الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (92)
.• * •.
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 92].
.• * •.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} عَلَيْكُم تلاوةَ الدَّعوى إِلَى الإِيمانِ {فَمَنِ اهْتَدَى} له {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}؛ أي: لِأَجْلِها؟ فإنَّ ثوابَ اهتدائه له {وَمَنْ ضَلّ} عنِ الإِيمانِ وأخطأَ طريقَ الهُدَى {فَقُلْ} له {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}].
قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} التلاوة تنقسمُ إِلَى قسمينِ: تلاوة لفظيَّة وتلاوة معنويَّة، فالتلاوةُ الأُولى: قراءة الْقُرْآن، والتلاوةُ الثَّانِيَةُ: العَمَلُ بما جاء به الْقُرْآن، مأخوذة مِن تَلَا الشَّيْءَ يَتلُوه إذا تَبِعَه وصار تِلْوًا له، فقول الرَّسُول:{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} يَشمل هَذَا وهَذَا، أنْ أَتْلُوَه قراءةً وأن أتلوَه اتباعًا، فَهُوَ مأمورٌ بذلك، يعني كأنه يَقُول: سأتلو الْقُرْآن عليكم تلاوةَ قراءةٍ، وأيضًا سأتلو الْقُرْآن تلاوةَ اتباعٍ، ولا أُبالي بمخالفتكم وإعراضكم، وهَذَا لَيْسَ للرَّسُول عليه الصلاة والسلام فحسْب، بل لكلِّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُول يَجِب عليه أن يتلوَ الْقُرْآنَ تلاوةً لفظيّةً.
وقد عُلِمَ أن قراءة الفاتحةِ رُكن من أركانِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ من أركانِ الإِسْلامِ.
ثانيًا: يَجِب عَلَى المسلمِ أن يتلوَ الْقُرْآن تلاوةً اتباعيةً ولا يبالي بمَن خالفه، ولو أننا راعينا شعورَ النَّاسِ ورَاعينا عصورَ النَّاسِ صارَ الدينُ لَيْسَ دِينًا، بل صار
الدين عادة، إن تَقَبَّله النَّاس حَسَب عاداتهم صار دينًا، وإن لم يَقبلوه لم يكن دِينًا.
والواجب أن يَكُونَ الدينُ بَعيدًا عن عاداتِ النَّاسِ، بمعنى أن يَكُون الحكَمُ هُوَ الْقُرْآن والسنّة، لا ما يعتاده النَّاس فيما يَفعلونه من عباداتٍ أو غيرها، خِلافًا لبعضِ النَّاسِ الْآنَ الَّذِينَ يريدونَ أن يُتابعوا النَّاس فيما هم عليه ولو كَانَ باطلًا، وهَذَا لَيْسَ بصحيحٍ؛ لأنَّنا لو مَشينا عَلَى هَذَا الأَمْرِ أو عَلَى هَذَا المنهاجِ ما بَقِيَت حياة للإسلام، ويموت منَ الإِسْلامِ جزءٌ فِي هَذَا العصرِ، ثُمَّ يأتي عصرٌ آخرُ فيموت منه جزء آخرُ، وهَكَذَا حَتَّى يَنقضيَ، ولَكِنَّنَا إذا كنا نعمل بالإِسْلام ونجدِّد حسَب ما يَقتضيه الكتاب والسنّة -لا حسَب آرائنا- صار ذلك هُوَ القيادةَ، وَأَمَّا أن نسكت وندُسّ رُؤوسنا فِي الترابِ ونَقُول: هَكَذَا النَّاس ولا يمكن أن نخالفهم، أو نَتَهَيَّب قول بعض النَّاس: طلعتم علينا بدينٍ جديدٍ، هَذَا الدين ما عرفناه من قبلُ، ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فإن هَذَا لا يَنبغي أن يمنعَ الْإِنْسَان عن قولِ الحقّ.
ولهذَا قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} تلاوة لفظ تقوم به الحجَّة عليكم، وتلاوة اتباع لا أُبالي بمعارضتكم ومخالفتكم، وهَذَا هُوَ الواجبُ عَلَى كُلّ مسلمٍ فِي كُلّ مكان.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً وَشُحًّا مُطَاعًا وإِعِجْاَبَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ"
(1)
هل ينافي الأَمْرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر؟
فالإجابة: قوله: "عَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ" لا ينافي الأَمْرَ بالمعروفِ والنهيَ عن
(1)
رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، حديث رقم (4341)؛ والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، حديث رقم (3058)؛ وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ، حديث رقم (4014)، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
المنكرِ لِأَنَّهُ مِن خاصَّتِك، لكِن المَعْنى دَعْهُمْ، أي لا تَهْتَمّ بهم بحيثُ يَشغلونك عما يجبُ؛ لِأَنَّ بعضَ النَّاس يهتم بهَذَا الأَمْر حَتَّى إنَّهُ ينشغل بالنَّاسِ عن نفسه، فتجده حالَ صلاتِه يشعرُ أَنَّهُ يأمرُ فلانًا ويتصوَّر أَنَّهُ واقفٌ عند دكّانٍ ويقول له: صَلِّ، فهَذَا الَّذِي يُنهى عنه.
وأيضا قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، بعض النَّاس يفهم من هَذِهِ الآية أن الْإِنْسَان إذا أصلحَ نفسه لَيْسَ عليه من إصلاحِ غيرِه، لكِن نَقُول: إن إصلاح غيرك لا يتمَ إِلَّا بإصلاحِ نفسِكَ، فأنت مأمورٌ بالأَمْرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، لكِن إذا ضلوا فإن ضلالهم لا يضرُّك بَعْد أن تقومَ بما يَجِب عليك من الدَّعْوَةِ والأَمْرِ.
لكِن يجوز مراعاة النَّاس بمعنى تدريجِ النَّاسِ حَتَّى يَسْلُكُوا الصراطَ الصَّحيحَ، فمراعاة الحال يعني بالتدريج لا بأس به، ولهَذَا الَّذِي نرى أن الدعاءَ إِلَى الله سبحانه وتعالى بالحِكْمَة يتناولُ هَذَا الأَمْرَ، وهو: نقل النَّاس إِلَى الإِسْلام مرحلةً مرحلةً، وإن كَانَ بعضُ النَّاس يَقُولُونَ: إنَّ هَذَا فِي أول الدَّعْوَة. صحيح أن الإِسْلامَ تطوّر؛ جاءت الصَّلَاة ثُمَّ الزكاة ثُمَّ الصِّيَام ثُمَّ الحج، وحُرِّمَ الخمرُ عَلَى عدَّة وجوهٍ، فالصِّيَام أوجب عَلَى عدّة وجوه، لكِن نَقُول: كما أن هَذَا فِي أوَّل الدَّعْوَة هُوَ أيضًا فِي آخرها، وبَعْثُ معاذٍ كان فِي سنةِ عشرٍ منَ الهجرةِ، ومع ذلك يقولُ:"ادْعُهُمْ أَوَّلًا إِلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِلَى الزَّكَاةِ"
(1)
، فالرَّسُول رتَّب هَذَا، ما قَالَ: ادْعُهُمْ إليها جميعًا.
(1)
انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع، حديث رقم (4090)؛ صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم (19)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فمثلًا لو رَأَيْنا إِنْسَانًا مُنهمِكًا بفعلِ معصيةٍ، وعرفنا أنّنا لو قُلْنَا له: أَقْلِعْ عنها نِهائيًّا، أَنَّهُ لا يتمكَّن، أو أن ينفِر؛ فلا بأس أن نَنْقُلَهُ عنها شيئًا فشيئًا بالتدريج؛ لِأَنَّ هَذَا كمعالجةِ المرضِ، فالمرض لا يُمْكِنُ أنْ تعالجَه مرَّةً واحدةً، فلَا بُدَّ من تَنَقُّل من شيءٍ إِلَي شيءٍ، حَتَّى يَتَمَّ استئصالُ هَذَا المرضِ.
فهَذهِ المسألةُ تعودُ إِلَى حالِ النَّاسِ، وَلَيْسَ معناهُ الاستسلام لحالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ معنى الاستسلامِ الَّذِي أنكرته قبلُ هُوَ أنْ الْإِنْسَان يَدَعُ النَّاسَ ولا يعارضهم بالحقِّ، أَمَّا هَذَا فلا يدعهم لَكِنَّهُ يُنَقِّلُهم من مرحلةٍ إِلَى مرحلةٍ حَتَّى يَسْتَقِيموا. فمثلًا عندما نريدُ أنْ نعملَ عَمَلًا فِي الصَّلَاة لَيْسَ من عادةِ النَّاسِ، فإنَّ مِنَ الحِكْمَةِ أن نُمَهِّدَ له بالقَوْلِ أوَّلًا، ثُمَّ إذا عَلم به النَّاسُ واستقرَّ فِي نُفُوسِهِم نَقَلْنَاهم بعدَ ذلكَ إِلَى الفِعْل، وهَكَذَا أيضًا غير هَذِهِ المسألةِ.
المهمّ أنّ تلاوةَ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ المُعْرِضِين ممَّا أُمِرَ به الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام وأُمِرَتْ به الأمَّة كلُّها أيضًا، وتكون التلاوةُ هنا لفظًا واتِّباعًا، ولكِن الشأن كله فِي أنْ لا نتخاذلَ أمامَ الأَمْرِ الواقعِ؛ بل يَجِب علينا أن نكونَ عَلَى وجهٍ أقوى وأشدَّ.
مسألة: ما القَوْل في نقلِ الْإِنْسَانِ من معصيةٍ إِلَى معصيةٍ أُخرى أخفَّ منها؟
الجواب: لا يجوزُ إذا كانتْ منَ الجنسِ، فلو فَرَضْنا أن إِنْسَانًا مُبْتَلى بالزِّنا -والعياذُ باللهِ- وقلنا له: يا أخي مالكَ حَقّ، هَذِهِ الشهوةُ الَّتِي عندك تَستطيع أنْ تُخَفِّفَها بالاستمناءِ مَثلًا، فهَذَا منَ الجنسِ، وَلَيْسَ فِيهِ بأسٌ، فالتي من الجنسِ معناها التخفيفُ؛ لأنك لو نَقَلْتَه إِلَى شيءٍ آخرَ فاتجاهُه الأوَّلُ لا يزولُ فِي الغالبِ، لكِن لو أنَّ واحدًا يَسْرِق ونَقُول: يا أخي اتركِ السَّرِقَة واشْرَبْ خمرًا أحسن لكَ، فهَذَا لا يُمْكِن.
فالتدرُّج طريقٌ، وَلَيْسَ معنى ذلك أنِّي إذا نَقَلْتُه من هَذَا إِلَى أخفَّ أنِّي أُبيح له الأخفَّ؛ لَكِنَّهُ تَدَرُّج، فالتدرُّج هنا لَيْسَ معناه ثُبُوت الحكم عَلَى الدرجةِ الَّتِي نزَّلناه إليها؛ ولكِن معناه أننا نَنْقُلَه من الدرجةِ العُظْمَى إِلَى الأخفِّ، ثُمَّ إِلَى تركها بالكُلِّيَّة، وَأَمَّا قوله تَعَالَى فِي الخمرِ:{فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، فنَقُول: طريق الاجتنابِ هَذَا الَّذِي نَقُول.
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} تلاوةً لفظيَّة تقوم بها الحُجَّة عليكم، وتلاوةً عَمَلِيَّة تَطْبِيقِيَّةً يَتَبَيَّن بها أنَّني لستُ بمُبَالٍ بمَن يُخالِفُني فِي هَذَا الأَمْرِ.
وقوله: {الْقُرْآنَ} هُوَ هذا الَّذِي نَزَلَ عليه صلى الله عليه وسلم.
وبعد تلاوةِ الْقُرْآنِ قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَمَنِ اهْتَدَى} له]، ولكِن عَلَى تفسيرِ المُفَسِّر يَكُونُ قوله:{اهْتَدَى} بمعنى انقادَ؛ لِأَنَّ {اهْتَدَى} لا يَتَعَدَّى باللامِ؛ بل يَتَعَدَّى بالباءِ: اهتدى به، لكِنَّه ضُمِّن معنى انقادَ، وتَضْمِينُه معنى الانقيادِ لِيَشْمَلَ هدايةَ العلمِ وهدايةَ التَّوفيقِ.
فالذي يَهتدي وينقاد له قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَمَنِ اهْتَدَى} له {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي لِأَجْلِها، فإنَّ ثوابَ اهتدائِهِ لَهُ]، صحيحٌ، فمَنِ اهتدى بهَذَا الْقُرْآنِ وانقادَ له فالمصلحةُ ليستْ للهِ عز وجل؛ لِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنه، وليستْ لفلانٍ ولا لفلانٍ؛ لِأَنَّ كُلّ نفسبى لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبتْ، إذن فَهِيَ لنفسِهِ. وإن كَانَ يَنتفِع الداعي بذلك أيضًا انتفاعَ الدالِّ، فـ "إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ"
(1)
، لكِن أصل الثوابِ للفاعلِ، فلا يُقَال مثلًا: إنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو للناسِ لِيَهْتَدُوا فيَكُون له أجرٌ،
(1)
أخرجه الترمذي: أبواب العلم، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله، رقم (2670).
بل قصده عليه الصلاة والسلام الأوَّل هُوَ نَفْعُ الخَلْقِ، ولهَذَا قَالَ:{فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} وإنْ كَانَ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام يَنْتَفِع باهتدائِهِ، فَهُوَ تَبَع.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَنْ ضَلَّ} عنِ الإِيمانِ وأخطأَ طريقَ الهُدَى {فَقُلْ} له: {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}]، المُفَسِّر قَدَّر [له]، فِي قولِهِ:{فَمَنِ اهْتَدَى} ، وقدَّر هنا كذلك:[{فَقُلْ} له]، والسَّبَب أَنَّهُ يُقَدِّر هنا لأجلِ أنْ يرتبطَ الجوابُ بالشرطِ؛ لِأَنَّ قوله:{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى} اهتدى لأيِّ شيءٍ؟ للقرآنِ الَّذِي أَتْلُوه أو بالْقُرْآن الَّذِي أتلوه، وَفِي قوله:{وَمَنْ ضَلَّ} (مَن) شرطية {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} لا يمكن أنْ يَكُونَ {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} جوابًا لِقَوْلِهِ: {وَمَنْ ضَلَّ} إِلَّا إذا كَانَ فِيهِ ضَميرٌ يعودُ عليه، ولهَذَا قدَّره بِقَوْلِهِ:{فَقُلْ} له: {إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .
فَإِذَا قَالَ قَائِل: ما هِيَ الحِكْمَةُ فِي حَذْفِه؟
قُلْنَا: الحِكْمَةُ فِي حذفِه العمومُ، يعني فقلْ له ولغيرهِ:{إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} ، يَعْنِي أنَّ هَذِهِ الجملةَ الَّتِي هِيَ وصفٌ ثابت للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ليستْ خاصَّةً بمَن يَضِلّ، بل مَن يَضِلّ ومَن لا يضلّ؛ يُقَال له: إن الرَّسُول عليه الصلاة والسلام مِنَ المنذِرِينَ، ومعنى المنذِر المُخَوِّف، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[المُخَوِّفِينَ، فليسَ عَلَيَّ إِلَّا التبليغُ].
وقوله: {إِنَّمَا أَنَا} : {إِنَّمَا} أداة حصر.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هَذَا يفيد اختصاصَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بالإنذارِ، مَعَ أن الله يقولُ:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119].
قُلْنَا: لكِن لكلِّ سِيَاق ما يُناسبه منَ اللَّفظ، فهنا المُخَاطَبُ قومٌ مُنْكِرُونَ، فَكَانَ ذِكْر جانب التخويفِ فِي حَقّهِم أَوْلَى مِنَ الجمعِ بينه وبين التبشيرِ.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [وهَذَا قبلَ الأَمْرِ بالقتالِ]، المُفَسِّر رحمه الله يَسْلُكُ هَذَا المَسْلَكَ كثيرًا فِي مثلِ هَذِهِ الآيةِ ويقول: إنَّهُ قبل الأَمْرِ بالقتالِ، وهَذَا يَتَضَمَّن أنْ تكونَ الآيَةُ منسوخةً لا يُعْمَل بها، ولكِن هَذَا قولٌ فِي غايةِ الضعفِ، والصَّواب أنَّ هَذَا يُقَال حَتَّى بعدَ الأَمْرِ بالقتالِ، فالنَّبِيّ عَيةَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عليه الإنذار والتبليغ وَلَيْسَ عليه الهدايةُ، والرَّسُول عليه الصلاة والسلام يقرأ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ غالبًا أو كثيرًا:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26]
(1)
، وكيف تكون مثل هَذِهِ الآيات الَّتِي تَتكَرَّر عَلَى المُسلِمينَ فِي جُمُعَاتهم منسوخة.
ثم إنَّ دَعْوَى النسخِ لَيْسَتْ بالأَمْرِ الهَيِّن؛ لِأَنَّ معناها إبطال دلالةِ الآيَةِ أو الحديثِ، وهَذَا يَتَضَمَّن الاعتداءَ عَلَى اللهِ سبحانه وتعالى وَعَلَى رَسُولِهِ، ولهَذَا يَجِب عَلَى الْإِنْسَان أنْ يَحْتَرِزَ غايةَ الاحترازِ منْ دعوى النسخِ، وإذا عَجَزَ عنِ الجمعِ فيقول:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، لكِن المُفَسِّر رحمه الله وغيره كثير منْ أهلِ العلمِ إذا عَجَزُوا عنِ الجمعِ قَالُوا: هَذَا منسوخٌ، وهَذَا مَسْلَكٌ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَلَيْسَ بِسَديدٍ، وَلَيْسَ بصوابٍ، بل هُوَ خطيرٌ.
وقد ذكرَ ابنُ القَيِّم رحمه الله أنَّ المنسوخَ فِي الشَّرِيعَةِ لا يَتَجَاوَزُ عَشَرَةَ أحكامٍ
(2)
، ولو سَلَكْنَا ما سَلَكَه المُفَسِّر لكانَ المنسوخُ عشراتِ الأحكامِ أو ربما يَبْلُغُ المِئَةَ، وَفي هَذَا خطأٌ عظيمٌ.
فالصَّوابُ أنَّ هَذَا القَوْل {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} يقال: حَتَّى الْآنَ وحتى
(1)
صحيح مسلم: كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، رقم (878).
(2)
انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 180).