الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (80)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].
* * *
قَالَ المُفَسِّر: [{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} الدِّين البيِّن، فالعاقبةُ لكَ بالنصرِ عَلَى الْكُفَّار، ثُمَّ ضَرَبَ أمثالًا لهم بالموتَى وبالصُّمِّ وبالعَمَى فقال:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} .
وهَذَا مَثَل كما قَالَ المُفَسِّر؛ لِأَنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ما خرجَ إِلَى المقابرِ يَدعو أهلَ القبورِ حَتَّى يُقَال له: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} وإنما دعا الأحياءَ.
وبالنِّسْبَةِ لدعاءِ الأحياءِ فإنَّ النَّاسَ انْقَسَمُوا فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى قِسمينِ: قِسمٌ قَبِلَها واطمأنَّ إليها فَهُوَ حيٌّ، ولهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} [يس: 70]، لِيَتَبَيَّنَ أن المُراد بالحياةِ هنا حياة القلبِ وحياة الإِيمان، لا الحياة الجسديَّة، لِأَنَّ مقابلة الشَّيْء بالشَّيْءِ تفيدُ، معناه {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} لَيْسَ حياةَ جسمٍ، لو كانت حياة جسمٍ لقال: ويحقّ القَوْل عَلَى الموتى، ولكِن قَالَ:{عَلَى الْكَافِرِينَ} وبهَذَا عرفنا أن كُلّ حياةٍ فِي مثل هَذَا السياق فالمُراد بها حياةُ القلب، لا حياة الجِسْم.
قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} : {الْمَوْتَى} جمع ميِّت، والمُراد به هنا ميِّت القلب، أو نَقُول: إن المُراد به ميِّت الجسدِ، ويَكُون هنا تشبيهًا؛ أي: أن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تدعوهم
ولم يؤمنوا كالموتى، لو أتيتَ إِلَى ميتٍ وقلت: يا فلان، اعبدِ الله وآمِن بالرَّسُول صلى الله عليه وسلم واتقِ الله، فإنه لا يَنتفِعُ، كالحجَر لا ينتفع، ولَا شَكَّ أنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام قرَّر الحَقِّ عَلَى الَّذِينَ أُلقوا في قَليب بدرٍ وقال لهم:"هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا"
(1)
، وقال:"لسْتُمْ بِأسْمَعَ لمِا أَقُولُ مِنْهُمْ"
(2)
لكِن هَذا عَلَى سبيلِ التوبيخِ، لا عَلَى سبيل الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مهما كَانَ لا يمكن أنْ يُجيبوا فِي هَذِهِ الحالِ إجابةَ دعوةٍ.
ولهَذَا فالكافرُ لا يَنتفع انتفاعَ ثوابٍ بما يسمع عند قبرِهِ من تلاوةٍ أو ذِكر، وبه نَعرِف بدعة هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابتدعوا القراءة عَلَى القبورِ، يَظُنُّون أن الميِّت يَنتفع، فنَقُول: لا يمكن أن ينتفعَ انتفاعَ الثوابِ، أَمَّا انتفاع تَخْفِيف عِقاب فهَذَا ربما يَنْفَع، لكِن لما لم يَرِدْ؛ فصار منَ البِدَع، وإلّا فهم يزعمون أن ذلك يخفِّف العذاب؛ لِأَنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الجريدتين:"لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَا لَمْ يَيْبَسَا"
(3)
، وقَالُوا: إن العِلَّة فِي ذلك أَنَّهَا قبل اليُبْسِ تُسَبِّح الله، فيُخَفَّف عنه لكونِهِ يُسَبَّحُ عندَ قَبْرِهِ، ولكِن هَذَا لَيْسَ بصحيح.
إِذَنْ: قوله: {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} يَحتمِل أن يُراد بالموتَى هنا مَوْتَى القلوب، وحينئذٍ فالآيَةُ لَيْسَ فيها تشبيهٌ، أو أَنَّهُم مَوتَى الأجسامِ، فيَكُون هَؤُلَاءِ مُشَبَّهِين بالموتَى.
(1)
رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النَّار عليه، حديث رقم (2874)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل، حديث رقم (3757)؛ ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النَّار عليه، حديث رقم (2874)، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب عذاب القبر من الغيبة والبول، حديث رقم (1312)؛ ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدَّلِيل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، حديث رقم (292)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} : {الصُّمَّ} مَفْعُول أوَّل، {الدُّعَاءَ} مَفْعُول ثانٍ، وفاعل {تُسْمِعُ} مُسْتَتِر وُجُوبًا، قال:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} يَعْنِي: لا تجعل الصُّمّ الَّذِينَ لا يَسمعون لا تَجْعَلهم يَسْمَعُون دعاءَكَ، والمُرادُ بالدعاءِ الطَّلَب، لَيْسَ دعاء الله، يعني لو دَعَوْتَ أصمّ وقلتَ: يا فلانُ يا فلانُ؛ فإنه لا يسمع.
وقوله: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} هل هُوَ دعاء الله تَعَالَى، يعني أنك إذا دعوتَهم لا يسمعون، أو الدعاء طَلَبهم؟
نَقُول: المُراد طلبهم، فالمُراد: لو دَعَوْتَهم ما سَمِعوك، قَالَ الله تَعَالَى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، يعني دعوتكم إيَّاه، ودعوته إيَّاكم، فيشمل الأَمْرينِ عَلَى القَوْلِ الصَّحيحِ.
أيضًا إذا كانوا صُمًّا ووَلَّوْا مُدْبِرِينَ يَكُون هَذَا أبلغَ؛ لِأَنَّ الأصمَّ إذا كَانَ مُقابلًا لكَ ربَّما يَفْهَمُ الخِطَابَ بحركاتِ الشفتينِ، لكِن إذا وَلَّى مُدْبِرًا لو تَرْمِي المدافِعَ خَلْفَه لا يَسْمَعُ، ولهَذَا قَالَ:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} ، وهَذَا غاية ما يَكُون مِن بُعْدِ السمع؛ والحقيقةُ أنَّ هَؤُلَاءِ حالهُم كحالِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ المُدْبِرِين؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُعْرِضون عنِ الْحَقَّ غير قابلينَ له، فلذلك صار هَذَا التشبيهُ بهم من أبلغِ ما يَكُونُ، فهُم صُمٌّ غيرُ سامعينَ، ومع ذلك غيرُ مُقْبِلِينَ؛ لِأَنَّ الأصمَّ إذا أقبلَ عليك كما قلتُ رُبَّما يَفْهَم منك بعضَ الشَّيْءِ، لكِن إذا كَانَ مُدْبِرًا فليسَ فِيهِ رجاءٌ ولا أَمَل، فقوله:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أقربُ ما يَكُونُ للتمثيلِ والتشبيهِ، يعني شَبَّهَهُم برجلٍ أصمَّ وَلَّى مُدْبِرًا، فكونها تَشبيهًا أقربُ، وإلَّا هنا يجوزُ أنْ نَقُولَ: إنَّهُم صُمٌّ وإنَّ السمعَ انتفَى عنهم لانتفاءِ فائدتِهِ، والشَّيْء قد يُنْفَى لانتفاءِ فائدتِهِ كما فِي قولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)} [الأنفال: 21].
قوله: {الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا} يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: فيها قراءتانِ [بتحقيقِ الهمزتينِ]، {الدُّعَاءَ إِذَا} ، [وتسهيل الثَّانِيَةِ بينها وبينَ الياءِ]، يعني تُسَهَّلُ الهمزةُ الثَّانِيَةُ حَتَّى تكون بينَ الهمزةِ والياءِ، فتَجْعَلها ليستْ ياءً خالصةً ولا همزةً خالصةً.
قوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} التَّوَلِّي هُوَ الإدبارُ، وَعَلَى هَذَا فتكونُ:{مُدْبِرِينَ} حالًا مُؤَكِّدَةً للعاملِ أو لصاحبِ الحال؟
نَقُول: للعاملِ؛ لِأَنَّ نفسَ التولِّي إدبارٌ، مَثَلُهَا قولُه تَعَالَى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183]، فـ (مُفْسِدِينَ) حالٌ منَ الواوِ، وهي مؤكِّدةٌ للعاملِ؛ لِأَنَّ العُثُوَّ هُوَ الفسادُ.
هنا {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} : {مُدْبِرِينَ} حالٌ من الفاعلِ، لكِن ليستْ مؤكِّدة للفاعلِ؛ لِأَنَّ الواو دالَّة عَلَى الجمعِ، فلو جاءتْ بلفظِ:(أجمعينَ) لكانتْ مؤكِّدة للفاعلِ، لكِن جاءتْ بلفظِ:{مُدْبِرِينَ} فهي مؤكِّدة للعاملِ {وَلَّوْا} . فيَكُون هَذَا فِيهِ تأكيدانِ: التولِّي والإدبار، مَعَ أنَّ التولِّيَ هُوَ الإدبارُ، لكِن قد يَكُونُ المتولِّي فِيهِ رجاءٌ وأملٌ، يَتَوَلَّى وَهُوَ يَلْتَفِت بقلبه إليك، لكِن إذا كَانَ مُدْبِرًا لا يلتفت؛ أي إدبار جَسَدِيّ وقلبيّ وَهُوَ أصمُّ، فيَكُون هنا فِيهِ ثلاثةُ موانعَ للقبولِ أو للسماعِ، وهي: الصَّمَم والتولِّي والإدبارُ.
* * *