الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (87)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} القرن]، هَذِهِ معطوفةٌ عَلَى قولِهِ:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} [النمل: 83]، فيَكُون من جملةِ المأمورِ بذِكْرِه، يَعْنِي: واذْكُرْ يومَ يُنْفَخُ فِي الصُّور.
والصُّور يَقُول المُفَسِّر رحمه الله: [القَرْن] وَقِيلَ: إنَّهُ البُوقُ، ولا تنافيَ بينَ القَوْلينِ؛ لِأَنَّ القرنَ المُعْوَجّ يَكُون مثل البُوق، ولكِن هَذَا القَرْنُ يُوافِقُ القرنَ المعروف بالاسم دون الحقيقةِ، وقد وردَ فِي بعضِ الآثارِ أنَّ سَعَتَهُ كما بينَ السَّمَاء والْأَرْض
(1)
، وَهُوَ لَا بُدَّ أن يَكُونَ بهَذ السَّعة والعَظَمَة؛ لِأَنَّ النفخَ فِيهِ يَستلزِم الفَزَع والموتَ، ومثل هَذَا لو كَانَ صَغيرًا لا يُفْزع النَّاس ولا يموتون منه كلهم. وأيضًا يُنْفَخ فِيهِ فتَخْرُج منه الأرواحُ كلُّها وتعود إِلَى أَجْسَامها.
إِذَنْ: فَهُوَ قَرْنٌ عَظيمٌ ما يَعْلَم قَدْرَه إِلَّا اللهُ سبحانه وتعالى.
وقوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} قَالَ المُفَسِّر: [النَّفْخَة الأُولَى من إسرافيلَ]، وتوجد نفخةٌ ثانيةٌ، قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68].
(1)
مسند إسحاق بن راهويه (1/ 84)(10).
وقوله رحمه الله: [من إسرافيلَ] بَيَان للنافِخِ، يعني الَّذِي يَنْفُخ هُوَ إسرافيل، ولكِنَّه لا يَنْفُخ بإرادتِهِ هُوَ، بل بإرادةِ اللهِ، وإسرافيلُ هُوَ أحَدُ حَمَلَة العَرْش، وَهُوَ أحدُ الملائكةِ الثلاثة الَّذِينَ يَسْتَفْتِح بهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الليلِ، والثاني جَبرائيلُ، والثَّالث مِيكَائيل
(1)
، والحِكْمَةُ من ذلكَ أن هَؤُلَاءِ الثلاثة كُلّ مِنهم مُوكَّل بحياةٍ، فجبرائيل موكَّل بالوحيِ الَّذِي به حياةُ القلوبِ، وميكائيلُ بالقَطْر والنباتِ الَّذِي به حَياة الْأَرْض، وإسرافيلُ بالصُّور الَّذِي به حياةُ الأجسادِ، ومناسبةُ الافتتاحِ فِي صلاةِ الليلِ ظاهرةٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ قد بُعِثَ الْإِنْسَانُ بعدَ مَوته أو بعدَ وَفاتِه بالنومِ، فهَذ حياةٌ تُناسِب أنْ يَبْتَدِئَ هَذِهِ الصَّلَاة الَّتِي هِيَ بعدَ الحياةِ بِمَن وُكِّلوا بالحياةِ، وطبعًا هَذَا من بابِ التوسُّل، لأنك تقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ
…
إلخ".
قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مَن فِي السَّماوَات ومَن فِي الْأَرْض مِن عُقَلاء وغَيْرِهم، وجاءت (مَن) تَغليبًا؛ لأنَّ العاقلَ أشدُّ فَزَعًا من غيرِ العاقلِ؛ لِأَنَّ العاقلَ يَفْزَع للحاضرِ والمستقبَل، وغير العاقل للحاضرِ فقطْ ولا يُهِمُّه المستقبَل، ولهَذَا لو سَمِعْتَ صَدمةَ لِصّ فِي البابِ قويَّة وعندك صَبِيّ، كلكم يَفْزَع من هَذِهِ الصدمةِ القويَّة، لكِن الصبي إذا انتهتِ الصدمةُ وَقَفَ ولم يكن فِي قلبه أيّ شَيْء أبدًا، وأنت تفكِّر فِي المستقبل وتخاف، فلهَذَا غلبَ العقلاءُ فِي قولِه:(مَن) فِي جانبِ الفَزَعِ؛ لِأَنَّ فزعَهم أعظمُ، يَكُون للحاضرِ والمستقبلِ.
وهنا قَالَ: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} وَفِي آيَةِ الزُّمَر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]،
(1)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث رقم (770)، عن عائشة أم المُؤْمِنيِنَ رضي الله عنها.
فهل هما نفختانِ، فإذا جمعتَ إِلَى الثَّالثةِ {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} صارت ثلاثَ نَفَخَاتٍ، أو أن نفخة الفَزَع والصَّعْق واحدة، وأن النَّاس يَفْزَعون أوَّلًا ثُمَّ يموتون؛ أي: فزَع يليه الموت؛ لِأَنَّ الظَّاهرَ - واللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إذا نُفِخَ يَكُونُ صوتٌ عظيم مُمْتَدّ، فيَفزعون ثُمَّ يَموتون، مثل الصَّيْحَات الَّتِي يُصاح بالمجرمينَ كالتي أَخَذَتْ ثمودَ؟
هَذِهِ المسألةُ اختلفَ فيها أهلُ العلمِ، فمنهم مَن يَرَى أنَّ النَّفَخَات ثلاثٌ: نفخةٌ يَفزع النَّاسُ وَيتَأَهَّبُون وَيكُونون عَلَى حَذَر، ثُمَّ أُخرى للصَّعْق فيموتون، ثُمَّ ثالثة للبَعْث.
وَقِيلَ: إنّ نَفْخة الفَزَع بعدَ نَفْخَةِ الصَّعْق والبَعْث، وإنهم يَصْعَقُون، قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]، ثُمَّ يُنفخ ثالثة فيَفْزَعون إِلَى الداعي، لكِن هَذَا القَوْل ضعيفٌ، فالمشهورُ القَوْلانِ السابقانِ.
وهل هِيَ ثلاثٌ: فَزَع ثُمَّ نفخةٌ أُخْرَى فيها الصَّعْق ثُمَّ نفخةٌ ثالثةٌ فيها البعثُ، أو هما نفختانِ: نفخةٌ فيها فَزَع وصَعْقٌ، ونفخةٌ فيها البَعْث؟
الأخيرُ هُوَ الأقربُ؛ لِأَنَّ حديثَ أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه يَدُلّ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ ذكر النفختينِ وذكرَ أن بينهما أربعينَ، قيلَ له: يوم أو شهر أو سَنة؟ قَالَ: أَبَيْتُ
(1)
. ولم يُبَيِّنْ؛ لِأَنَّهُ لا يَعْلَم؛ لِأَنَّهُ رضي الله عنه سَمِعَ منَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أربعينَ، ولا يعلمُ هل هِيَ أربعونَ يومًا أو سنة أو شهرًا.
وبعد هَذِهِ النفخةِ الَّتِي هِيَ الفَزَع والصَّعْق يُرْسِل اللهُ تبارك وتعالى مَطَرًا كأَنَّه الطَّلّ، والطَّلُّ معروفٌ، وهُوَ النَّدَى الَّذِي يَنْزِل منَ السَّمَاءِ عندَ الصَّحْو فِي الليلِ،
(1)
رواه البخاري، كتاب التفسير، باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} ، حديث رقم (4651)؛ ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين، حديث رقم (2955).
أو أَنَّهُ الرذاذ الخفيفُ جدًّا، قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، ثُمَّ تنبُت الأجسامُ بإذنِ اللهِ من هَذَا الماء، تنبت وهي فِي القبورِ، فإذا تكاملَ نَباتها نُفِخَ فِي الصُّور النفخة الثَّانِيَة، وحِينَئذٍ تَخرُجُ الأرواحُ وتعودُ إِلَى أجسامها، فيخرجُ النَّاسُ مِنَ القُبُور، وَلَيْسَ كما يَتَوَهَّم بعضُ النَّاس أَنَّهُم يَنْبُتُون عَلَى قُبُورهم، بل هم يَنْبُتُون فِي القبورِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44].
فمعنى ذلك أَنَّهُم يُخْرَجُون منَ القبورِ وهم مُسْرِعون، فهم أحياء، وهَذَا بعدَ تكامُلِ أجسادهمْ فِي القبورِ، ثُمَّ إن هَذَا أيضًا مُقْتَضَى القِيَاس فِي بَدْءِ الخَلْق؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتكامَل خَلْقُه فِي بَطْنِ أُمِّهِ ويَخْرُج حيًّا، والْأَرْض للإِنْسَانِ مثل بَطْن الأُمّ له، واللهُ سبحانه وتعالى حَكِيم، قَالَ تَعَالَى:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، أفعاله دائمًا تكونُ متناسبةً، لَيْسَ فيها تناقُضٌ ولا تنافُرٌ.
قوله: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} حَتَّى الملائكة يَفْزَعون، وكذلك يَصْعَقُون:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68].
قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} يَقُول المُفَسِّر: أخافُوا الخوفَ المُفْضِيَ إِلَى الموتِ؛ كما فِي آيَةٍ أُخْرَى {فَصَعِقَ} ]، فعلى هَذَا يَكُون رأيُ المُفَسِّر أنهما نَفختانِ؛ الأُولَى تَتَضَمَّن الفزعَ والصَّعْق.
ثم قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [والتعبيرُ فِيهِ بالماضي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ]، ف (فَزِعَ) فِعلٌ ماضٍ، و (يُنْفَخ) مضارعٌ، وَلَيْسَ الكَلام فِي (يُنْفَخ)؛ لِأَنَّ المضارعَ للمستقبلِ، لكِن قوله:{فَفَزِعَ} ولم يقلْ: (فيَفْزَع).
يَقُول المُفَسِّر: [لِتَحَقُّق وقوعه]، والشَّيْء المتحقّق الوقوعِ كالماضي، ولهَذَا قَالَ الله تَعَالَى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فكيف أَتَى واللهُ تَعَالَى يَقُول:
فلا تَستعجلوه؛ إذنْ ما أَتَى ما دام أَنَّهُ فلا تَسْتَعْجِلُوه، فمعناه أَنَّهُ لم يأتِ، فعبَّر ب (أتى) لِتَحَقُّقِ الوقوعِ ولقُرْبِهِ أيضًا، كَأنه لِقُرْبِهِ شَيْء حَصَل، فهنا ذكر {وَيَوْمَ يُنْفَخُ} بلفظِ المضارعِ لِأَنَّهُ لم يكنْ، وذكر الفزعَ الَّذِي يَتَّصِف به النَّاس بلفظِ الماضي كأنه شيءٌ قد وَقَع بهم.
قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} عَيَّن المُفَسِّر هَذَا المُبْهَم فقال: [أي جِبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَك المَوْت]، هَؤُلَاءِ أربعةٌ، [وعنِ ابنِ عبَّاس: هُمُ الشُّهَدَاء
(1)
؛ إذ هم {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]]، فيَكُون المستثنَى خمسة، هَكَذَا قَالَ المُفَسِّر، وهَذَا يَحتاجُ إِلَى توقيفٍ وَنَصٍّ، إذا كَانَ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام لا يَدْرِي، فمَنِ الَّذِي يَدْرِي! أخبرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنه:"أَوَّلُ مَنْ يُفِيقُ، فَيَجِدُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام آخِذًا بِقَوَائِمِ العَرْش أَوْ بقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِهِ، يَقُولُ: فَلَا أَدْرِي أَجُوزِيَ بصَعْقَةِ الصُّورِ أَمْ هُوَ أَفَاقَ قَبْلِي"
(2)
.
إِذَنِ: الرَّسُول لا يَدْرِي مَنِ المُسْتَثْنَى؛ لِأَنَّهُ لم يعلم أنْ يَكُونَ موسى مِمَّنِ استثنى اللهُ، ولو كَانَ عنده علمٌ بهم لعَلِمَ مثلًا أن موسى لَيْسَ منهم أو أنَّهُ مِنهم، فإذا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلمْ فغيرُه من باب أَوْلَى.
ولهَذَا الصَّوابُ أَنَّهُ يجبُ علينا أنْ نُبْهِمَ ما أبهمهُ اللهُ، إِلَّا إذا جَاءنا عنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فإنَّ الله يقولُ:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27].
(1)
تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 268).
(2)
رواه البخاري، كتاب الديات، باب إذا لطم المسلم يهوديًّا عند الغضب، حديث رقم (6519)؛ ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (2373)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وَأَمَّا إذا ما جاءنا عن المعصومِ شيءٌ مِن هَذَا فالواجبُ علينا أنْ نُبْهِمَ ما أَبْهَمَهُ اللهُ، والأَمْرُ فِي هَذِهِ المسائلِ مِنَ الخُطُورة بمكانٍ، حَتَّى آدم، فلا نَستثني أحدًا أبدًا، إِلَّا مَن شاء الله.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَن الَّذِي شاء الله؟
نَقُول: اللهُ أَعْلَمُ.
فنَفْهَم أنَّ الله استثنى أحدًا قد يَكُونُ واحدًا وقد يَكُون ألفًا وقد يَكُون ألفينِ وقد يَكُون عَشَرَةَ آلافٍ، فلا ندري، إِلَّا مَن شاء الله.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إسرافيل ألا يَتَعَيَّن آنهُ مِمَّنِ استُثْنِيَ لِأَنَّهُ هُوَ النافِخُ؟
فالجواب: لا، رُبَّما يَنْفُخُ وَيصْعَقُ بمجرَّد النفخ، فلا نَدري، المهمُّ أَنَّهُ لا يوجد شَيْء يمكن أنْ نُعَيِّنَه إِلَّا بدليلٍ عن معصومٍ، وهَذَا يَجِب علينا فِي كُلّ شيءٍ أَبْهَمَهُ الله، فكلُّ شيءٍ أبهمه الله لا يُمْكِن أنْ نُعَيِّنَهُ إِلَّا بدليلٍ عن الرَّسُول عليه الصلاة والسلام.
وخبرُ ابنِ عَبَّاس - اللهُ أَعْلَمُ - إنْ صَحَّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَدْ يَقُوُل قَائِلٌ: ابنُ عبّاسٍ مِمَّن عُرِفَ بالأخذِ عن الإسرائيلياتِ، فيُخْشَى هَذَا أن يَكُونَ مِمَّا أخذه عن بني إسرائيلَ؟
فنَقُول: يَبْعُدُ أنْ يُفَسِّر الْقُرْآن بما أَخَذَهُ عن بني إِسرائيلَ؛ لِأَنَّ الصحابةَ عندهم مِنَ الوَرَعِ ما يَمْنَعُهم من ذلكَ، فإذا جَاءنا - وهَذِهِ نُكْتَة يَجِب أنْ نَتَفَطَّن لها - إذا جاءنا عن ابنِ عبَّاس ونحوه مِمَّن عُرِفَ بالأخذِ عن الإسرائيليَّات تفسيرٌ للقرآنِ بهَذَا فَإِنَّهُ قد يُمَانع فِي كونه مردودًا؛ لِأَنَّ ابن عباس لا يمكن أن يفسر كلام الله بما أخذه عن بني إسرائيلَ، وقد قَالَ النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا حَدَّثَكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ
وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ"
(1)
؛ لِأَنَّ هَذَا يَقتضي أَنَّنَا إذا فَسَّرنا الْقُرْآن بما قالوا فقد صَدَّقْنَاهم، وهَذَا بعيدٌ مِنَ الصحابةِ أن يفعلوه، فالْإِنْسَان يَتَوَقَّف فيما إذا جاء تفسيرُ الآيَةِ عنِ ابنِ عبَّاس وغيره من الصحابةِ الَّذِينَ أخذوا عن بني إسرائيلَ وَيتَوَقَّف فِي رَدِّه، وذلك لهَذَا الوجهِ الَّذِي ذَكَرنا، وإنْ ذَكَروا شيئًا لا يتعلَّق بالتفسير كالقَصَص الَّتِي ما أشار إليها الْقُرْآن فهَذَا يُمْكِن أن نأخذَه، لكِن قِصَّة مُسْتَقِلَّة ما أشار إليها الْقُرْآن، هَذَا يَكُون عَلَى بابِه، لكِن إذا فَسَّر شيئًا فِي قِصَّة فِي الْقُرْآن فهَذَا نأخذه، أَمَّا إذا جَعَلُوه تفسيرًا لشيءٍ معيَّن منَ الْقُرْآن كما فِي هَذِهِ الآيَةِ فالْإِنْسَان يَتَوَقَّف.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَكُلٌّ} تَنْوِينه عِوَض عن المضافِ إليه؛ أي: وكلهم بعدَ إحيائهم يومَ القيامةِ {أَتَوْهُ}]، أي: أتوا الله عز وجل {دَاخِرِينَ} .
و(كلٌّ) تنوينُه عِوَض عنِ المضافِ إليه، والتَّقْدير:(وكُلُّهم) إذن التنوين عِوَض عنِ اسمٍ؛ عن كَلِمَةٍ، وتنوينُ العِوَض يَقُولُونَ: إنَّهُ ثلاثةُ أقسامٍ: عِوَض عن جملةٍ، وعِوَض عن كلمةٍ، وعِوَض عن حَرْفٍ، مثل قوله تَعَالَى:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة: 83، 84]، نَقُول هنا: التنوين عِوَض عن جملةٍ؛ يَعْنِي: حينَ إذْ بَلَغَتْ، وأيضًا قوله تَعَالَى:{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4]، (ويومئذٍ) عِوَض عن جملةٍ، وهي: ويوم إذ يُغْلَب الرومُ.
والعِوَض عن اسمٍ مثل هَذِهِ الآيَة، فتنوين (كل) و (بعض) عِوَض عن اسمٍ،
(1)
رواه أبو داود، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، حديث رقم (3644)، وأحمد (4/ 136)(17264)، عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه.
مثل قوله: {وَكُلٌّ} أي: (وكلهم)، وكما فِي قوله تَعَالَى:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]؛ أي: وإنَّ كلهم، وقوله:{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111]؛ أي: وإنَّ كلهم.
والعِوَض عن الحرفِ هُوَ الَّذِي يَلْحَق مثل: جَوَارٍ وغَوَاشٍ، فأصلها: جواري وغواشي، فحُذِفَتِ الياءُ وعوّض عنها التنوين.
وفي الحقيقة مسألة التعويض عن الحرفِ لَيْسَ لها قيمةٌ، لكِن الَّذِي يمكن أن يَتَرَتَّب عليه المَعْنى أو فَهْم المَعْنى هُوَ العوض عن جملةٍ أو اسمٍ.
قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} ؛ أي: أَتَوُا اللهَ جَلَّ وَعَلَا، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[بصيغةِ الفِعْل واسمِ الفاعلِ]، اسمُ الفاعلِ عَلَى وزنِ فاعلٍ (آتٍ)، وإذا لحَقَتْه الواوُ تقول:"وَكُلُّ آتُوهُ"، والفِعْل:{وَكُلٌّ أَتَوْهُ}
(1)
.
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{دَاخِرِينَ} صَاغِرِينَ]، إعرابها حالٌ، وهي حالٌ مِن مَفْعُول (أَتَوْهُ)، يعني من الهاءِ، فإذا كَانَ فعلًا فواضحٌ أَنَّهَا حال، لكِن (كل آتُوهُ دَاخِرينَ) كيف تكون حالًا؟ وأين العاملُ فيها؟ اسمُ الفاعلِ؛ لِأَنَّ اسمَ الفاعلِ يعملُ عملَ فعلِهِ.
وقوله: {دَاخِرِينَ} قال المُفَسِّر: [صَاغِرِينَ]، الله أكبرُ! فِي ذلكَ الوقتِ حَتَّى الرُّؤَسَاء وحتَّى الملوكُ وحتَّى الأُمَرَاء وحتى الأسياد كلُّهم واحدٌ، كلُّهم يَأْتُونَ فِي حالِ الصَّغار، فَأَعْظَمُ مَلِكٍ فِي الدُّنيا وأعظمُ رئيسٍ فِي الدُّنْيا الَّذِي يَمشي وبين يديه وخلفه وعن يمينه وعن شِماله خَلائِق البَشَرِ؛ يأتي يومَ القيامةِ صاغرًا، ولكِن هَذَا
(1)
الحجة في القراءات السبع (ص: 275).