الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (68)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)} [النمل: 68].
* * *
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى:
أنَّ مَن لا يريد الحَقّ فَإِنَّهُ لا يَتَبَيَّن له، فالْإِنْسَان الَّذِي لا يريد الْحَقَّ يُحْرَم منه فلا يَتَبَيَّن له، لِقَوْلِهِم:{إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النمل: 68]، فجَعَلُوا أبينَ الأُمُورِ وأصحَّ الأُمُورِ وأوكدَ الأُمُورِ جعلوه أساطيرَ، والأساطيرُ كما هُوَ معروفٌ هِيَ عبارةٌ عن كلامٍ لا أصلَ له غالِبُها أكاذيبُ، فهَذَا القَوْلُ تقدَّم لنا فِي التفسيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ عن عقيدةٍ فقد لُبِّسَ عليهم الحقُّ، وإن كَانَ عن إنكارٍ فقد جَمَعوا بين التكذيبِ بالحق وبين عيبِ الحقّ، يعني جمعوا بين أمرينِ: أَنَّهُم كذبوا وعابوه، وَأَمَّا إذا كَانَ هَذَا عن عقيدةٍ بمعنى أَنَّهُم لا يرون أن هَذَا حقيقة وَأَنَّهُ أساطير فيَكُون هنا قد لُبِّس عليهم الْحَقَّ بسبب أَنَّهُم لا يريدونه، ولَا شَكَّ أن من لا يريد الْحَقَّ فَإِنَّهُ لا يوفَّق له ولا يُيَسَّر له.
وبهَذَا نعرِف أَنَّهُ ينبغي لطالب العِلْم عندما يبحث عن مسألةٍ أَنْ يَبحثَ عنها؛ لأجلِ أن يصلَ إِلَى الْحَقَّ، لا لأجلِ أنْ ينصرَ قولَه - ونسألُ الله العافية - بمعنى: افرِضْ أنك اختلفتَ أنت وزميلُك فِي مسألةٍ، وأردتَ أن تحقِّق ما قلتَ، فأنت عندما تُراجِع وتبحث لا تجعل رائدك أن تنتصرَ لنفسِكَ، فإنك ربما تُحرَم الوصولَ إِلَى الحقِّ، لكِنِ
اجْعَلْ رائدك الوصول إِلَى الحقّ، عسى أن يَكُون معك فتَحْمَد الله تَعَالَى أن يَسَّرَ لك الوصول إليه، وأن جعل بَيَان الْحَقَّ عَلَى يَدِكَ، أو يَكُون مَعَ خَصْمِكَ فتَحْمَد الله تَعَالَى أنَّ الله تَعَالَى يسَّر لكَ الرجوعَ عن الباطلِ، وهيَّأ لك الوصولَ إِلَى الحقِّ، فأنت عَلَى كُلِّ تقديرٍ فِي نعمةٍ ولكِن لِيَكُنْ رائدك الحقِّ. وهَذِهِ مسألة صعبةٌ جِدًّا عَلَى النفوسِ؛ أن يُراجعَ الْإِنْسَان فِي مثلِ هَذِهِ الأُمُور لأجل الوصولِ إلى الحقّ، فإن كثيرًا من النَّاس يُراجِع لأجلِ أن ينصرَ قولَه.
افرِضْ أنك تعتقد أن قولك هُوَ الصَّوابُ مائةً فِي المِئَةِ وأنت تراجع لتنصرَ قولَك، فهل هَذَا ينافي النيَّة الصَّحيحة؟
نعم، نَقُولُ: إن كنت تريدُ أن تراجعَ لِتَنْصُرَ قولَكَ لِأَنَّهُ الْحَقَّ فهَذَا لا ينافيه، لأنك إِنَّمَا تقصِد تقويةَ الْحَقَّ وإلزام الخَصْم به، وإن كنت تُرَاجع بنيّة أن تنصرَ قولَكَ ولو كَانَ هُوَ الْحَقَّ فالنيَّة فيها مدخولة.
فالحاصل: أن هَذِهِ مسألةٌ ينبغي للإِنْسَانِ أن يلاحظها، وَهُوَ أن مَن لا يريد الْحَقَّ لا يوفَّق له، بل يَلْتَبِس عليه الأَمْرُ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَه فِي أبينِ الأُمُورِ وأحقِّها، يَقُولُونَ: إنَّهَا أساطير الأوَّلين. وانظر إِلَى بَيَان السَّبَب فِي قوله تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، يَعْنِي: كلَّا لَيْسَ الْقُرْآن أساطيرَ الأوَّلينَ، لكِن السَّبَب أَنَّهُم جعلوه أساطيرَ الأوَّلينَ أَنَّهُ {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فعَمُوا عنِ الْحَقَّ أو تعامَوْا عنه.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: إذا كَانَ قصدُه طلبَ الْحَقَّ وأحبَّ أن يَكُون هُوَ الْحَقَّ، هل فِي هَذَا شَيْء؟
فالجواب: لَيْسَ فِيهِ شَيْء؛ لِأَنَّ الَّذِي يُحِبّ أن يصيرَ قوله هُوَ الْحَقَّ يحبّ ذلك لأجلِ أن يَكُونَ إظهار الْحَقَّ عَلَى يدِه، وإن كَانَ قصدُه أن يَكُون قولُه هُوَ الْحَقَّ لأجلِ المغالبةِ فالمسألة فيها دَخَل، ولهَذَا مسائلُ النياتِ صَعْب جدًّا عَلَى الْإِنْسَان تَحقيقها، حَتَّى قَالَ بعض السلف: إني ما جاهدتُ نفسي عَلَى شيءٍ مجُاهدتها عَلَى الإخلاص، وهَذَا صحيحٌ.
فمِن أصعبِ الأُمُورِ الإخلاصُ للهِ عز وجل، ولهّذَا قَالَ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام لمَّا سأله أبو هريرة رضي الله عنه: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ قَالَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" لكِن شرط "خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ"
(1)
فهَذَا الشرطُ صعبٌ عَلَى كثيرٍ منَ النَّاسِ، وَلَيْسَ كُلّ مَن قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فقد سَعِدَ بشفاعةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، أو كَانَ أسعدَ النَّاس بها، بل لَا بُدَّ أن يَكُون خالصًا من قلبِه، وإذا كَانَ خالصًا فثِقْ أَنَّهُ سيَكُونُ مُطيعًا لله، ولهَذَا الَّذِينَ يجادلون أحيانًا يَقُولُونَ: كيف تكفِّرون من ترك الصَّلَاة وَهُوَ يَقُول. لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ويؤمن بالله؟ ! نَقُول: نعم، لو قالها حقًّا ما تركَ الصَّلَاة، ونَجْزِم جزمًا أَنَّهُ لو كَانَ يعتقد ذلك حقًّا لطلبَ هَذَا الإلهَ؛ لِأَنَّ معنى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أي: لا معبودَ بحقٍّ إِلَّا الله، فأين لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ من رجلٍ لا يعبدُ اللهَ بأعظم العباداتِ، ثُمَّ أيضًا لَيْسَ الإِيمان أنك تؤمنُ بأنَّ اللهَ موجودٌ، وأن هَذَا الكون مخلوقٌ، فهَذَا إيمان حَتَّى الْكُفَّار يؤمنون بهَذَا، فأيّ عاقل لو هُوَ أكفر النَّاس سيؤمن بأن الحوادثَ لَا بُدَّ لها من محدِثٍ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الإِيمانَ، فالإِيمان أن تؤمنَ باللهِ سبحانه وتعالى، بكلِّ ما تَضَمَّنَهُ معنى هَذِهِ الكلمةِ، وقد سبقَ لنا شرحُ الإِيمانِ أَنَّهُ يتضمَّن أربعة أمور.
الحاصل: أنَّ فِي هَذَا دليلًا عَلَى أنَّ الْإِنْسَان الَّذِي لا يريدُ الْحَقَّ لا يُوَفَّق له،
(1)
رواه البخاري، كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، حديث رقم (99).
وَأَنَّهُ يُلبّسُ عليه فيظنّ أن ما جاءت به الرُّسُل من الحقائقِ أساطيرُ.
لَوْ قَالَ قَائِل: الَّذِي يطلب الْحَقَّ هل يصل إليه؟
فالجواب: نعم، إذا سَلَكَ طُرُقَه.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذا وجدنا شخصًا ضالًّا هل نَجْزِم أَنَّهُ ما طلب الحق؟
فالجواب: لا، لَيْسَ عَلَى كُلّ حالٍ، قد يَكُون هناك أَشْيَاء مَنَعَتْ من هَذَا، عَلَى كُلّ حالٍ نحن نَقُول: إن هَذَا سببٌ، مَن عَمِل صالحًا دخل الجنَّة، وقد لا يَكُون له ذلك.
فالمهم: أن هَذِهِ الأَشْيَاء تُذكَر عَلَى أَنَّهَا أَسْبابٌ، والله يَقُول:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} [القمر: 17]، ويقول:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، ، لمّا كَذَّبُوا بالرَّسُول عليه الصلاة والسلام قَالَ الله:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [المؤمنون: 68، 69]، لكِن الْإِنْسَان قد يُحْرَم بأَسْبابٍ تكون خفيَّة عَلَى النَّاس، إِنَّمَا مَن طَلَبَ الحَقِّ بنيَّة وإخلاص فلا بدَّ أن يصل إليه، أَمَّا كون هَذَا الرجل ما وصل إِلَى الْحَقَّ ثُمَّ نَقُول: ما طلبه، فلا ندري.
فلَوْ قَالَ قَائِلٌ: ألا يُشْكِل عَلَى هَذَا قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطأَ فَلَهُ أَجْر وَاحِدٌ"
(1)
، فَهُوَ اجتهدَ وطلبَ الْحَقَّ ولم يَصِلْ إِلَى الحقِّ؟
فالجواب: أصل الاجتهادِ أنَّ المجتهِدَ لَا بُدَّ أنْ يَصِلَ إِلَى الحقِّ، ولا بد أن يَتبَيَّن
(1)
سبق تخريجه.
له الحقّ، إِلَّا أَنَّهُ قد يَكُون فِي هَذَا الاجتهادِ سببٌ منَ الأَسْبَابِ منعَ مِنَ الوصولِ إِلَى الحقِّ. وكلُّ مجتهدٍ معه آلةُ الاجتهادِ عَلَى ما يَنبغي.
ونعلم أن الْإِنْسَان المُجتهد إذا سلَك طُرُق الاجْتِهاد فلَا بُدَّ أن يصلَ، وإلا لبقيَ الْحَقَّ أعمى، لكِن هَذَا المجتهد إذا بذل جهدَه فإنه يصل، وجهده قد لا يَكُون هُوَ السَّبَب الوحيدَ الَّذِي يُوصِل إِلَى الحقّ، يَقُول: هَذَا جَهدي وهَذِهِ طاقتي، لكِن قد يَكُون عنده نقصٌ فِي العلمِ أو نقصٌ فِي الفهمِ، وَأَمَّا نقص السبل فقد يراجع المسألة فِي كتاب أو كتابينِ بينما أن هناك كتبًا أخرى تفيده أكثر مما راجع، فيَكُون هَذَا نقصًا فِيهِ، فحينئذٍ يخالفه الصَّوابُ من أجل ذلك، فليس معنى أَنَّهُ اجتهد أَنَّهُ أراد الْحَقَّ فقطْ، بل معناه أَنَّهُ بذلَ ما يستطيعُ مِن جهدٍ.
ولكِن هل بَذْلُ ما يستطيعه من جهدٍ هُوَ الطريقُ المؤدِّي إِلَى الحقِّ؟
الجواب: لا، ثُمَّ إنَّهُ إنْ طلبَ الْحَقَّ ومُنِعَ منه فَإِنَّهُ لا يعاقَب عليه، فالشَّيْء الَّذِي يغير اختياره لا يعاقب عليه، قَالَ تَعَالَى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
* * *