الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (4)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} القَبِيحَةَ بتركيبِ الشَّهْوةِ حَتَّى رَأَوْها حَسَنَةً {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يَتَحَيَّرون فيها لِقُبْحِها عِنْدَنَا].
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أي: لا يُصدِّقون بها؛ لِأَنَّ مَن لم يُصَدِّقْ لا يُمْكِن أن يَقبَلَ أو يُذْعِنَ.
إِذَنْ: {لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} يشمل نفي التَّصْديقِ ونفيَ القبولِ ونفي الإذعانِ. والفَرْقُ بينَ القَبُول والإذعانِ مَعروفٌ، فمثلًا أَقْبَلُ أنَّ هَذَا الشَّيْءَ فُرِض، وأَعْتَقِدُه فرضًا، لكِنْ لا أَفْعَلُه، فالذي تَخَلَّف الإذعانُ.
وأمَّا عَدَمُ القَبولِ فهو أنْ يَرْفُضَ هَذَا ويقول: هَذَا لَيْسَ بِوَاجبٍ ولا نَعْتَرِف بأنه فَرْضٌ، وَأَمَّا التَّصْديقُ فَهُوَ الإنكارُ المطلَقُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: ما الفرق بين التَّصديقِ والقَبُولِ؟
نَقُول: التَّصْديق: أنَّهُ يُصَدِّق بأنَ هَذَا حقٌّ لَكِنَّهُ لا يَقبَلُه، يَقُول: نعمْ، هَذَا الرجلُ جاءَ بالحقِّ، لكِن أنا لا أقبله. والقَبول فِي الغالبِ يَكُون فِي المعتقَدات، والإذعان فِي الأَعْمالِ الظَّاهرةِ كأعمال الجوارِحِ.
وقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ} هذه الجملةُ {زَيَّنَّا} خبرُ إنَّ، وتفيد أن العِلَّة فِي التزيينِ عدم الإِيمانِ بالآخِرَةِ، وأن الله تَعَالَى لم يُزَيِّن لهم
(1)
هذه الأَعْمال إِلَّا بسبب عدمِ إيمانِهِم، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
ومن هنا نعرف أن الَّذِي يزيَّن له سُوءُ عَمَلِه يَكُون ذلك دليلًا عَلَى نقصِ إيمانِه بالآخِرة، إذ لو كمُل إيمانُه بالآخِرَةِ لكانَ يعرف الحسن من السَّيِّئ، فيفعل الحسن وَيتَجَنَّب السَّيِّئ، ولكِن لضعفِ إيمانِه بالآخرة يحصُل له هَذَا الفِعْل القبيح ويراه حسنًا. ولا حاجة إِلَى أن نُعَدِّد أنواعًا من ذلك؛ لِأَنَّ الأنواع ممَّن زُّينَ له سُوءُ عَمَلِه كثيرةٌ جدًّا، فبلَا شَكّ من العَمَل السيئ أنهُ إذا نزل فِي أرضٍ أخذَ أربعةَ أحجارٍ ووضعَ ثلاثةً للقِدْرِ وواحدًا يَعْبُده
(2)
.
ولَا شَكَّ أنَّ من العَمَلِ السيئ المُزيَّن أن الْإِنْسَان يَتَّخِذُ تمرًا عَلَى صورة صَنَمٍ فيَعْبُده، فإذا جاع أكلَه.
ولَا شَكَّ أنَّ من سُوء العَمَلِ المزيَّن أنَّ الْإِنْسَان يأتي بابنتِهِ -وهي ثَمَرَة فُؤَادهِ- ويَحفِر لها الحُفرة وَيغْمِسها وهي حيَّة. هَذَا لا يَكُون -والعياذُ بالله- ولا من السِّباع، ومعَ ذلك زُين لقومٍ من أهل الجاهليَّة هَذَا العَمَل؛ حَتَّى إنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّهُ يقف عَلَى الحفرة ليُلْقِيَها، وإذا همَّ أنْ يُلْقِيَها تَشَبَّثَتْ به وتقول: يا أبتِ يا أبتِ! فتستجير به وَهُوَ داؤها! نسألُ اللهَ العافيةَ.
وقوله رحمه الله: [{فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يَتَحَيَّرون فيها]، هَذَا -والعياذُ بالله- من عدمِ الإِيمانِ أنَّ الْإِنْسَان لا يوفَّق للهداية، تَجِدُه حائرًا؛ لِأَنَّهُ لم يؤمن.
(1)
نهاية الشريط الأول.
(2)
انظر كتاب الأصنام لأبي المنذر الكلبي (ص: 33)، وإغاثة اللهفان (2/ 220).
وأبرزُ مثالٍ لذلكَ: ما يَقَعُ من أهل الكَلامِ منَ الحَيرة؛ لِأَنَّهُم لم يؤمنوا بالله حقَّ الإِيمان به، أنكروا صفاتِه وأنكروا ما جاء به كتابه وسنَّة رسوله، فصاروا مُتَحَيِّرين، ولهذَا قَالَ بعض النَّاس: أكثرُ النَّاسِ شكًّا عندَ الموتِ أهلُ الكَلامِ
(1)
. والعياذُ باللهِ؛ لِأَنَّهُم -نسألُ اللهَ العافيةَ- ما آمنوا.
فكلُّ إِنْسَان يضعُف إيمانه فَإِنَّهُ يَتَرَتَّب عليه هَذَانِ الأَمْرانِ السيِّئانِ:
أولًا: تَزيينُ العَمَلِ السيِّئ فِي عينِه حَتَّى يمارسَه ولا يُنتزع منه.
والثاني: شَكُّه وحَيْرته وتردُّده.
بهَذَا نعرِف أنَّهُ كلَّما قَوِيَ الإِيمانُ بالآخِرَةِ عَرَفَ الْإِنْسَانُ القبيحَ ولم يَتَرَدَّدْ فيه؛ لِأَنَّ هذه نتيجة عملية حسابيَّة: إذا كَانَ هَذَا الوصف يقتضي هَذَا الوصف فعدمه يَقتضي عَدَمه، فهي مُعَادَلَة بَيِّنة جدًّا. فالَّذِينَ لا يؤمنون بالآخرة ابتُلوا بهذينِ الأَمْرينِ، والَّذِينَ يؤمنون بالآخِرَةِ يَنتفي عنهم هَذَان الأَمْرانِ، نسألُ الله أن يَجْعَلَنَا من المُؤْمِنيِنَ.
مسألة: ومن آمنَ بالآخِرَةِ من الصُّوفِيَّة؟
الصوفية لَيْسَ عندهم إيمانٌ حقيقةً، لو كَانَ عندهم إيمان حقيقةً ما زُّين لهم؛ لِأَنَّ هذه الآيَة مِقياس، فكُلّ إِنْسَان يُزيَّن له سوءُ عَمَله فاعلمْ أنَّهُ ناقصُ الإِيمانِ؛ لِأنَّهُ لو كَانَ عندهم إيمان حقيقيّ فما الَّذِي يُخرِجهم عن طريق الرَّسول صلى الله عليه وسلم؟ !
إِذَنْ: كلَّما ضَعُفَ الإِيمان بالآخرة ازداد تزيينُ القبيحِ فِي عينِ الْإِنْسَان، وكلما ازدادَ إيمانه بالآخِرَةِ كَرِهَ القبائحَ، وهَذَا أمر مُسَلَّم الآن.
(1)
القول منسوب لأبي حامد الغزالي، انظر مجموع الفتاوى (4/ 28).