الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الخامس
الطَّريقة الإجماليَّة للعَلمانيِّة لنقضِ التُّراث الإسلاميِّ وغايتُها مِن ذلك
لقد علِم المُبشِّرون بالعَلمانيَّة في البلاد الإسلاميَّة، بأنَّ الحائل لهم دون تَبنِّي العامَّة لها، هو الإسلام نفسُه بنصوصِه وأصولِه، فلإن سَهُل على الغَربيِّين تجاوز دينِهم، وإحلالُ عقولِهم مكانَه، إذ كان في أصلِه خَواءً، هزيلَ المُقاومة؛ فإنَّ إخوانَهم مِن الشَّرقيِّين قد عانَوا مِن تجاوزِ الإسلامِ، وخارَت قُواهم دون تطوِيعِه.
وهم مع ذلك في محاولةٍ دائبةٍ لتحقيقِ هذا الأسلوبِ المُتجاوِزِ للتُّراثِ الشَّرعيِّ سيرًا في طُرقٍ مُلتويةٍ، بزعزعةِ ثِقةِ المُسلمين في قداسةِ نصوصِ الوَحيِ تارةً، ونفيِ نسبةِ بعضِها إلى قولِ الرَّسولِ تارةً.
فإن هم لم يُمكنهم ذلك كلَّه فَرَّغوا تلك النُّصوص مِن مُرَاداتِ الشَّارعِ، بفسحِ الفضاءِ واسِعًا لأيِّ قراءةٍ مُحدَثة، تُواكِب دَعواتِ العَوْلَمةِ، أو تَصطلِحُ مع النَّزَعاتِ المَاديَّةِ الشَّهوانيَّةِ.
هذا النَّقد العَلمانيُّ الفجُّ، لا بُدَّ أن يكون مُستجلِبًا لعَداوةِ جماهير الغَيورين على دينِهم، المُتشبِّثين بسُنَّة نبيِّهم، المُستقذرين لمثلِ هذه المواقفِ السَّلبيَّة مِن تراثِ علمائهم، لذا نرى كثيرًا مِن كُتَّابِهم مِمَّن أخذ على عاتِقه مُهمَّة تحريف فِطَرِ النَّاس، حريصًا على إخفاءِ مَرجِعيَّتِه في خطاباتِه لهم وكتاباتِه، غير مُستعجلٍ في
شحنِ العامَّةِ بقناعاتِه هو جملةً، ولكن يمشي في سبيل تحقيقِ غايتِه بسياسة التَّقطير! يُسرِّب أفكارَه قطرةً تلوَ القطرة على مَهل.
أمَّا مَن كان من هؤلاء حديدَ الأخلاقِ، ثوريَّ الطَّبع، فإنَّك تراه منتهجًا حربَ العصابات! يضربُ بشُبهةٍ هنا، ليختفيَ بعدها مُدَّة؛ ثمَّ يقذف بشُبهة هناك، ثمَّ يُظهِر لك بعدها وجه المُسالم ..
وهكذا القوم! ليسوا يُريدون إلَّا إنهاكَ أفكارِنا، لنستسلِم لهم بأخِرَةِ.
فاسمع لـ (حسن حنفيِّ)، كيف يبوح بهذا السِّرِ في مُحاربةِ تُراثِ المُسلمين، في مثل قوله:
«نصر أبو زيد بمثابة (اسْبينُوزا)! قال أشياء كُنت أتمنَّى أن أقولها، ولكن ربَّما استخدامي لآليات التَّخفِّي، حالَ بين فهم ما أردتُ أن أقول؛ نحن مجموعةٌ مِن الأفراد، لو اصطادونا، لتَمَّ تصفيَتُنا واحدً واحدًا.
ولذلك أرى أنَّ أفضلَ وسيلةٍ للمُواجهة، هي استخدامُ أسلوبِ حربِ العِصابات! اِضْرِبْ واجْرِ! اِزرعْ قنابلَ موقوتةً في أماكن مُتعدِّدة، تنفجرُ وقتما تنفجر، ليس المُهمُّ هو الوقت، المُهمُّ أن تُغيِّر الواقع والفكرَ»
(1)
.
وبهذا وضعوا خُطَّة التَّبشير بمَذهبِهم: أن يُشِغلوا النَّاس بأفكارِهم، ولا ينشغِلوا هم بأفكارِهم؛ فلَعمري لقد نهجوا هذا المسلك الخبيث باحترافيَّة!
فكان أَوْلى -في نظري- بالمُتشرِّعينَ بَدَل أنْ يَتَقمَّصوا وظيفةَ رجالِ الإطفاء كلَّ مرَّة، فيَقفزوا مِن حريقٍ فكريٍّ إلى آخر ليُخمِدوه، أن يهتمُّوا بإشغالِ النَّاس بأفكارِهم النَّيِرة بنورِ الوحيِ أوَّلًا، فيتوَّجهوا إلى التَّأسيسِ والبناءِ الفكريِّ لعمومِ النَّاس أوْلَوِيَّةً ضروريَّةً، بدلَ الانكباب على نقضِ صروح الآخرين والرَّد علي أفكارهم، مع التَّقصير في بناء صروحنا صروح الحقِّ!
(1)
جريدة «أخبار الأدب» المصرية، عدد 28/ 12/2003 م، وجريدة «المستقبل» اللبنانية، عدد 3/ 1/2004 م.
لقد كان هذا التَّيار في بدايات نشوءِه مُعلِنًا عن مفاصلتِه للشَّريعة الإسلاميَّة وما يَمُتُّ بها مِن تراثٍ يناقض روح العصر بزعمه؛ ثمَّ بعد تجارب له مَريرة، توصَّلَ بعض رُوَّادِه بأنَّ سلوك هذه المُحادَّاة المباشرة طريقة خاطئة أن تُطبَّق في بلاد المسلمين.
يشرح هذا التَّحول النَّقديَّ وأولويَّته (عابد الجابريُّ) في قوله: «إنَّ التَّجديدَ لا يُمكن أن يَتِمَّ إلَّا مِن داخلِ تُراثِنا، باستدعائِه واسترجاعِه استرجاعًا مُعاصرًا لنا؛ وفي الوقتِ ذاتِه، بالحفاظِ له على مُعاصَرتِه لنفسِه ولتارِيخيَّته، حتَّى نَتمَكَّن مِن تجاوزِه مع الاحتفاظِ به، وهذا هو التَّجاوز العلميُّ الجَدليُّ!»
(1)
.
وعلى هذا صار هذا الاتِّجاه السَّائد في الدِّراساتِ المُصادِمةِ للنَّصِ الشَّرعيِّ يعتمِدُ على ذات النَّصِ للتَّخلُّصِ مِنه، فإنَّ مذهب الرَّفضِ للنُّصوصِ الشَّرعيَّة جملةً وإعلان المُعاداة لأحكام ظواهرها قد ضَعُف حضورُه كثيرًا في الآونةِ الأخيرة، مراعاةً للرَّفضِ الشَّعبيِّ العامِّ لمثلِ هذه الطَّرائق؛ فلهذا ابتُلينا بكثير مِن المُنحرفِين والمُعادين للسُّنةِ يُقدِّم نفسَه على أنَّه مُجدِّدٌ للتُّراث! وقارئٌ للنَّصِ بما يُوافِق الواقع! مغربلٌ له على ضوءِ المناهج الجديدة، ليُقرِّر معنى فاسدًا يصبو إلى تقريرِه
(2)
.
ومن ثمَّ تَركَّزت حربهم على أصولِ الاستدلال؛ على مُنازعةِ السَّلَفِ الصَّالح في تديُّنهم، مُعارضين لأصلِ أن يكونَ فهمُ هؤلاء هو المِعيارَ الحاكِمَ في تفسيرِ القرآنِ وما اشتهوا قبوله من السُّنة؛ هذا ما يفني الحَداثيون المنتسبون للإسلام أعمارَهم لرفضِه، فإنَّهم في أنفسِهم أفهم مِن العلماء المتقدِّمين جميعًا بمُرادات القرآن، لمِا يرونه من معرفتهم بالمُستجدَّات المُعاصرة
(3)
! وغاية الحُمق والسَّفه أن
(1)
«مجلة المستقبل العربي» ، العدد 278، حاوره عبد الإله بلقزيز.
(2)
انظر «التَّسليم للنَّص الشَّرعي» لفهد العجلان (ص/12).
(3)
كما تراه عند محمد شحرور في كتابه «الكتاب والقرآن» (ص/566).
يأتي أحد إلى دينٍ كدين الإسلام عمادُه النَّقل، فيزعم أنَّه أعلمُ بأحكامه وشرائعه ومقاصده من النَّقَلَة أنفسِهم!
ثمَّ اشتدَّ عراك الحداثيِّين لعلماء الإسلام على أن يكون نصُّ القرآنِ مَفتوحًا لأكثرِ مِن قراءةٍ، بحسبِ فهمِ القارئِ ومُستَجَدَّاتِ حياتِه! يزعمون بهذا الانفتاح شموليَّةَ القرآن وعالَمِيَّته
(1)
؛ وإلى هذا غايةُ العَلمانيِّ في معركتِه الطَّويلةِ مع الأصوليِّين.
فلكَمْ تَباكوا على لفظِ «الحكمةِ» في آياتِ القرآن أنْ فسَّرها الشَّافعيِّ بـ «السُّنة» ، حتَّى اتَّهموه بالسَّعيِ إلى «تفقيرِ دَلالةِ الحِكمة، وإغلاقِ بابِ الاجتهادِ، إزاءَ نصٍّ كان في الأساسِ مُنفَتِحًا على مُختلفِ القراءاتِ»
(2)
؛ وأنْ ليس اعتبارُه للسُّنةِ مَصدرًا للتَّشريعِ، إلَّا إحدى «شَطَحاتِ الشَّافعيِّ ومُحدَثاتِه» !
(3)
(4)
وكلُّنا يعلَم أنَّ الشَّافعي لم يبتدع هذا الأصلَ مِن بناتِ أفكارِه، بل هو إجماع، جَرى عليه عملُ المُسلمين مِن عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى زَمنِه فما بعده؛ لم يَزِد هو على أن دَوَّنه وأصَلَّ له بأدلَّة الشَّرع والعقل، بطلب من عبد الرَّحمن بن مهدي (ت 198 هـ) -كما في مشهور قصَّة تأليف «الرِّسالة» -، وأقرَّه على ذلك علماء الأمَّة أجمعون، وأكبَروه فيه.
(1)
انظر مقولاتهم في «التَّيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم» لمُنى بهي الدين الشافعي (ص/97 - 111).
(2)
«السنة بين الأصول والتاريخ» لحمدي ذويب (ص/50).
(3)
خَصَّص (نصر أبو زيد) كتابًا كاملا لتثبيتِ هذه الفِرية، أسماه «الإمامَ الشَّافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطيَّة» (ص/33)، وانظر «الحديث النَّبوي» لمحمد حمزة (ص/6)، وهما في هذا تَبَع للمُستشرق اليهوديِّ «شاخت» في كتابه «أصول الشريعة المحمدية» ،
(4)
مقدِّمة «الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث» لمحمد حمزة (ص/6).