الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (22)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَمَكَثَ} بِضَمِّ الكافِ وفَتْحِها
(1)
]، مَكَث ومَكُث، والفاعل: الهدهدُ، ويَحتمِل أنْ يَكُونَ الفاعلُ سُلَيْمَان، يعني: بَقِي [{غَيْرَ بَعِيدٍ} يَسِيرًا مِنَ الزمانِ وحَضَرَ لسُلَيمان]، قوله:[وحضر لسُلَيمان] ما الدَّلِيل عليه؟
لِأنَّهُ قَالَ: إنَّهُ غائبٌ فِي الأوَّل: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} ، والغائبُ ما يخاطَب إِلَّا إذا حَضَرَ، ولكِنَّ قولَ المُفَسِّر رحمه الله:[مُتَوَاضِعًا برفعِ رأسِه وإرخاءِ ذَنَبِه وجَنَاحَيْهِ]، هَذَا من الأُمُور الَّتِي لا نَدري عنها، كَأنَّ المُفَسِّر كَانَ معه! ولا يمكن أن نَقُولَ هَذَا أبدًا، فلا يمكن أن نصفَ كيف جاء، إِنَّمَا يَكفينا أن نَقُولَ ما قَالَ الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، ونحن ذكرنا قاعدةً أنَّ كُلّ ما سبقَ فَإِنَّهُ لا طريقَ لنا بالعلمِ به إِلَّا مِن طريقِ الوحيِ، قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، فما لنا طريق إِلَّا الوحي؛ إمَّا فِي الْقُرْآن أو فِي السنَّة الصَّحيحةِ.
قوله: {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} : {أَحَطْتُ} يعني يَتكلَّم عن نفسِهِ
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 270).
{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يخاطب سُلَيْمَان، وَفِي الحقيقة أن هَذَا الهدهد قويّ، له ضُلُوع قويَّة جدًّا كما يَقُولُونَ، كيف يخاطب سُلَيْمَان وله هَذَا المُلْك العظيم ويقول:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وأيضًا ما قَالَ: بما لم تُحِيطوا به، ما جاء بصيغةِ التعظيمِ.
ونحن الْآنَ بَشَر ونخاطب بعض الأحيان المديرَ أو مَن فوقَه ونَقُول مثلًا: أنتم أو سيادتكم أو سعادتكم أو حضرتكم، ونضع مِيماً أكبر من اللازم، مَعَ أننا مِثْلُهم بَشَرٌ، وكلُّ هَذِهِ فِي الحقيقة من الأُمُور الشَّكْلِيَّة الَّتِي لا تُنْبِئ عن شيءٍ ولا تَنبغي أيضًا، والصحابةُ لا يُخاطِبون الرَّسُول عليه الصلاة والسلام بهَذَا الخطابِ، وَهُوَ أشرفُ عِندَهم من كُلّ بَشَرٍ، وكذلك الخلفاءُ الراشدونَ ما كانوا يُخَاطَبُون بمثلِ هَذَا.
ومن عجبٍ أن بعضَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخاطِبون بمثلِ هَذِهِ الألقابِ تجد قلوبهم تَغِلي عَلَى هَؤُلَاءِ المخاطَبينَ، فيَكُون هَذَا الخطابُ كأنه تهَكُّمٌ بهم، وكان الأَولى أنْ يَتَخَاطَبَ النَّاسُ فيما بينهم خطابًا عاديًّا، فهَذَا الهدهد ما مقامُه مَعَ سُلَيْمَان! جُنْدٌ من جُنْدِهِ الأضعفينَ، ومع ذلك يَقُول بهَذِهِ الصراحة:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وأيضًا هُوَ الَّذِي بدأَ بكلامِه، وبسرعةٍ، لكِن فِي الحقيقة أَنَّهُ فِيهِ نوعٌ من الأدبِ، ما قَالَ مثلًا: أنت جاهلٌ ولا تعرِف وأنا عرفتُ وبحثتُ ووجدتُ شيئًا لا تدري عنه، بل قَالَ:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ، يعني لأجلِ أن يعرفَ سُلَيْمَان قَدْرَه، وَأَنَّهُ لَيْسَ محيطًا بكلِّ شيءٍ، فهَذَا الهدهدُ صار أشدَّ إحاطةً منه، والْإِنْسَان البشر ضعيفٌ فِي كُلّ شيءٍ، حَتَّى ما علِمنا كيف نَقْبُرُ مَوْتَانا إِلَّا مِنَ الغُراب، وهَذَا ممَّا يَدُلّ عَلَى أننا لَسْنَا بشيءٍ فِي الواقعِ.
قوله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يُشْبِهُها قولُ إبراهيمَ لِأَبِيهِ: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43]، ما قَالَ: يا أبتِ إنك جاهلٌ، وهَذَا من اللَّطَافَة فِي الأسلوبِ.
قَالَ: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} والكلمة شديدةٌ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[أيِ اطَّلَعْتُ عَلَى ما لم تَطَّلِعْ عليه]، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 22 - 23]، إِلَى أن قَالَ:{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]، سُلَيْمَان قَبِلَ بعض الشَّيْء، والهدهد أَكَّدَ الخبرَ:{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ومعَ ذلك قَالَ: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} هَذِهِ أيضًا صَدْمَةٌ عَلَى الهدهدِ؛ لِأَنَّ الهدهدَ كَانَ مُتَتقِّنًا ومعَ ذلك قيلَ له: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
لماذا قَالَ سُلَيْمَان هَذَا مَعَ أَنَّهُ يقولُ له: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ؟
لأن حقيقة الأَمْر أن كلامَ الهدهدِ فِي مَقامِ الدفاعِ عن نفسِه؛ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ بالعذابِ الشَّديدِ أو بالذبحِ أو بخبر، أي: بسلطانٍ مبينٍ، فَهُوَ لمَّا كَانَ فِي مقامِ الدفاعِ احتاجَ أنْ يَتَثَّبت هَذَا بِبَيِّنَةٍ، وقد وقعَ مثلُ ذلك لعمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه، استأذنَ عليه أبو موسى ثلاثَ مرَّاتٍ ثُمَّ انصرفَ، فلما عاتَبَهُ فِي ذلك قَالَ:"هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
(1)
، قَالَ: لَتَأْتِيَنِّي بِبَيِّنَةٍ عَلَى ما تقولُ، مَعَ أنَّ أبا مُوسَى صَحَابِيٌّ ثِقَةٌ لا يمكن أن يَتَقَوَّلَ عَلَى الرَّسُول عليه الصلاة والسلام، لكِن المَقام يَقتضي زيادةَ التثَبُّتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان قد يَفْهَم منَ النصِّ ما لَيْسَ مرادًا، فلذلك طَلَبَ عمرُ من أبي موسى أنْ يأتيَ بشاهِدٍ.
هنا سُلَيْمَان عليه الصلاة والسلام مَعَ أن هَذَا الهدهدَ قد يَقَّنَ له الخبرَ يقولُ: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ثُمَّ أعطاهُ آيَةً وقَرينةً: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا
(1)
رواه البخاري، كتاب البيوع، باب الخروج في التجارة، حديث رقم (1956)؛ ومسلم، كتاب الآداب، باب الاستئذان، حديث رقم (2153).