لم يُصادِف الحقَّ

(2)

؛ لكن لا سبيلَ لنا إلى العلمِ بأنَّ المَعصومَ قد أخطأَ في نفسِ الأمرِ إلَّا بوحيٍ، وابنُ الوزيرِ قد جَوَّز الخطأَ على المُجمِعين، فكذا لا سبيلَ لنا إلى معرفةِ خطأِ هذا الإجماع لمِا طُلِب إلَّا بدليل الوحي! والوحي قد انقطع؛ فيبقى الأصلُ في الإجماع مُطابقته للشَّرع.

الفرع الثَّالث: الاعتراضُ على دعوى الاتِّفاق بنفيِ تحقُّق لوازِمه.

مِن الأدلَّة الَّتي سَعى بها المُعارضون لنفيِ إفادة أحاديثِ «الصَّحيحين» للعلم، قولهم بانتفاءِ تحقُّقِ بعضِ لوازم هذا القولِ، وأنَّه لو كان صحيحًا، لوُجِدت معه تلك اللَّوازم.

هذه اللَّوازم ثلاثة:

اللَّازم الأوَّل: أنَّه لو حَصَل العلمُ بأخبارِ «الصَّحيحين» ، لمَا «وَقَع فيهما أحاديثُ مُتعارضةٌ لا يُمكن الجمعُ بينهما، والقَطعيُّ لا يَقع فيه التَّعارض»

(3)

.

(1)

«إسبال المطر» (ص/212).

(2)

انظر «الفصل في الملل» لابن حزم (4/ 2)، و «الكليات» لأبي البقاء الكفوي (ص/645).

(3)

«المقنع في علوم الحديث» لابن الملقن (1/ 77)، وانظر نفس هذا الاعتراض من ابن الوزير: في «إسبال المطر» للصنعاني (ص/211)، وكذا عند ابن عبد الشَّكور في «مسلم الثبوت» (2/ 123).

ص: 556

واللَّازم الثَّاني: أنَّه لو حصَل العلمُ بأخبارِهما، «لَحصل لكافَّةِ النَّاسِ كالمُتواتر»

(1)

.

واللَّازم الثَّالث: أنَّه لو حصَل العلم بأخبارهما، لأوجبنا عِصمةَ صاحِبَيهِما! و «البخاريُ ليس مَعصومًا، وأهلُ العلمِ غلَّطوهما في مَواضع»

(2)

؛ ومن هنا ادَّعى (صادق النَّجميُّ) على علماء السُّنةِ أنَّهم يقولون بعصمةِ «الصَّحيحين» ! وأنَّهما مُنَزَّهين «مِن أنْ تَنالهما الآراءُ والأفكارُ وإبداء الرَّأي فيهما، وأنَّ البحثَ والتَّحقيقَ فيهما، يكادُ يكون تَوهينًا لهما، وهذا بمثابةِ التَّوهين للقرآن، ولا توبةَ ولا غفرانَ لِمن يقومُ بذلك» !

(3)

.

فأمَّا الجواب عن اللَّازم الأوَّل:

قد سَبق ذكر احتِرازِ ابن حجَر باستثناء ما تَعارض مِن أحاديثِهما من غير مرجِّح أن يفيد العلم، فلا طائل من إعادة الكلام فيه.

وأمَّا الجواب عن اللَّازمِ الثَّاني، في دعوى أنَّ العلم بتلك الأحاديث لو حصل لكان لكافَّة النَّاس كالمتواتر:

فقد نبَّهنا قريبًا إلى كونِ الحديثِ ظنِّيًا أو قطعيًّا أمرٌ نسبيٌّ لا يعمُّ، إذ ليسَا صفةً مُلازمةً للدَّليل في نفسِه، بل يختلفُ الأمر بحسبِ ما وَصل إلى المُدرِكِ مِن الأدلَّة، وقدرتِه على الاستدلالِ بها؛ والنَّاس يختلفون في هذا وذاك، ومِن ثمَّ فلا يجوزُ نفيُ قطعيَّة الدَّليل عند زيدٍ، لمجرَّدِ أنَّ عمروًا رآه ظنيًّا، كما لا يجوز نفيُ القطعيَّة عن الخبرِ عند المُحدِّثين أهل الاختصاص، لمُجرَّد أنَّ العوامَّ يرونَه ظنِيًّا

(4)

.

(1)

«الوصول إلى علم الأصول» لابن برهان البغدادي (2/ 172).

(2)

«الوصول إلى علم الأصول» لابن برهان البغدادي (2/ 172).

(3)

«أضواء على الصحيحين» (ص/80).

(4)

انظر تقرير هذا المعنى في «مجموع الفتاوى» (4/ 371).

ص: 557

وأمَّا الجواب عن اللَاّزم الثَّالث في دعوى أنَّ الجزم بأخبار «الصَّحيحين» يقتضي عصمة صاحبيهما:

فإنَّ عدم عِصمة الشَّيخين تُنتج احتمال الخطأ، لا الجزم بالخطأ! وهذا الاحتمال ارتفع بتواتر أنظار النُّقاد على كتابيهما طيلة قرون؛ فما في «الصَّحيحين» لم يُفِدنا العلمَ بصحِّته لمجرَّد أنَّهما مِن تصنيفِ البخاريِّ ومسلمٍ؛ فما نبس بهذا أحدٌ من أهلِ الفهم، وما ينبغي للعاقل أن يقولَه، بل هذا الحكم نتاجُ تراكمِ مُعطياتٍ علميَّة أخرى أفادت أحاديث الكتابين ذلك، أي أنَّ مُتعلَّق العصمة هو نظر الأُمَّة إلى كِتابيهما، لا شَخصا البخاريِّ ومسلم! ونتيجةً لعدمِ إدراكِ هذا الفرق، دخل الالتباس على من يعترض بهذه الشُّبهة.

ثمَّ إنَّا قد قدَّمنا أنَّ أهلَ النَّقد قد خَطَّؤوا الشَّيخين في مَواضع من كِتابيهما، وكان الرَّاجح في مَواضع منها قول مَن خطَّأهما -وإن كان نادرًا-؛ ولذلك نقول على وجه الدِّقة:(جمهور) أحاديث الصَّحيحين تفيد العلم، أو: أحاديث الصَّحيحين مقطوع بصحَّتها (في الجملة) لا مطلقًا.

فها نحن ذا نُثبت أخطاء في الصَّحيحين! فأيُّ مَحلٍّ مِن الإعرابِ يبقى لذكرِ العِصمة هنا؟ وأيُّ حقِّ أريد به باطل أبين مِن هذه المُغالطة؟! فلَكَم ارتُكِبت في هذا الزَّمان مِن جرائم في حقِّ العلمِ وأهلِه بهذه الذَّريعة:

يُتطاوَل على جَنابِ الصَّحابة رضي الله عنهم، بحجَّةِ عدم عِصمتِهم!

ويُغمَط فقهُ الأئمَّة الأربعة، بحُجَّة عدم عِصمتِهم!

وتُنقَض أصول العلوم الإسلاميَّة، بحجَّة أنَّها نتاجُ بشريٌّ غير مَعصوم!

وهكذا يُطعَن في «الصَّحيحين» ، بحُجَّة أنَّ الشَّيخينِ غيرُ مَعصومين!

وكأنَّ نَفْيَ العِصمةِ عن هؤلاء الأكابرِ، يُبيح للأصاغرِ الكلامَ فيما ليس لهم به علمٌ، مع جرعةٍ زائدة مِن قلَّةِ الأدبِ!

ولسنا في المُقابل نمنعُ تخطئةَ العلماء ونقدَ نتاجِهم عمَّن كان مُؤهَّلًا بدعوى أنَّ لحوم العلماء مسمومة! كما لا نَدَّعي أنَّ الدَّعوةَ إلى تنقيةِ التُّراث الإسلاميِّ في

ص: 558

مُجملها دعاوى مَشبوهة ممنوعة بإطلاقٍ، بحُجَّة أنَّ مَن يُدندِن عليها هم مِن المُتلاعبِين بالدِّين!

فلسنا ننزع إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ فإنَّهما آفةُ العلم في زمانِنا، وكلُّ طائفةٍ منهما فتنةٌ لأختها، وضجيجُهما في العلمِ أكثرُ ما يَملأ السَّاحةَ العلميَّة والفكريَّة في زمانِنا للأسف؛ وإلى الله المُشتكى.

ص: 559